ثقافة وفنون

«رواية النسيم والهجير»: معلمة مصرية تواجه تحديات الغربة في الكويت

«رواية النسيم والهجير»: معلمة مصرية تواجه تحديات الغربة في الكويت

موسى إبراهيم أبو رياش

تتميز رواية «النسيم والهجير» لمصطفى عطية جمعة، بسرد سلس ندي، ينساب بعذوبة ورقة، مشبع بالمشاعر والعلاقات الإنسانية الجميلة الدافئة. وعلى الرغم من خلو الرواية من أحداث صاخبة، أو هزات، أو انتقالات مفاجئة، إلا إنها جاءت مشوقة، ممتعة، رائقة، جاذبة للقارئ، من بدايتها إلى نهايتها، دون أي شعور بالملل، بل رغبة عارمة بالاستمرار والمتابعة إلى آخر كلمة. ولعلها من الروايات القليلة، التي نجحت في شد انتباه القارئ، بإنسانية موضوعاتها، وسردها اللطيف الآسر، ولغتها البسيطة الجميلة، وحكاياتها الواقعية، دون أن تتكأ على الإثارة، والحبكة المعقدة، والأحداث الصادمة، والعقد النفسية، والصراعات بين الشخوص، وكسر التابوهات، أو حتى الاقتراب منها، وغيرها من عوامل الجذب، والاستحواذ على القارئ. وهذا – في رأيي – نجاح إبداعي، بعيدا عما يطلبه الجمهور، أو حمّى المنافسة بين مئات الروايات العربية التي تصدر كل عام.
تسرد الرواية حكاية معلمة مصرية من مدينة الإسكندرية، وعملها في مدارس الكويت، وعلاقاتها مع معلمات المدرسة ومديرتها، ومع زميلات السكن الوظيفي، وتستعيد طفولتها وأسرتها ودراستها المدرسية والجامعية، وزواجها واضطرارها للعمل في الكويت لتوفير المال اللازم لعلاج زوجها بعد سنوات قليلة من زواجها، معرّجة على مرض والدتها ووفاتها، وبعض قصص زميلاتها، وزواج أختها وأبيها، ومجلس العائلة الكبيرة. وتتناول هذه المقالة ثلاثة محاور من الرواية.

الوظيفة

الوظيفة – في الغالب – بلاء لا بد منه؛ فللوظيفة قيودها وطقوسها وتبعاتها وقواعدها، التي تحد من حرية الموظف وانطلاقه على سجيته، فالموظف يفعل ما يُراد منه لا ما يريد هو، ولذا؛ عليه أن يتكيف مع متطلبات الوظيفة واشتراطاتها، وقد يتخلى عن شخصيته وقناعاته إن تطلب الأمر. معظم شخوص الرواية موظفون في مجال التربية والتعليم؛ حنان وأمها وأبوها، فاطمة، خالدة، حلا، فريدة، سهام، عواطف، روان، وشذ عن القاعدة محسن زوج حنان الذي كان يعمل محاسبا في إحدى الشركات، والمحامي زوج سهام.
ويلاحظ من الرواية غلبة الروتين على حياة الموظفين، ورتابة أيامهم وتشابهها؛ فهم مقيدون بساعات الدوام، وأحاديث العمل حتى في البيت، والاستعداد للدوام والعودة منه، وطقوس البيت المعتادة التي لا تتغير، وهذا يؤدي إلى برودة العلاقات، وعدم الرغبة في التغيير، إلا إذا كان أحد طرفي الأسرة/العلاقة، ذا شخصية حيوية يضخ التجديد والحياة في أفراد أسرته، ويذهب عنهم ملل التكرار.
أم حنان كانت تميل إلى الصمت والإيجاز، بينما كان زوجها منطلقا، متحدثا، يحب الحياة، ولذا؛ نجح في خلق جو من الألفة والمحبة والحيوية في بيته. وعلى العكس من ذلك، كانت حنان تحب الحديث عن حكايات عملها مع المعلمات والطالبات، ولكن زوجها محسن كان قليلا ما يتحدث أو يعلق، وكان لا يميل إلى التغيير ويقول: «أجمل شيء في حياتي؛ أن تظل حياتي هي حياتي»، يقصد استقرار الحال، وعدم التغيير. وفي الكويت، كانت كل زميلات حنان في المدرسة والسكن وحتى مديرتها متحدثات وحكاءات، ويتشعب الحديث في الأمور كافة، بما فيها الشخصية، وتميزت فريدة بأنها منجم حكايات لا ينضب، تصفها حنان: «فريدة أشبه بمحطات الراديو، فلم يحدث مرة أن مذيعيها توقفوا عن الكلام، أو توقفت المحطة عن البث، إلا في حالات التشويش، وهي نادرة في حدوثها، ومثلما أن فريدة تحب البثّ الإذاعي، فهي أيضا مثل جهاز الاستقبال الفضائي، تفتح أذنيها لكل حاكٍ وشاكٍ؛ ولكل معلّمة قرفانة من عيشتها».
أشارت الرواية إلى أقنعة الوظيفة الضرورية، فالموظف ينبغي أن يلبس قناعا حسب المقام، ولا يمكن أن يكون بقناع واحد في كل حالاته، فللبيت قناع، وللعمل قناع، وربما للأصدقاء قناع. فعندما استغربت حنان من شخصية مديرتها الأليفة في البيت بينما في المدرسة تكون حازمة متجهمة، قالت لها: «هذا قناعي في العمل، أخلعه عندما أدير سيارتي وأغادر»، وتؤكد وجاهة ذلك بسؤال حنان: «هل شخصيتك في الصف هي نفسها في القسم؟». ويبدو أن المديرة محقة في رأيها؛ فبعض المواقف تتطلب حزما، بينما يفضل اللين في أخرى، وربما التجاهل والتغافل أحيانا، وهذا ينسجم مع المثل «لكل مقام مقال».
ومن لوازم الوظيفة، خاصة للمناصب العليا، الواسطة؛ فقد كان والد حنان مسؤولا كبيرا في المنطقة التعليمية، ولذا؛ تدخل لنقل زوجته إلى مدرسة قريبة من البيت، وتعيين ابنته حنان في مدرسة قريبة أيضا، وتوسط لتعيين ابنه حسين في القطاع العام، وأكملها بالزواج من موظفة في إدارته، وحصلت حنان على رخصة قيادة في الكويت من أول مرة بوساطة قريب متنفذ لأحد طلبتها.
لم تتخذ الرواية موقفا محددا من الواسطة، وتركت الحكم للقارئ، ولا شك في أن مساوئ الواسطة أكثر من حسناتها، ففيها استغلال للوظيفة، وقد تظلم بعض الناس وتسلبهم حقوقهم أو تؤخرها على الأقل، وفي حالة حنان، فإن منحها رخصة قيادة مع الأخطاء التي ارتكبتها، فيه خطر على سلامة الناس وسلامتها أيضا.

الغربة

عندما تكون الغربة اضطرارا، تكون عذابا وجرحا نازفا، كما في حال حنان التي تركت ابنها الصغير وطفلتها الرضيعة ذات الثلاثة شهور، من أجل توفير المال لعلاج زوجها، بعد أن أنفقت وأسرته كل أموالهم لعلاجه، وكانت تشعر في الكويت بالألم الشديد، وهي تتذكر طفلتها وطفلها، وحاجتهم إلى حضنها ورعايتها. وكذلك معظم المغتربات، كانت لهن حكايات مختلفة، وفي بعضها اضطرار، ولكن اللافت في الأمر، أن تدفق المال في اليد، يُغري بالبقاء بعد زوال حالة الاضطرار، وتميل النفس إلى المادية والاستحواذ، خاصة أنه لا يمكنها الحصول على ذلك ولا جزء معقول منه في الوطن، ولذا؛ قد تتغير النفوس، وتتبدل الأولويات، ولكن حنان، بعد أن كاد المال يعميها، قررت العودة بعد اثني عشر عاما، عندما سمعت حكايات زميلاتها وندمهن على تفضيل المال على الزوج، فأنقذت حنان نفسها وأسرتها، وعادت لتبث الدفء في بيتها، وترعى زوجها وأولادها، خاصة أن وظيفتها تنتظرها في الإسكندرية.
ما حصل مع حنان ليس غريبا، فجريان المال يغير النفوس، ويحولها إلى حالة من الجشع وحب المال وجمعه، وإن على حساب الأهل والأسرة والأحبة، وقد تخسر إحداهن زوجها أو أطفالها أو أهلها بسبب حبها للتملك، وكم من أسر تصدعت وانهارت بسبب غربة أحد طرفيها بحجة توفير المال، فوفَّر المال وخسر العيال. ومن هنا، فإن التوازن مطلوب، فينبغي للمغترب/المغتربة أن تحدد لنفسها سقفا زمنيا أعلى لغربتها، ثم تعود لتستأنف حياتها في بلدها، حتى لا تغتالها الغربة، ويفوتها قطار الحياة بعيدا عن أهلها وأحبتها.

الحياة الاجتماعية

برزت الحياة الاجتماعية بوضوح في رواية «النسيم والهجير»، وكان لها نصيب وافر من الرواية؛ ولوحظ أن الأسر المصرية في الإسكندرية متقاربة نسبيا مع بعض الاختلافات البسيطة، أما أسر المغتربات ففيها تباين واضح، وبعضها تحمل قصصا درامية حزينة، شابها الندم والأسى والحسرة على ما فات.
أسرة حنان، كانت منسجمة، متفاهمة، متحابة، تربطها علاقات قوية ودافئة، وتبدى ذلك واضحا عند مرض الأم، فقد أحاطوها بالرعاية والاهتمام من باب الحب والوفاء. بينما أسرة زوج حنان كانت تتحكم فيها الأم وبنتاها، ولم يكن لمحسن أي دور أو قرار، فهو مستسلم لهن، ينفذ ما يقلن، وكانت الرابطة بينهم قوية، لكن مجمل العلاقة كان مَرَضيا؛ فليس من الصواب أن يُهمش الرجل، ولا يكون له وجود فاعل ومؤثر في أسرته، خاصة في الأمور التي تخصه وزوجته.
أما منى، أخت حنان، فقد رفضت جميع من تقدم لها من الشباب، على الرغم من موافقة والدها وتزكيته لهم، لأنها لم تر فيهم ما يعجبها، تقول كلما رفضت شابا: «لم أرتح له، أو ضعيف الشخصية، أو سطحي، أو ابن أمه، أو تافه التفكير». ووافقت في النهاية على شاب استقبله والدها على مضض؛ فلم يكن مستقرا ماليا، ولا وظيفة دائمة له، وافقت عليه؛ تقول: «أعجبتني شخصيته، مكافح، مؤدب، متدين، يخطط للمستقبل، ويريدني زوجة ملكة في المنزل، وصارحني بأنه رافض لأن أعمل؛ كي أتفرغ للبيت والأولاد». وسط استغراب أهلها وتعجبهم من موقفها.
وفي الكويت، تنوعت الحكايات كثيرا، فمن زوج يمارس سلطته العسكرية على زوجته فانفصلت عنه، وزوجة ضنت بمالها على زوجها فخسرته، وفتاة ضحت بنفسها وشبابها من أجل عائلتها فتكاد تعنس، وزوج كره النساء لأجل زوجته فترك لها الحبل على الغارب، وغيرها من الحكايات المؤلمة المؤثرة، نترك تفاصيلها للقارئ.
وبعد؛ فإنّ «النسيم والهجير» للأكاديمي والأديب المصري مصطفى عطية جمعة، الصادرة في القاهرة، عن دار متون المثقف، عام 2023، في 183 صفحة، رواية تستحق التأمل، فهي تصور مقاطع ومشاهد واقعية من الحياة، بإبداع يستحق الإشادة والثناء، وهي رواية تقرأ بمتعة، وتستحوذ على القارئ بهدوئها وسلاستها وطلاوتها. وهي من الروايات التي أظهرت الكويت بشكل إيجابي جميل، واحتضانها للمغتربات بحب، واتساعها للجميع، ووجدوا فيها الملاذ، وسفينة الإنقاذ من ضنك الحاجة وضيق ذات اليد.

كاتب أردني

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب