ثقافة وفنون

ما المعاصرة؟ ما الأدب المعاصر؟

ما المعاصرة؟ ما الأدب المعاصر؟

منصف الوهايبي

لعلّ أوّل ما يتبادر إلى الذهن أن «الأدب المعاصر» هو الأدب الذي ينتمي إلى الحاضر أو ​​الراهن أو «الحال»، كما كان يسمّيه نحاة العرب؛ أي هو أدب هذا العصر أو حقبة زمنيّة بعينها. وهي تُحدّ في الغرب عامّة بالأربعينات من القرن الماضي أو الثلث الأوّل منه. وهي الحقبة التي شهدت الحرب العالميّة الثانية وأهوالها، مثلما شهدت بدايات حركات التحرير الوطنيّة في أفريقيا وآسيا من أجل إنهاء الاستعمار، ولكنّها عرفت أيضاً الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي أو الاشتراكي، فنموّ الاقتصاد العالمي، والآداب والفنون المعاصرة بأساليبها المتعدّدة المتنوّعة مثل السرياليّة والدادائيّة والتكعيبيّة… وصناعة نشر الكتب، ثمّ «رقمنتها»؛ وما إليها من شتّى التغيّرات الجيوسياسية والسياسية والاجتماعيّة والاقتصاديّة والتكنولوجيّة.
ويرى البعض أنّه بالإمكان أن نتميز ثلاث فترات رئيسة في الآداب والفنون المعاصرة (في فرنسا خاصّة):
أولاها تبدأ في النصف الأول من القرن العشرين مع كتّاب مثل سارتر وكامي وسيلين…، وثانيتها تبدأ في منتصفه حيث سادت حركات مثل الطليعة والسرياليّة والرواية الجديدة ومسرح العبث، وثالثتها منذ الثمانينيات، أي سياق «العولمة» وتصنيع الأدب وكتب الخيال العلمي وأدب «التخييل الذاتي» على قلق هذا المصطلح «المترجم».
والحقّ أنّ هذا الوصف قد لا يكون دقيقا، لأنّ مفهوم العصر يختلف باختلاف البلدان وثقافاتها. فالمؤرّخون الفرنسيّون والأوروبيّون عامّة ما عدا البريطانيّين، يعودون إلى عام 1789 (بداية الثورة الفرنسيّة)، وعام 1792 (إلغاء الملكيّة وإعلان الجمهوريّة) فثورة 1848 وكومونة باريس التي لم تعمّر طويلاً، فالثورة الصناعيّة وصولا إلى الوقت الحاضر.
وفي العالم الأنغلوسكسوني على وجه الخصوص، يتّسع مصطلح «المعاصر» إلى حوالي الثمانين عاماً التي سبقت حقبتنا الحاليّة، أو الفترة التي تبدأ من عام 1945 إلى يومنا هذا وهي بتدقيق أكثر فترة العصر الذرّي وعصر الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي. فهذا هو «التاريخ المعاصر» حيث يظلّ بإمكان الأحياء أن يكونوا قد شهدوا أو عاشوا أحداثاً تاريخيّة وسياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة وثقافيّة فارقة، فتحتفظ بها ذاكرتهم؛ ويتناقلونها مشافهة أو مكاتبة.
ولئن سيطرت فرنسا بعد الثلث الأول من القرن التاسع عشر على معظم غرب أفريقيا والمغرب العربي، فقد سيطرت بريطانيا على معظم آسيا، ولا سيما الهند والشرق الأوسط. وما يعنينا في هذا السياق أنّ العالم كلّه تقريبا كان «أوروبيا» أو «غربيّا»، رغما عنه، طوال مئة عام أو أكثر من الاستعمار الذي كان ثقافيّا في جانب منه. وكان لهذا أثره الكبير في الآداب والفنون، وبخاصّة في ثقافة مثل ثقافتنا العربيّة حيث ظهرت في الثلث الأوّل من القرن الماضي أجناس من الكتابة غير معهودة مثل «الرواية» و«المسرحيّة» و«القصّة القصيرة» بالمعنى الذي استتبّ لهما في الغرب؛ وهي تختلف عن الأجناس السرديّة المأثورة مثل الخبر والحديث والنادرة والمقامة… بل لم يسلم الشعر أيضا وهو «ديوان العرب» و«العربيّة» إذ ألمّت بالشعراء مؤثّرات رومنطيقيّة ورمزيّة وسرياليّة… بل ظهرت «قصيدة النثر» أو «الشعر المنثور» مع أمين الريحاني منذ بدايات القرن الماضي؛ قبل ظهور «شعر التفعيلة» في الأربعينات مع شعراء العراق من أمثال السياب ونازك الملائكة والبياتي وبلند الحيدري…
غير أنّ السؤال الذي لا مناص من طرحه هو: ما هو مفهوم «المعاصرة»؟ وكيف نحدّ هذه «المعاصرة» عربيّا، حتّى نسوّغ مصطلح «أدبنا المعاصر»؟ ماذا يعني مثلا أن تكون القصيدة معاصرة؟ أن يكون الشاعر معاصراً؟ في حين أّنّ نصوصا غير قليلة تنتمي إلى ماضٍ ولّى وانقضى، قد تتخطّى زمن نشأتها، وقد تكون أقرب إلى بعضنا من نصوص معاصرة لنا زماناً ومكاناً. فلعلّ المعنى الأعمق لـ«المعاصرة» هو أن يكون المبدع منخرطاً في علاقة فريدة مع زمنه، وأن يمتلك من الحسّ أو الحدْس أو «الاستشراف» ما يجعله ينأى بنفسه عنه في الآن ذاته؛ أي أن يكون «هنا» و«هناك»، في راهنه وفي مستقبله. ولعلّها «المفارقة» التاريخيّة الأصعب، وهي في ما نرجّح «لبّ» المعاصرة.
ذلك أنّ المبدع الذي يتطابق تماماً مع العصر قيماً ورؤى وسنناً وقواعد، دون المخاطرة بنقدها أو اكتناه حوافّها وملابساتها السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة، قد تكون على عينه غشاوة ما، أو هو يعيش في عصره من دون أن يعيشه.
وقد يكون الشاعر المعاصر هو الذي يثبّت نظره على عصره، ليدرك لا الأضواء وحسب، بل الظلام أيضاً. فلعلّ المعاصر إذن هو من يعرف كيف يرى هذه الظلمة، كما يذهب إلى ذلك الإيطالي جورجو أغامبين: «المعاصر هو الذي يستقبل ملء وجهه حزمة الظلمات الآتية من زمانه». ماذا يحدث عندما نجد أنفسنا في بيئة محرومة من الضوء، أو عندما نغمض أعيننا؟ ما هو الظلام الذي نراه إذن؟ يوضح علماء الفسيولوجيا العصبيّة أن غياب الضوء يحفز سلسلة من الخلايا في محيط شبكيّة العين، تسمّى الخلايا غير المكتملة، والتي تدخل في النشاط وتنتج هذا النوع الخاصّ من الرؤية الذي نسمّيه الظلام، أو هو الغياب البسيط للضوء…
وهذا يفترض قدرة من المبدع حتى لا تعميه الأضواء التي يشرق منها العصر، على اكتشاف الوجه الآخر أي الظلام أو الظلّ. عندئذ فقط يمكن لنا أن نطلق عليه صفة المعاصر كلّما أدركنا من نصّه أنّه يعيش تجربة خاصّة للزمن، تصله بالراهن وتفصله عنه، تبعا لواقعه أو عدمه، ووفقاً للوجود أو الذي لم يعد موجوداً أي الماضي. وهذه العلاقة الخاصّة بالماضي لها أيضاً وجه آخر، إذ نحن نرى الحاضر عادة من خلال تمييزه عن القديم، والقديم من هذا المنظور هو الماضي أو القريب من الأصل. على أنّ الأصل لا يقع في الماضي الزمني فحسب: بل إنّه يعاصر المستقبل التاريخي، ولا يتوقّف عن التصرّف فيه، على نحو ما يستمرّ الجنين في العيش في أنسجة الكائن الحيّ. فلعلّ المعاصرة تجد أساسها في هذا القرب من الأصل، والبعد عنه في الآن نفسه. ومؤرّخو الفن والأدب يرون أنّ هناك «تلاقيا» ما بين القديم والحديث، ليس بسبب أنّ الأشكال الأكثر قِدماً تلوح وكأنّها تبسط سحراً على الحاضر الخاصّ؛ وإنّما لأنّ «مفتاح الحداثة» نفسه مخفيّ في القديم والحديث معا؛ لسبب قد نغفل عنه، ما تعلّق الأمر بالشعر، وهو أنّ اللغة نفسها «إرث»؛ ونحن نرثها كما هي نحواً وتركيباً، ولكنّنا نطعّمها بما جدّ واستجدّ في عصرنا. وكأنّ الطريق الذي يسلكه المبدع إلى الحاضر هو من «شعريّة الأثر» أو أنّ له شكل علم الآثار. وليس المقصود بذلك العودة إلى الماضي البعيد، وإنّما الانجذاب إلى الأصل، أي إلى ما يتعذّر أن نعيشه في الحاضر.
والحقّ أنّ هذا الطرح مغرٍ فأنْ يكون المبدع معاصرا يعني، بهذا المعنى، العودة إلى حاضر لم يكن فيه من قبل؛ إذ كلّ ماض كان حاضراً، ثمّ طواه الزمن في ما يطوي. وعليه يمكن أن نقرّر بكثير من الاطمئنان أنّ «المعاصرة» مفهوم تاريخيّ، وهي ترتبط في الغرب عند الذين يرتّبون هذه الظواهر ترتيباً زمنيّاً، بالفن المعاصر، وتحديداً بأعمال الفنّانين التشكيليّين التي أُنتِجتْ بعد 1945؛ وهي تختلف عن حركة الفنّ الحديث (1860-1945). والحقّ أنّ هذه مسألة «خلافيّة»، فليس ثمّة إجماع على الحدود الزمنيّة الفاصلة من جهة، وعلى «القيمة الفنّيّة» للأعمال التي تنتمي إلى هذه الحركة أو تلك، من جهة أخرى؛ فقد ينتج الفنّان المعاصر أثراً فنّيّا، لكنّه لا يُدرج في سياق هذه الحركة الفنيّة أو تلك؛ أي لا يصنّف، وقد يعتبر «كلاسيكيّاً» أو «غير طليعيّ» أو «غير معاصر»؛ ما دامت المعاصرة تعني «التزامن» أو «المعيّة» و«الطريقة الفنّيّة» الجارية أو المتواضع عليها. فلا بدّ من مراعاة «الخاصّ الجمالي» في تقدير العمل الفنّي المعاصر، على صعوبة ذلك بسبب ممّا يُسمّى «حجاب المعاصرة» أو اختلاف المنظور الفنّي. ولذلك يحسن أن لا نسلّم بهذه التسمية «الأدب المعاصر»؛ فالمعيار ليس التسلسل الزمني فحسب، وإنّما أيضا «الجماليّة المعاصرة» التي هي في جانب منها تنويع على «الفنّ الحديث» أو هي تحوّل وتحويل «كمّيّ نوعيّ» مقارنة بالفنون الكلاسيكيّة. وهذا يشمل الأدب على إقرارنا بما يقوله بيير بورديو من أنّ هناك زمناً خاصّاً بالأدب، وقياسه قد لا يناسب ضرورة قياس الزمن التاريخي [السياسي] أو «الرسمي». وهكذا فإنّ تعريف المعاصرة ليس بالبساطة التي قد يتصوّرها البعض، والمحدّد لها هي «سلطة النقد» الفنّي أو الأدبي ومؤسّساتها الاجتماعيّة والفكريّة؛ وهي التي «تتقبّل» أعمالاً وتعدّها معاصرة، وتستبعد أخرى؛ من دون أن تربط ذلك بفترة الإنتاج أو حتى بمحتوى الأعمال والآثار الفنّيّة من حيث الشكل والمرجع والمادّة؛ حتّى لَيصحّ ما يقوله البعض من أنّ «الفنّ المعاصر» أفضى إلى «عدم تعريف الفنّ» نفسه. ومن ثمّة أُلقي عبء النهوض بـ«حدّه» على نقّاده.
*كاتب من تونس

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب