ثقافة وفنون

هدى بركات: هذا العالم مريض… لا أحد فيه على سويّته

هدى بركات: هذا العالم مريض… لا أحد فيه على سويّته

حسن داوود

هنادي كانت «أجمل طفلة في العالم»، حسبما قال كل من رآها. لكن مرضا أصابها وهو الأكروميغاليا الذي تتضخّم معه الأطراف والعظام ويتغير تبعا لذلك شكل الوجه والجسم. مسخَ المرض البنت الجميلة فصار عليها أن تتوارى في الشقة الصغيرة التي بقيت لها من أمها. من النافذة تشاهد النهر، الذي ليس نهرا، أو الذي ربما كان نهرا في زمانٍ ما، كما تشاهد صفصافة غريبة هناك تجعلها تتساءل «من أين تأتي جذور هذه الصفصافة بالرطوبة؟».
لم تطق أم هنادي درجة القبح المتمادية في جسم ابنتها ووجهها، فحجزت طفولتها في عليّة البيت حجبا لها عن الناس. في أحد الأيام نزلت تلك الابنة درجات السلم إلى أرض المطبخ، وفرّت لتعيش شريدة منبوذة من كل من يصادفها. وحده فرنسوا، أو رشيد، قبِل بوجودها، هناك في فرنسا، حيث رحلت، كمخلوق بشري يمكن الانجذاب إليه. كان قبيح الهيئة هو أيضا، ومقطوع اليد، وهو أتاح لها أن تنام إلى جانبه تحت سقف يقي من المطر. لكن، بعد معاشرة لم تدم طويلا قرّرت الفرار، فغادرت مأواهما، وهذا ما جعلها تُقرن بين فرارها من أمها وفرارها منه، من دون أن تنذرهما بذلك. هكذا أضيف إلى أوجاعها شعور بالذنب لازمها حيال الاثنين.
في الشقة الصغيرة التي تعود الرواية إليها كمحل استقرار مكاني، تقيم أيضا زكيّة، القطّة المقطوعة إحدى قوائمها، بما يذكّر بالنقصان اللاحق بفرانسوا (أو رشيد) من بتر ذراعه. وفي حال جمع الاثنين معها، هي هنادي، سيدلّ ذلك إلى خلل جسماني أصاب أكثر من تُنسج حكايتهم في الرواية. وإن شئنا البحث عن مكامن خلل أخرى، نجد أن لا أحد ممن التقتهم هنادي، أو جاورتهم كان تامّا أو سويا. الأب سرّ غامض، غائب تسعى هنادي إلى البحث عن وجوده وعن مصيره في الوقت نفسه. الأم شخصية غامضة هي أيضا تتراوح بين أن تكون جلّادة وضحية. نبيل، الجار القريب الذي كان يؤدّي خدمات لهنادي، اختفى من دون أن يترك أثرا.. أم منصور، الجارة في الشقة المقابلة تركت إلى لندن وهي الكائن الوحيد الذي ارتضى بأن يقيم علاقة بشرية مع هنادي. ولن ننسى غلوريا، التي شأن فرنسوا نصف الفرنسي نصف العربي، تحمل اسما آخر هو «عبدول»، ما يجعلها منقسمة الجنس بين أن تكون امرأة أو أن تكون رجلا. ولنضف إلى كل تلك الشخصيات جانبا آخر من كيان هنادي تمثّله أختها هند، والتي تدفعها إلى التساؤل إن كان أختها هند هي نفسها هنادي.
وكذلك هي الأمكنة، مثلها مثل تاريخ العائلة، منقسمة هي أيضا. من الشقة الصغيرة في منطقة النهر تختبر هنادي ماذا يعني أن يعيش البشر في غير الأمكنة التي نشأوا فيها. ومثلما كان صعبا تخيّل أم منصور كيف تعيش في لندن، كذلك تدفعنا الرواية إلى التساؤل عن كيف أمكن لهنادي أن تعيش في فرنسا. «هذا اسمه الغربة، أي أن تكون لك حياتان شقيّتان، تسيران في خطّين متوازيين أبداً، وأن تقبل بنسيانهما معا لكي تعيش معهما، أي برفقتهما، الحياتين، كنمرين مدجّنين».
وهناك في فرنسا اهتدت هنادي إلى من ساعدها على نيل وظيفة مترجِمة، لكنها لم تلبث أن توقّفت عن قدرتها على العمل. ليس العربية، بل الفرنسية التي راحت كلماتها تُنسى وتضمحلّ. ذلك من أثر الانتساب إلى هويّتين بدا أن لا قدرة على احتمالهما معا.
ومع تزايد الانقسام في الفصول الأخيرة من الرواية، تُضاف إلى انقسامات هنادي اكتشافها أن أباها موجود وحيّ، لكنه تحوّل إلى سرّ بعد أن انتقل إلى إسرائيل. مع الخيانة المفترضة لذلك الأب صار الانقسام أكثر خطرا بكثير من الهجرة إلى فرنسا (كما فعلت هي)، أو إلى استراليا (كما فعلت عمّـتها الكبرى). العقاب الناتج عن الخيانة سيطالها إذن، وهذا ما قرأناه لدى اقتحام رجال الأمن لشقّتها. حكاية الأب، أو خيانته، واحدة من سعي الكاتبة هدى بركات إلى عدم ترك البشر كما هم، واحدهم تروي الرواية أزمته أو أزماته، والآخرون أشبه بفريق مساعد. ففي كل شخصية تحضر عند هدى، هناك خلل طبيعي، أو خَلقي، أو مفارقة، أو عدم استواء. بين من عبروا في حياة هنادي لا تنطبق عبارة شخصية ثانوية، إلا على الجارة أم منصور، الراضية وحدها بالعيش هناك في غربتها. كما أن هذا الدفق الحدثي، في آخر الفصول على وجه الخصوص، أتى حاملا مفاجآت عديدة بينها، ونحن على مشارف الصفحات الأخيرة، أن لهنادي أخاً من أبيها لم نكن قد تهيّأنا لوجوده من قبل. كل هذا المفاجآت تأتي من ضمن تحويل كل حادثة إلى مجال للتأمّل التفكيري والتأمّلي. من الحادثة ينبثق التأمل، ومنه تنتقل الروائية إلى حادثة أخرى جديدة.
«هند.. أو أجمل امرأة في العالم» كتاب واسع الفضاءات متعدّدها، على رغم بقائه متصلا ببطلته التي جرّت شخصيات وأمكنة أو تحوّلات إلى عالمها الضيّق.
رواية هدى بركات صدرت عن دار الآداب في بيروت سنة 2024 في 327 صفحة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب