ثقافة وفنون

«غادولينيوم» … عن الحياة تتنقّل على أطراف ذاك المرض

«غادولينيوم» … عن الحياة تتنقّل على أطراف ذاك المرض

حسن داوود

يحظى السرطان بالنصسب الأوفر من كتاب «غادولينيوم» لفجر يعقوب. ذلك المرض الذي يؤثر الناس تجنّب ذكره، أو تسميته هو مجال الارتكاز الذي تتفرّع عنه مجريات الحياة الأخرى. هو الوسط في ما يرى من أصيبوا به، وانطلاقا منه يتعيّن الما قبل والما بعد. ليس في ما يتعلّق بالزمن وحده، بل بالموقف من الحياة والموت، والعلاقة بالذات وبالآخرين، وإحساس المصاب بجسده إلخ.
في الكتاب الذي صنّفه كاتبه بأنه سيرة متنقّلة نقرأ كيف أن ذاك المرض يمثّل محوره العيش وتجاربه، فكل الأحداث والوقائع، وكذلك الأفكار والذكريات، تُقرأ كفروع متفرقة من محطته الصلبة. الكتاب يبدأ به، بوصف سقوط تلك النقطة السوداء مع البول، ثم انتظار الوقت الكافي لتجميع البول من جديد، الوقت المرعب، الذي عند انتهاء أوانه، سيرى المصاب تدفّق السائل الأسود، ثم ستستغرقه تلك المتابعة المضنية التي لم يُخف الكاتب شيئا من تفاصيلها المتوزعة بين المشفى ومختبرات وآلات التصوير الشعاعي الصوتي والمقطعي وعقاقير بينها الغادولينيوم (التي تحمل السيرة اسمه)، واصفا إياها بأنها «المادة الكيميائية السامة للكبد، ولكنها القادرة على تسكين ذرَات الهيدروجين في الجسم، من أجل الحصول على صورة واضحة ونقيّة».
ومثلما بدأ الكتاب بالمرض سينتهي به، ثم هناك النهايات الأخرى المفصلية بين واقعة وأخرى يروي الكتاب عنها. ولهذه يمكن أن توضع لهذه الوقائع، أو الحكايات عناوين كثيرة بينها رحلته لنيل جائزة الصقر الذهبي في مهرجان روتردام السينمائي، ثم شريط المقابلة المحزنة مع البطل محمد علي كلاي، وكان الكاتب حينها مشاهدا للشريط وانكسار بطله بسبب مرض الباركنسون، الذي أصيب به، ثم ننتقل إلى ما يشبه القصة عن الممثل جاكي شان ومنزله، كما المنازل المحيطة به في روتردام، وهذا الفصل يضيف اتساعا آخر، عمرانيا هذه المرة، إلى مجالات الوصف والرؤية في الكتاب. هذا ويتبع ذلك انتقالات كثيرة إلى مواضيع مترابطة في ذهن كاتبها حيث ننتقل من تذكّر المخرج الياباني أواسارا إلى تشيرنوبيل ومن هذه الأخيرة إلى نقل أطنان النفايات النووية إلى تدمر. ودائما، فيما تتفرّع هذه المشاهد أو الانطباعات عن محور السيرة (السرطان) نجد أنفسنا متسائلين كيف أمكن لهذه التجارب أن تدخل في صميم العيش الشخصي؟
هي قضايا تُستدرج الكتابة إليها كون معظمها يرتبط بحياة الراوي، أو الكاتب، أو المتذكر. بين ما نقرأ من تلك الفروع، يخيّل لنا أن أعدادا منها، مثل ما يرويه الكاتب لنا عن صالون الفداء وصاحبه، يمكن له أن يستقل مشكّلا قصصا قصيرة. أبو حالوب أيضا، الذي يطلق عليه الكاتب صفة «القنصل الفخري للعراقيين جميعهم في المنفى»، يمكن أن ينفصل بعمل قصصي مستقل. أبو حالوب المتنقّل بين مقهيين، أحدهما لما قبل الظهر والآخر لما بعده، الحاضّ على سفر الجميع إلى أيّ من بلدان العالم، لم يقم إلا بمحاولة هجرة واحدة. كانت إلى استراليا. في قنصليتها سأله المحقّق ما الذي يحبه في هذا البلد. الكنغر أول ما خطر لأبو حالوب. «خطأ»، قال المحقٌّق بلغته الأكثر إيجازا ليستعيض أبو حالوب عن أستراليا بقبول النفي إلى المقاهي السورية. بل هناك محطأّت في الحياة كان يمكن لها أن تنضمّ إلى ما ورد في السيرة. قرأنا عن الحياة في مخيّم اليرموك، حيث عاش الكاتب طفولته وصباه، لكن اقتصر ذلك على ما اتصل بمتابعة المرض من مكان إلى آخر.
الكاتب المتذكّر ترك للخاتمة تعريفنا بموت أخويه، المروية بإبداع تعبيري هو من ميزاته. كما بدا لنا، نحن قرّاءه، أنه عامدا أخفى عن سيرته المكتوبة حكاية سفره بالقارب المهدّد بخطر الغرق والموت. لكن رغبتنا بالإفاضة عن تلك التجارب الخطر بعضها والمأساوي بعضها الآخر مسألة تتعلقّ بالكاتب، كيف يرى إلى انتظام بنية كتابه. في أحيان يرى الكاتب أو السينمائي، ولفجر يعقوب تجارب مبدعة في كليهما، أن بعض الحكايات ربما تكون أكثر مأساوية مما يحتمل السرد الجاري. أما انتقالات الكتاب من مسألة إلى أخرى فتدفع قارئها إلى التساؤل، إن كان في ذلك خروج عن النصّ، كما يقال في النقد التقليدي النمطي. لكن لا يلبث هذا التساؤل أن يتضّح مع تكرار الفصول، دافعا إلى التفكير بأن شروط الوحدة الكلية للنص لا تعني الانغلاق السردي على زمن أو مكان، أو في انتساب الوقائع إلى واقعة كبيرة واحدة. أظن أن ما يقترحه فجر يعقوب هو الانفلات مما يقيّد الكتابة، وأيضا، من ناحية أخرى، لم يعد المجال هنا مناسبا للذهاب بها بعيدا، هو أن تختلط السيرة بالرواية إلى حدّ أن يفكّر القارىء عن أيّ الفنّين يقرأ الآن.
«غادولينيوم» سيرة متنقّلة لفجر يعقوب صدرت عن «دار المتوسط» في 211 صفحة لسنة 2024.

كاتب لبناني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب