ثقافة وفنون

شمس هنري ماتيس … ودردشات مخفية في دُرج بيير كورتيون

شمس هنري ماتيس … ودردشات مخفية في دُرج بيير كورتيون

إسماعيل كرك

يبدأ الخريف على الريفييرا الفرنسية فيرسم هنري ماتيس على اللون الرمادي المحلي، بألوان دافئة ويفتح نوافذ حزينة على المتنزهات والخلجان والحدائق المتلألئة، يلتفت التقويم إلى الوراء فيستحضر مقولة بابلو بيكاسو عن الفرنسي البارع: «لدى ماتيس شمس في معدته». في الحقيقة، هذه أكثر من مجرد عبارة وِدّية تؤكدها مؤسسة بايلر في بازل، حيث اختتمت المؤسسة السويسرية عام معارضها بجمهور مضمون، وعرضَتْ أول معرض استعادي للفنان الفرنسي في سويسرا منذ عشرين عاماً، وقتها سجل العرض الشامل الأخير في المبنى ذاته أكثر من 170 ألف دخول.
في الفترة التي تمتد بين 22 سبتمبر/ أيلول 2024 إلى 26 يناير/ كانون الثاني 2025، تقدم مؤسسة بايلر أول معرض استعادي مُخصَّص لهنري ماتيس في سويسرا والعالم الناطق باللغة الألمانية منذ ما يقرب من عقدين من الزمن. ينفرد المعرض بالأعمال الأولى التي أنجزها حوالي عام 1900، مروراً باللوحات الثورية للمدرسة الوحشية والأعمال التجريبية في العقد الأول من القرن العشرين، واللوحات الحسية لفترة نيس وثلاثينيات القرن العشرين، لتبلغ ذروتها أخيراً في لوحات الغواش الأسطورية أواخر القرن العشرين، بالإضافة إلى أعمال من الأربعينيات والخمسينيات من القرن ذاته. يعتمد المعرض كنقطة بداية القصيدة شارل بودلير الشهيرة «دعوة إلى الرحلة»، وهو بالتالي يدعونا للقيام برحلة عبر أعمال ماتيس، التي لعب فيها السفر دوراً مهماً من خلال استكشافاته لبلدان مثل إيطاليا وإسبانيا وروسيا والمغرب والولايات المتحدة وتاهيتي، حيث وجد الفنان إلهاماً متجدداً في الطبيعة وفن الثقافات الأخرى.

في مساحة الوسائط المتعددة المصممة خصيصاً للمعرض، يتم عرض رحلات ماتيس وإحيائها من خلال الصور التاريخية المتحركة، ولوحات الحائط. كما تقدم الصور والأفلام أيضاً لمحات من ورشات العمل الخاصة به وبعمليته الإبداعية.
في الحقيقة ينبغي لأي شخص يكتب عن ماتيس أن لا يخاف من التفضيل، فلولا نظاراته الملونة وثوراته الشكلانية، لكان تاريخ الفن قد اتخذ مساراً مختلفاً، ويقال إنّ الفنان الروسي الأمريكي مارك روتكو، قام برحلة حج يومية إلى متحف الفن الحديث (MoMA) في نيويورك ولعدة أشهر لدراسة «Studio in Red» «المرسم الأحمر» التحفة الفنية الشهيرة التي تعود إلى عام 1911، والتي تعتبر واحدة من الأعمال الأيقونية لمتحف الفن الحديث، منذ استحواذه عليها في عام 1949. تصور اللوحة القماشية الكبيرة استوديو الفنان المليء بلوحاته ومنحوتاته وأثاثه وأغراضه الزخرفية، كما يضيف المعرض اللمسات الخاصة التي ترجم من خلالها التشيكي الأمريكي آندي وارهول لوحة ماتيس «السيدة ذات الرداء الأزرق» التي أنجزها ماتيس سنة 1937 إلى رواية حداثية بشكل مماثل تقريباً لإحدى مطبوعاته على الشاشة.
قد يكون ماتيس في العرض «التنقيطي» الذي تستضيفه بازل، والذي تحدَّث عنه بيكاسو، ليس موجوداً أصلاً، بل لا بد من القول إن نوعية الأعمال المعروضة فرضت على الحضور، ماتيس المتلألئ في المعرض الذي أشرف عليه رافاييل بوفييه، والذي يعكس كيف طور الفنان أسلوبه مراراً وتكراراً، وكاد أن يعيد اختراعه بقصاصات من الورق العضوي قبل سنوات قليلة من وفاته عام 1954. بدأ هذا المسار من خلال الرحلات التي نقلت هنري ماتيس من شمال فرنسا إلى البحر المتوسط، إلى موسكو والمغرب.

فن التوازن ومذكرات رسام

في سنواته الأخيرة، أعاد ماتيس اختراع نفسه بالكامل بقصاصاته الورقية فعلى عكس الرسامين الآخرين، لم يرسم ماتيس أعماله أثناء التنقل، بل كان مكان عمله هو الاستوديو الخاص به في ضاحية «إيسي ليه مولينو» في باريس، مستعيناً بذاكرة انطباعية وصدى مشاهداته ليجعل من لوحاته نافذةً رمزية للعالم. تلك الهدايا التذكارية، التي تم رسم بعضها بعد خمسة عشر عاما كانت مبنيةً على تحقيق حلمه بالوصول إلى «فن التوازن»، كما كتب في كتابه «مذكرات رسام» عام 1908، قبل ست سنوات من اجتياح الحرب العالمية الأولى لأوروبا، وكان يريد الوصول إلى فنٍّ يناسب الجميع، فن يعمل كمُسكِّن، يريح الدماغ، ويشبه الكرسي الجيد الذي يمكن للمرء أن يتعافى فيه من المجهود البدني، حيث صرّحتْ مؤسسة بايلر لليومية السويسرية «بازلر تسايتونج» أن قصاصات ماتيس، كانت بمثابة حجر زاوية مهم لمتحفهم، خصوصاً بعد أن اجتمع مالكو مؤسسة بايلر بجامعة أعمال ماتيس ابنته مارغريت دوثويت: «لقد أحببنا تلك الرسوم حقاً. وكانت غير مكلفة أيضاً، لذلك اشترينا جزءاً منها وحصلنا على مكاسب جيدة جداً من إعادة بيع قصاصات الورق المختارة لاحقاً. أحد عشر من أكثر من سبعين عملاً ولوحات ومنحوتات معروضة حالياً، تأتي من مجموعة مؤسستنا الخاصة، وهذا ليس مفاجئاً، إذ يمكن للزوار القيام بجولة في المعرض «مبنى رينزو بيانو» المفتوح».

على الرغم من أن هنري ماتيس يعتبر الشخصية المركزية للمدرسة الوحشية التي لم تدم طويلاً، إلا أنه كان وحيداً في تجريب أساليب مختلفة في بحثه طوال حياته، عن التبسيط الزخرفي للشكل، والتوليف المثالي للخط واللون، فبعد مرحلته الوحشية، استوحى الإلهام من التكعيبية، أو ما يسمى بالفن البدائي، ودمج في أعماله الانطباعات التي جمعها أثناء رحلاته إلى الشرق، ولم تقتصر براعته على القماش المسطح فحسب، لأنه أنشأ نوافذ زجاجية ملونة وجداريات ومجموعات مسرحية وأزياء ورسوماً توضيحية للكتب ولمنحوتات مصنوعة من البرونز والسيراميك أيضاً.
في عام 1917، انتقل ماتيس إلى «سيميز» إحدى ضواحي مدينة نيس على الريفييرا الفرنسية، حيث يُظهر عمله خلال ذلك العقد استرخاءً وتخفيفاً في نهجه. هذه «العودة إلى النظام» هي سمة من سمات الكثير من الفنون في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، ويمكن مقارنتها بالكلاسيكية الجديدة لبيكاسو وسترافينسكي، والعودة إلى التقليدية، كما تعتبر لوحاته المستشرقة من سمات تلك الفترة. على الرغم من شعبيته، إلا أن بعض النقاد المعاصرين وجدوا هذا العمل سطحياً وزخرفياً. في أواخر العشرينيات من القرن الماضي، انخرط ماتيس مرةً أخرى في تعاون نشيط مع فنانين آخرين. لقد عمل ليس فقط مع الفرنسيين والهولنديين والألمان والإسبان، ولكن مع عدد قليل من الأمريكيين والمهاجرين الجدد إلى الأمريكتين أيضاً. بعد عام 1930 ظهرت قوة جديدة وتبسيط أكثر جرأة في عمله فأقنعه جامع الأعمال الفنية الأمريكي ألبرت سي بارنز بإنتاج لوحة جدارية كبيرة لمؤسسة بارنز، حملت عنوان «الرقصة الثانية The Dance II»، التي اكتملت في عام 1932.
وفقاً لديفيد روكفلر، كان العمل الأخير لماتيس هو تصميم نافذة من الزجاج الملون التي تم تركيبها في كنيسة الاتحاد في بوكانتيكو هيلز بالقرب من مُلكية روكفلر شمال مدينة نيويورك. وقتها كتب روكفلر: «لقد كان هذا هو إبداعه الفني الأخير؛ فقد كان المجسم على جدار غرفة نومه عندما توفي، إلا أن الانتهاء من التثبيت تم في عام 1956.

دردشات مخفية في دُرج بيير كورتيون
في ربيع عام 1941، التقى هنري ماتيس والناقد الأدبي السويسري بيير كورتيون لإجراء عدة محادثات وهو ما سماه بيير كورتيون- «دردشات»، حيث ادعى أن ماتيس أطلق عليها تلك التسمية. وقتها كان الفنان الفرنسي يتعافى من عملية جراحية خطيرة، عندما كانت فرنسا محتلة بالفعل من قبل النازيين، ولذلك كان من المهم بالنسبة لماتيس ألا ينظر إلى الوراء فقط، بل إلى حياته الخاصة، بانفتاح كبير على طفولته، وسنوات التدريب المهني في استوديو الفنان الرمزي الفرنسي غوستاف مورو و له عدد لا يحصى من روايات الأسفار؛ كما أنه مهتم بالدفاع عن التراث الثقافي الفرنسي. إنه يعطي نظرة شاملة عن حياة الطليعة في النصف الأول من القرن العشرين، حيث يتحدث ماتيس عن رفاقه الرسامين، الكُتّاب، الموسيقيين والسياسيين، عن تجاربه مع هواة الجمع وعن الشهرة، وبالطبع مرة أخرى عن رؤيته بالرسم. ومع ذلك، فإن المخطوطة النهائية لا تصبح كتاباً كما هو مخطط لها؛ بل تختفي في دُرج بيير كورثيون ـ إلى أن تم اكتشافها مؤخراً في ممتلكاته بعدما يقرب من 70 عاماً، ما اعتُبِرَ اكتشافاً استثنائياً ووثيقةً مثيرةً للإعجاب عن أحد أهم الفنانين في القرن العشرين والذي قال «إذا تمت كتابة قصتي بصدق من البداية إلى النهاية، فسوف تدهش الجميع».

كاتب سوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب