تكرار الحركة عند المخرجة بينا باوش: فضاء درامي لاكتشاف الطبيعة الدوريّة للزمن

تكرار الحركة عند المخرجة بينا باوش: فضاء درامي لاكتشاف الطبيعة الدوريّة للزمن
مروان ياسين الدليمي
من وجهة نظر معظم المغامرين في المسرح المعاصر تعد المخرجة الألمانية بينا باوش، من أهم الشخصيات التي أثرت في تاريخ الرقص الدرامي الحديث، بما اجترحته من مزيج فريد يتداخل فيه الرقص مع المسرح بحرارة عالية، وعبر عروض أعادت تعريف مفهوم الأداء الفني، فأعمالها تحركت في منطقة جمالية جمعت الجسد بالروح في لحظة من جيشان المشاعر بطرق مبتكرة.
وقد أنتجت في حياتها 55 عرضا مسرحيا معتمدا على الرقص بشكل أساسي، ولا يزال العديد منها يعرض على المستوى الدولي من قبل فرقتها. وباوش مخرجة مسرحية استثنائية، أعادت تعريف مفهوم الرقص في الدراما المسرحية باكتشاف حساسيته التعبيرية. وكانت تسعى دائما في مجمل ما قدمته من عروض مسرحية إلى ابتكار لغة جديدة عبر الجسد للتعبير عن المشاعر الإنسانية ومستوحية أعمالها من تجارب الحياة اليومية. ودائما ما كانت تسأل راقصيها أسئلة شخصية تتعلق بحياتهم ومشاعرهم، ثم تترجم إجاباتهم إلى حركات على خشبة المسرح. والنتيجة أن عروضها تتمتع بصدق عاطفي، وتأثير إنساني عميق، ويمكن القول بأنها استطاعت أن تخلق حوارًا ثريا بين الجسد والروح، وبين العرض والمتلقي، وهذا ما جعلها من أبرز الشخصيات في تاريخ المسرح الحديث، والعرض لم يكن عندها مقتصرًا على الجسد فقط، بل إن الديكور والفضاء المسرحي أصبح لهما دور كبير في تعزيز تشكيل صورة المعنى. وفي هذا السياق من الاشتغال والتوظيف استخدمت أحيانًا; الماء، والرمل، والجدران والنباتات، باعتبارها عناصر أساسية من المشهد المسرحي، ما أضفي على عروضها بعدًا بصريًا وجماليًا. وتجربة باوش أحدثت ثورة في مفهوم الأداء المسرحي، ولعل تكرار الحركة من أبرز العناصر التي استخدمتها في أعمالها، إذ لم يكن التكرار لديها مجرد تكرار آلي، بل تحول إلى لغة درامية لإيصال المشاعر والأفكار.
وسيلة استكشاف
في مسرح بينا باوش عندما يتم تكرار الحركة مرة بعد أخرى، يصبح المتلقي أكثر وعيًا بالمشاعر التي تحملها، حينها يصبح التكرار وسيطا لإثارة الفضول، ثم يتطور ليصبح تجربة عاطفية مكثفة. وتقنية لخلق التوتر في السياق الدرامي، بالتالي انتقال تياره من الخشبة إلى الصالة، فحركة بسيطة مثل دوران مدّ اليد إذا ما تكررت بشكل متزايد في السرعة أو القوة، ستعمل على تصاعد الصراع الداخلي أو التوتر النفسي، وتكرار الحركة في مفهومها ليس مجرد تكرار ميكانيكي، إنما رحلة للبحث عن المعنى، ففي كل مرة تتكرر فيها الحركة تولد لحظة جمالية تحتفظ في داخلها بفرصة جديدة لاكتشاف معنى جديد أو للتعبير عن المشاعر من زاوية مختلفة، فهي تسعى دائما في عروضها إلى أن يشعر الجمهور بأن كل تكرار لابد من أن يحمل مستوى أعمق من التعبير ولابد لها من أن تدفع المتلقي إلى الاحساس به ومحاولة اكتشافه.
