ثقافة وفنون

اخلع قبعتك واستمع لكانط

اخلع قبعتك واستمع لكانط

نعيمة عبد الجواد

ما هو أسمى وأبسط حلم يراود أي إنسان على ظهر البسيطة؟ لو تم توجيه هذا السؤال لأي فرد، سيكون الرَّد غالبًا هو أن يتم التعامل معه باحترام، ويمتلك عقلًا ينأى به عن الوقوع في الأخطاء، وألا يسيطر عليه أحد أو يفرض عليه آراءه، لذا لن يصبح سلعة يتم استغلالها واستهلاكها من قبل أي شخص أو جهة. كل هذه الأحلام تعد من الحقوق الأساسية التي يجب أن ينالها أي فرد في أي مجتمع. لكن، بالرغم من بساطتها، فإنها تعدّ حقًّا بعيدة المنال في أي زمان وأي مكان، إلى وقتنا هذا، وقد يظن البعض أن هناك بعض المجتمعات التي استطاعت تحقيقها، بيد أن تلك الحقوق لا تزال منقوصة.
في قرابة منتصف القرن الثامن عشر، حاول الفيلسوف الألماني «إيمانويل كانط» Immanuel Kant (1724-1804) البحث عن كيفية توجيه البشر للتمتع بأخلاق حميدة وروح مُحبّة للخير دون الوقوع تحت أي سطوة، حتى ولو كانت سطوة الأديان؛ علماً أن كانط نفسه يؤمن بأهمية الأديان، لأن من شأنها تهذيب النفس. ويعد كانط واحداً ليس فقط من أهم الفلاسفة على مرّ القرون السَّابقة، بل أيضاً من أهم الفلاسفة على الإطلاق؛ لأن أفكاره تصلح لكل العصور، وإن بالتأكيد شابتها بضع الشوائب ونقاط الضعف نظرًا للزمان والمكان اللذين نشأت فيهما.
ولقد حصد كانط ألقاب الريادة في العديد من المجالات؛ فهو الفيلسوف الرئيسي لعصر التنوير، ورائد علم الأخلاق الحديثة، ورائد علم الجماليات، ورائد الفلسفة الحديثة. ويعد إيمانويل كانط من أكثر الفلاسفة المثيرين للجدل في الغرب، ولكنه الأكثر تأثيراً؛ لأنه اعتمد في فلسفته على دمج الأسلوب العقلاني مع التجريب المنطقي. والرائع والسامي في فلسفته أنها تخاطب العقل والمنطق، وتحاول البحث في طبيعة الأحداث وما يصدر عن الفرد من آراء منطقية الشكل والمضمون؛ فهو الفيسلسوف الذي اهتم بألا يخاطب سوى العقل.
وأهمية فلسفة الأخلاق -التي أصبح كانط رائدها- أنها تبحث عن الدافع وراء تصرُّفات الأفراد لتحلّ طبيعة المشكلات والعوائق النفسية تجاه الأحداث من جذورها، ولذلك فهو يقدِّم حلولاً منطقية تجعل من يقرأ مؤلَّفاته يقع في حبائل الإعجاب به لأنه يخاطب الوعي. ولقد كان لكانط أهمية كبرى في مجال رفع راية حقوق الإنسان والحيوان، وكان من أشد المؤمنين بالحرّية الفردية، والمعارضين للتفرقة العنصرية واستغلال البشر والحيوان بأي شكل من الأشكال. والغريب أيضًا أنه كان يؤمن بوجود كائنات فضائية وعوالم أخرى موازية. ولهذا، كانت فلسفته حافزًا لآينشتاين، لوضع قوانين نظرية النسبية.
وفيما يبدو أن كانط كان يطبِّق أسس فلسفته على ذاته، وإن كانت شخصيته بالفعل مثيرة للجدل. فهو ذاك الطفل النابغة ابن الحرفي، والمرأة التي لم تلتحق بالمدرسة، لكنه أصر على أن يجد طريقه ويعيش حياته بالطريقة التي يبتغيها، ولو حتى في أسوأ الظروف. وكان موت أبيه من المحطَّات المهمة في حياته التي شكَّلت وعيه، ما أرغمه على ترك داراسته الجامعية وهو على وشك التخرُّج؛ لتحمُّل عبء الإنفاق على أسرته والاهتمام بشؤونها، فعمل مدرسًا لأطفال الميسورين ليعول الأسرة. لكنه في الوقت نفسه، لم يتوقَّف عن التمسُّك بحلمه. وفي تلك الفترة، علّم نفسه ذاتياً واستطاع أن يقدّم أطروحته للجامعة من أجل الالتحاق بسلك التدريس الجامعي، لكن لم تمنحه الجامعة سوى وظيفة معيد بأجر زهيد يتلقاه نظير ما يدفعه الطلَّاب الذين يحضرون محاضراته. ولم يتخلّ كانط عن حلمه عندما أضنته الجامعة بفرض عبء ساعات تدريس كثيرة وصلت إلى نحو 28 ساعة في الأسبوع الواحد. والجدير بالذكر أن جميع طلابه كانوا يعشقون محاضراته ويستمتعون بحضورها؛ فلقد كان خفيف الظل، ويلقى الداعابات، إلى جانب كونه عليماً متمكّناً من مادته العلمية، ومؤثّراً في طلابه.
ومرح كانط لم يعكس حياته البائسة في حجرة صغيرة، أثاثها سرير وطاولة وكرسي فقط، ولا يزين حوائطها سوى صورة للفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو. وعلى الصعيد الآخر، كان كانط يعشق السهر والذهاب للحفلات ومعاقرة الخمر ولعب البلياردو والورق، لتسلية نفسه. ولمَّا منح منصب أستاذ بالجامعة، وحصل على راتب يوفِّر له حياة كريمة، كان مضيافاً وينصرف دوماً ضيوفه من منزله والسعادة تغمرهم؛ لأنه كان يغذّى الجانب الفكري لديهم بطريقة سلسة، وكذلك يغدق عليهم جوّاً من المرح والفكاهة، وذلك كان عادة دائمة عنده. والغريب أنه أيضاً أسس لنفسه نظاماً صارماً في الحياة، فهو لا يغيِّر مواعيد العمل والكتابة والأكل والنوم، لدرجة أن جيرانه كانوا يتندّرون بأنه يمكن ضبط الساعات وفقاً لمواعيد كانط عند مزاولة أنشطته اليومية. وهذا الرجل الذي قد يعتبره البعض الأشد مللاً على الإطلاق، كان يعشق منزله ولا يبتعد عنه، لأنه لا يشعر بالراحة لو غيَّر عادته اليومية. والعجيب أن بحر البلطيق كان يبعد عن منزله بمسافة تستغرق السَّاعة الواحدة فقط، لكنه لم يطمح قط في كسر عاداته اليومية، ما دفع بعض علماء النفس مؤخراً أن يعزوا سلوكه إلى وقوعه في براثن مرض التوحُّد.
قد يظن البعض أن كانط إنسان منفصل عن الواقع، لكن يكفي القول إنه وهو حتى في حجرته الفقيرة البائسة، استطاع أن يحرِّك ويسيطر على العالم بأفكاره التي فاقت قوتها ونفوذها أعتى الأباطرة والجيوش. يكفي القول إن أفكاره عن الأخلاق لا تزال محل حوار في آلاف من الجامعات في جميع أنحاء العالم؛ لأنها تتمحور حول ما يقدِّره البشر ويعتبرونه ذا قيمة، وما قد يسقطونه كالمتاع. وكانت طريقته في التفرقة بين الصالح والطالح شديدة البساطة، وهي مدى كون الفعل مقبولاً وجائزاً على جميع الصُّعد. علماً أنه شدد على أنه في حال وجود شائبة في الأمر ولو حتى في جانب واحد، لسوف يعني ذلك أن الفعل أو القيمة تتنافى والأخلاق؛ أي أن المنطقة الرمادية عنده غير مقبولة، وهذا وفقاً لما أطلق عليه قواعد «الضرورة الحتمية» Categorical Imperatives التي تعد صالحة للتطبيق في أي مكان أو زمان أو ظرف.
وقاعدة كانط تشير إلى أن أي فعل المقصود منه استغلال البشر، سواء كان يقضي هذا استغلال الغير أو كان الشخص نفسه محل الاستغلال، وبهذا يصبح الفعل المقصود منه أن يكون إمَّا «غاية» أو «وسيلة»، وفي ذلك يستخدم كانط القياس العقلاني في اتّخاذ القرارات؛ لأنه مبني على الوعي الذي يميّز البشر عن غيره من المخلوقات. ومن أهم المقتبسات المتداولة التي تشير إلى منزلة العقلانية عند كانط قوله: «بدون العقلانية يصبح العالم خَرِباً؛ لا جدوى منه ولا غاية له». وكذلك قوله: «بدون الذكاء والقدرة على استخدامه بحرّية يتحوَّل البشر إلى كومة من الأحجار، وحينها تنعدم أهمية أي شيء». ومن الناحية الأخرى، يُعرِّف كانط الأخلاق بأنها تنبع من «حماية» الوعي العقلاني و»الترويج» له عند كل فرد.
ولتبسيط تلك القاعدة، يمكن القول إن كانط يشدد على عدم استخدام أي فرد ليصبح «وسيلة» يصل بها آخر إلى «غاية» يستهدفها؛ فالإنسان في حد ذاته يجب التعامل معه كـ «غاية» ولا يجب وضعه في مرتبة أقل من ذلك؛ أي يصبح «وسيلة». فعلى سبيل المثال، إذا تكبَّد إنسان العناء واشترى ورداً، وقاد سيارته صوب مستشفى من أجل زيارة مريض، يصبح فعل الزيارة هو «الغاية» المرجوَّة، أمَّا «الوسيلة» فكانت النزول من المنزل وتحمُّل مشقة الطريق عند قيادة سيارة وتحمُّل نفقات وقود السيارة وشراء الورد الهدية. وهذا فعل أخلاقي، وقد ينتج عنه تقدير المريض له وعزمه على رد الجميل يوماً. لكن يصبح الأمر يتنافى والأخلاق عندما يكون الهدف من زيارة المريض هو حضه على اعتبار ذلك معروفاً قد يُفضي لقضاء خدمة لمن قام بزيارته.
وكل هذا وغيره من الأفكار العقلانية مذكورة في كتاب «نقد العقل الخالص» Critique of Pure Reason (1781-1787)، الذي يعد من أشهر مؤلَّفات كانط على الصعيد العالمي؛ فلقد أسهم الكتاب في تغيير المنظومة الفكرية في أوروبا بعد تخلّصها من سطوة رجال الكنيسة على المشهد السياسي والاجتماعي. «العقلانية» عند كانط هي السبيل لإدراك العالم بصورة منطقية، و»الوعي» هو السبيل للحفاظ على إبقاء الأفعال والأشياء في إطار أخلاقي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب