لا تقاوم الشر بالشر: البعد الديني والفلسفي.
د/ أحمد الليثي
#ملف_الهدف_الثقافي
من منظور فلسفي، مقولة “لا تقاوم الشر بالشر” تُعبر عن دعوة إلى كسر دائرة العنف والانتقام التي تؤدي إلى استدامة الشر، واستبدالها بمنطق أعمق قائم على الحكمة، الرحمة، والتجاوز. هذا المفهوم يتجلى في عدة مدارس فلسفية وروحية:
1- الفلسفة الدينية والروحية :
* القيم القرآنية المتعلقة بالشر والخير:
رد الإساءة بالإحسان:
يقول الله تعالى:
“وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ” (فصلت: 34).
هذا التوجيه الإلهي يعكس فلسفة قرآنية واضحة: رد الشر بالخير يؤدي إلى تحويل العداوة إلى صداقة، مما يكسر دائرة الكراهية.
العفو عند المقدرة:
يقول الله تعالى:
“وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ” (آل عمران: 134).
الكظم والعفو يُعتبران من صفات المؤمنين، وهما من الوسائل لإصلاح النفس وتوجيهها نحو الخير.
كما ذخرت السنة النبوية ومنهج النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالعديد من المواقف والنصوص التي تدعو إلى التسامح ونبذ العن-ف والكراه-ية، كان صلى الله عليه وسلم مثالًا حيًا لرد الشر بالإحسان، فعندما طرده أهل الطائف وآذوه، دعا لهم بالهداية بدلاً من الانتقام.
وفي فتح مكة، رغم كل الإساءات التي تعرض لها من قريش، أعلن العفو العام بقوله: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
وقال صلى الله عليه وسلم : “ما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا” (رواه مسلم).
في الفكر الصوفي:
الصوفيون ينظرون إلى الشر كاختبار للنفس، حيث يُظهر الرد بالإحسان القدرة على التحكم بالنفس وتهذيبها. يعتبرون أن مقاومة الشر بالشر تغذي الأنانية، بينما مقاومته بالخير ترفع الإنسان إلى مستويات روحية أعلى.
* التعاليم المسيحية:
الديانة المسيحية تدعو إلى المحبة والتسامح.
وفي موعظة الجبل، دعا المسيح إلى “محبة الأعداء” والرد على الإساءة بالتسامح، معتبرًا أن مقاومة الشر بالخير هي السبيل لإصلاح العالم وكسر حلقات الكراهية.
2- الفلسفة الأخلاقية:
* إيمانويل كانط:
يرى أن الأخلاق الحقيقية تُبنى على احترام القانون الأخلاقي الداخلي، لا على ردود الفعل تجاه أفعال الآخرين. استخدام الشر كردٍ على الشر يُناقض مبدأ “الواجب الأخلاقي”، حيث يجب أن تكون أفعالنا نابعة من قيمنا وليس من أفعال الآخرين.
* جون ستيوارت ميل (النفعية):
يؤكد أن مقاومة الشر بالشر لا تزيد سوى المعاناة العامة، وبالتالي فهي غير مقبولة لأن الهدف الأخلاقي هو تحقيق أقصى منفعة وسعادة للمجتمع.
3- الجدلية الفلسفية بين الخير والشر:
الفلاسفة أمثال هيغل ونيتشه يرون أن الشر والخير ليسا كيانين منفصلين تمامًا، بل إن الصراع بينهما، يكون ضروريًا لتطور الإنسان والمجتمع. ولكن مقاومة الشر بالشر تعيق هذا التطور لأنها تغذي الصراع بدلاً من تجاوزه.
4- البعد النفسي والفلسفي للسلام الداخلي:
مقاومة الشر بالشر تعكس نفسًا لم تتحرر من قيود الغضب والكراه-ية، بينما مقاومته بالخير تتطلب مستوى عميقًا من التصالح الداخلي والسيطرة على الذات. الفيلسوف الهندي غاندي اعتبر أن “اللاعنف” (أهيمسا) هو السبيل الأسمى لتحقيق هذا التصالح وكسر دوامة العنف.
5- البعد الاجتماعي والفلسفي
العدالة مقابل الانتقام:
فلسفيًا، العدالة تُبنى على التوازن والإصلاح، بينما الانتقام يُبنى على الغريزة ورد الفعل. مقاومة الشر بالخير تسهم في بناء مجتمع قائم على العدالة لا على التصعيد.
نيتشه يحذر من أن “النظر في الهاوية يجعلها تنظر فيك”، بمعنى أن الاستجابة للشر بنفس طبيعته تُفقد الإنسان إنسانيته، حيث يتحول هو نفسه إلى ما يكره.
الخلاصة:
“لا تقاوم الشر بالشر” ليست دعوة للضعف، بل هي فلسفة عميقة تحث الإنسان على تجاوز الصراعات البدائية بين الخير والشر، والسعي لفهم أعمق لطبيعة الشر وكيفية تحييده. إنها تذكير بأن السلام الحقيقي يبدأ في داخل النفس، وأن الإنسان الذي يتسامى فوق الغضب والانتقام يحقق انتصارًا حقيقيًا على الشر.