التكرار والزمن
في إطار البعد الفلسفي فإن التكرار في أعمالها يرمز إلى الزمن ودورته في الحياة، فالحركات تتكرر كما تتكرر الأحداث في الحياة، وهذا يعكس الفكرة الفلسفية التي تشير إلى أن الحياة مليئة بالأنماط المتكررة التي تساهم في تشكيل التجربة الإنسانية. والفكرة تبدو جلية في أعمالها، حيث تتكرر المشاعر مثل الحب والفقدان والعزلة، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من التجربة الإنسانية المتكررة. ومن خلال معاينة عروضها المتوفرة في موقع اليوتيوب، نستشف منها بأن الرقص بالنسبة لها أكثر من مجرد حركات رياضية أو استعراضات جمالية؛ بل تحول الفعل الجسدي عبر الرقص إلى أداة لاستكشاف المشاعر وتجسيد للقضايا الوجودية. ويمتلك مساحة مفتوحة لا حدود لها للتعبير عن أعماق النفس البشرية بطريقة تتجاوز قدرة قاموسية الكلمات، ويتمحور هدفها الأساسي من وراء الارتكاز على الرقص ; الكشف عن الحقيقة الإنسانية الكامنة خلف كل حركة. وبهذا الخصوص تقول: «أنا لا أبحث عن كيفية تحرك الناس، بل عن الأسباب التي تجعلهم يتحركون.»
نماذج من أعمالها
من الأمثلة على التكرار في أعمالها أنها في مسرحية «كافيه مولر» استثمرته لإبراز الشعور بالعزلة والتوق إلى التواصل، حيث تكررت الحركات بطريقة رتيبة، لتعكس من خلالها الوحدة والانفصال العاطفي، بالشكل الذي يجعل الجمهور يشعر بثقل الوحدة التي تعيشها الشخصيات. وفي عرضها الآخر المعنون «ربيع مقدس» يظهر التكرار في الحركات القوية والمتكررة التي يقوم بها الراقصون على الأرض مدى العنف والطقوسية والطبيعة الدورية للحياة والموت. وفي عرض آخر بعنوان «كونتاكتوف» وظفت التكرار في الحركة لاستكشاف العلاقات بين الرجال والنساء ولكشف حقيقة التوتر والصراع في علاقاتهم.
وتحتفظ تقنية التكرار في تجاربها بقدرتها على تعميق التأثير العاطفي على المتلقين، ووضعهم في حالة مواجهة مع مشاعرهم بشكل متواصل، فيمكن للتكرار في ما تذهب إليه من قصديات أن يخلق شعورًا عميقا بالقلق أو الترقب، لأنه يدفع بالمتلقين إلى انتظار اللحظة التي يتوقف فيها التكرار أو يتغير، بالتالي فإن ذلك سيدفعه إلى التفكير وبعمق في المعنى الكامن وراء الحركات، ويحفزه على تأمل أعمق في المشاعر الإنسانية.
ومن خلال استخدامها للتكرار في مسرحها استطاعت أن تثبت بأن الحركة ليست مجرد تعبير جسدي، بل يمكن أن تكون أداة فلسفية وتأملية، ودعوة لاستكشاف أعمق للإنسانية عندما يتحول الجسد إلى وسيلة لتعرية التركيبة المعقدة للمشاعر والمعاني التي تشي بها، وبفضل قدرة باوش على كشف ما يكتمه التكرار في حركة الجسد الإنساني من دلالات، أصبحت واحدة من أبرز مبدعي الرقص المعاصر.
الأسئلة والاستجابة
وحول طريقتها في العمل توضح باوش في مدوناتها بأنها غالبًا ما تطرح أسئلة على المؤدين وتستخدم إجاباتهم في تكوين وتشكيل الأفكار على هيئة كتل تؤثث بها الفضاء المسرحي، ثم تطلب منهم العثور على مساحة في الغرفة، وتجعلهم يؤدون المشاعر باستخدام أجسادهم. بعدها تطلب من الجميع ممارسة حركاتهم حتى يتمكنوا من تكرارها، ثم ترشدهم إلى وضعها في ترتيب معين، وأدائها بشكل متسلسل. وتؤكد بهذا الخصوص على أنها لا تبحث عن معان صريحة في ما يقدمه الراقصون، بل تحاول دمج عناصر الإنتاج معًا لإثارة استجابة عاطفية، فهي تسمح للمؤدين بتكرار تسلسلاتهم على موسيقى متناقضة وتناقش كيف يغير هذا المعنى. وأخيرًا تضع الطلاب في علاقات ثنائية، وتمنحهم سردا قصيرا أو قصيدة أو كلمات أغنية، وتطلب منهم تجربة القراءة أثناء أداء تسلسلاتهم ثم التفكير في كيفية تطوير القطعة، وهذا يعني أنها تعتمد التفكير الجماعي مع طلابها أثناء التمارين التمهيدية لتأسيس العرض، فالكثير من تصاميم لوحاتها تمت من خلال الاستجابة لتجارب راقصيها، والعمل بهذا الأسلوب من وجهة نظرها يساهم في سرعة إنتاج الحركة من قبل جميع المشاركين، انطلاقا من روتينهم اليومي. فمن أساسيات أجندتها أنها كانت تطلب منهم العثور على مساحة محددة من روتينهم اليومي الصباحي وهم متجهون إلى المدرسة، أن يعملوا على تقليدها، وبمجرد أن يحصل الجميع على شيء ما، تدفعهم إلى الركض لمدة 60 ثانية، حتى يحصل الجميع على ما يمكن تكراره من فعل. بعد ذلك، تطلب منهم عزل ثلاث حركات وتسميتها، على سبيل المثال «إغلاق الباب الأمامي» ثم تدعو الجميع إلى ممارسة الحركات الثلاث، وإنشاء نسخة صغيرة، ونسخة عادية، ونسخة كبيرة من كل منها، بحيث يكون لديهم تسع حركات في المجموع. بعدها تبتغي منهم أن يكتبوا على ورقة لاصقة اسما لكل حركة على تسع ملاحظات، بحيث يكون لديهم معًا 18 حركة. وبمجرد إتقانهم لها، يمكنهم تصميم رقصة عن طريق ترتيب ملاحظاتهم المكتوبة، وأخيرًا، تحرضهم على تجربة التسلسلات بناء على أنغام الموسيقى. ومن أساليبها في العمل أنها تعمد إلى استفزاز راقصيها للحركة، من خلال مطالبتهم بالتعمق في تجاربهم السابقة، وذلك باستخدام مطالبات نفسية مثل «أرني في الحركة ذكرى المرة الأولى التي ضحكت فيها بشدة» أو «كيف تتصرف عندما تفقد شيئًا؟» ثم تحوّل استجاباتهم الراقصة إلى تصميم رقصات، ومن خلال رفض تقنيات الرقص التقليدية كانت تعمل على التقاط تعقيدات الذات الإنسانية لصالح نهجها الوجودي في سرد القصص.
سيرتها
ولدت باوش في 27 تموز/يوليو 1940 في مدينة سولنغن بألمانيا. ونشأت في بيئة متواضعة، حيث كان والداها يديران مقهى صغيرًا، وقد أظهرت منذ طفولتها اهتمامًا بالرقص. وفي العام 1955، التحقت بمدرسة فولكفانغ للفنون المسرحية في إيسن بألمانيا، وهي مدرسة كانت معروفة بالجمع بين الرقص والمسرح، وهو ما شكّل الأساس لتوجهها الفني. وهناك درست تحت إشراف الراقصة الشهيرة كورت يوس، التي تعد أحد رواد التعبير الحركي الحديث. وفي العام 1959 حصلت على منحة للدراسة في مدرسة جوليارد بنيويورك، إحدى أبرز مدارس الرقص في العالم. وخلال فترة دراستها هناك، تأثرت بأساليب الرقص الحديثة في أمريكا، وفي أوائل الستينيات عادت إلى ألمانيا وبدأت العمل كراقصة محترفة، لكنها سرعان ما قررت التوجه إلى الإخراج وتصميم الرقصات، لمّا رأت أن لديها رؤية أوسع وأعمق لتطوير فن الرقص. وفي عام 1973 تولت إدارة فرقة فوبرتال للرقص، وهنا بدأت مسيرتها الحقيقية كمبدعة وصاحبة رؤية فريدة. وفي 30 حزيران/يونيو 2009 توفيت بعد صراع قصير مع المرض، تاركة خلفها إرثًا فنيًا ملهما للأجيال اللاحقة من الراقصين والمخرجين المسرحيين.