مقالات

من يحلم: نحن أو دونالد ترامب؟

من يحلم: نحن أو دونالد ترامب؟

وسام سعادة

درج الحديث في الولاية الأولى لدونالد ترامب عن مهارته الأدائية لخدعة «الرجل المجنون».
وهي «النظرية» التي تُنسب للرئيس ريتشارد نيكسون في أيام الحرب الباردة وحرب فيتنام.
تقوم على حمل خصمك على الاقتناع بأنك شخص متهور، ليس ما يردعك أو يثنيك، ومن غير الممكن توقع ما يمكن أن تتخذه من قرارات ومجازفات، ما يدفعه الى التنازل اجتناباً للتصعيد.
يبدو أن الولاية الثانية لها تدبير آخر. ليست المناورة بالجنون لجرّ الخصم إلى التنازل، بل البناء على الشعور بأن الجميع ارتعد أساساً بمجرد وصول ترامب مجدداً إلى البيت الأبيض.
في المقابل، إطلاق العنان «للأحلام الغرائبية» بوضع اليد، بالمصادرات، لغرينلاند، لقناة بنما، ولغزة، ومواصلة الترداد بأنها أحلام وُضِعَ تطبيقها على السكة.
«أنا أحلم، أنتم تفاصيل في عالم أحلامي»: هذا ما يقوله الرئيس الأمريكي للعالم اليوم. الرجل لم يعد يتظاهر بجنون كي يحصّل تنازلات هنا وهناك. هو، قبل أن يصادر هذه القطعة من اليابسة أو تلك يعلن على رؤوس الأشهاد ما يحلم به، ويترك سواه مصدوماً بما يبدو خيالاً طفولياً كثير الرعونة يبثه من يتقلّد أخطر منصب تنفيذي في العالم كبرنامج شراهة وصدمة وعمل.
ما استطاع أمثال ستيف بانون وجون بولتون في إدارته الأولى الانسجام مع إيقاع لعبة التظاهر بالجنون التي أجادها رئيسهم، والتي كانت تستدعي مقداراً كبيراً من العشوائية والارتجالية.
إدارته الحالية تبدو في المقابل كثيرة الولع بالمستقبليات، بالأحلام الغرائبية التطبيقية: بدءاً من استيطان المريخ. يعوّل ترامب على هذه السمة «الحلمية» في إدارته الحالية على أنها ستحول دون نزيف كبار الموظفين الذين استقالوا تباعاً في إدارته السابقة. هو يحلم، ثم يقع على العالم تفسير حلمه، على قاعدة انتظار كيفية تطبيقه.
تعدينا التظاهر بالجنون هنا، إنه الجنون الذي يتظاهر بالمستقبليات، بالحلم. جنون من يرى أن كل السلطة لأحلامه، ولا أحلام للآخرين. جنون الكابوس.
ففي الوقت نفسه، الحلم هنا لا يحضر فقط كتعبير مُحوَّر عن رغبة دفينة أو مقموعة. بالإذن من التحليل النفسي. ولا كتراخ للتجانس المنطقي. بالإذن من علوم الإدراك. إنما يحضر الحلم كرياء مطلق مقروناً بأزيز صوت ترامب المتواصل.

أليست المشكلة، في جزء منها، في غياب تصور ينبت بين هذه الشعوب، على هذه الأرض، لكيفية تدبر الحياة، بتعدديتها، في هذه المنطقة؟

في العادة درج تأويل الأحلام على أنها أقل رياء من حال اليقظة. الأحلام الترامبية بالضد من ذلك. هي الحلم بالرياء المطلق. فهكذا يظهر الكابوس الذي يقترحه ترامب على سكان غزة لإخراجهم من كابوس الدمار والموت. إخراجهم بتحريرهم من قطاع غزة. تفريقهم بين الأمم. تذويبهم. مصادرة أرضهم لبناء منتجعات سياحية. انتظار أن يكون العرض مغرياً، لا عاقل يرفضه. نحن هنا في عالم الحلم بالكامل، لكنه حلم معجون بطبقة كثيفة من الرياء. وهذا الحلم يريد حبس عالم اليقظة فيه. لا ينفك ترامب يردد كل يوم حلمه هذا، وأنه لأمر مبرم، لا رجعة فيه، لا مناص. المدهش أن هذا الحلم يقوم على تذويب أهل غزة في الكل العربي والكل الإسلامي، هم لا يشكلون شعبا له حق تقرير المصير بالنسبة إلى ترامب، بل جزء من شعب يصل تعداده إلى ملياري بشري: المسلمون. في الوقت نفسه، ترامب مطمئن بأن هذين المليارين يمكنهما تحمل بعثرة الفلسطينيين هنا وهناك. أقصى القول بوجود أمة إسلامية في هذا المقترح الترامبي. وأقصى اطمئنان إلى أنه ما عاد من الممكن أن تقول لا. إنها تحت السيطرة. وأن المشكلة من الأساس هي في عدم السماح للفلسطينيين منذ حرب 1948 بالذوبان في عموم المسلمين. بماذا تواجه هذه الطاقة الحلمية عند ترامب؟
حتى الآن إما بأضغاث أحلام ميتة، وإما بالخوف من الحلم.
هكذا، في ظل إمبريالية «الكابوس» يعيش الشرق الأوسط واحدة من مراحل تاريخه المعاصرة الكالحة، بشكل يفوق ربما على العقود التي سلفت. فبعد عقود من تكالبهما على شعوبه، هذا ما جناه على شعوب المنطقة الاستعمار والاستبداد. التفاؤليات تنتشر هنا وهناك بأن ثمة فرصا يمكن أن يقتنصها هذا الشعب أو ذاك. هيهات. التشاؤم وحده يمكن أن يدفع إلى التفاؤل بأن العقول لم تضمر كلياً، وبأن العقل الذي لم يضمر هو العقل الذي لم يزل قادراً ليس فقط على الحساب والتحسب، بل قبل كل شيء على الحلم. الحلم بأنك لست بتفصيل في مسردة أحلام الرئيس الأمريكي.
يريد من يرغب في هذه المنطقة أن يجعلنا نفاضل بين استعمار واستبداد طول الوقت. المفاضلة العملية ربما تجد ما يبررها في لحظة معينة، في سياق معين. لكن المفاضلة على طول الخط، المفاضلة «التاريخية» بين استبداد واستعمار هي في أقل الإيمان افتراء على التاريخ، اختزالية محض، سطحية مطلقة، إعدام للأفق، وهي تعني اليوم قبول الدخول في المنطق الذي يقترحه عليك الكابوس.
المفارقة أنه كلما ابتعدنا عن الخلفية النضالوية لوزن الأشياء كلما كان بالمستطاع رؤية الأمور بالكلية أكثر. كتكالب كثيف لا ينتهي بين استعمار واستبداد. كلما كان إصرار في المقابل على الخلفية النضالوية للخوض في الأشياء ستجد نفسك عالقاً في دهليز الكابوس الذي يقدم نفسه على أنه مخرج لك من كابوس آخر. لأجل ذلك، كل هذا الازدراء لأهمية التأمل، لصالح امتداح الأفعال التطبيقية لا يمكنه إلا أن يزجك في سجن الكابوس أكثر. ثمة مساحة أساسية للتأمل يؤدي التفريط بها للانسحاق في عالم يراد فيه حرمان السواد الأعظم من البشر فيها من ملكة الحلم، لصالح تخييرهم بين مروحة من كوابيس، تحتل موقع الصدارة فيها في الوقت الحالي أحلام ترامب، وبخاصة حلمه المتعلق بغزة. فهل نحن جزء من تفاصيل عالم أحلامه؟ أو هو جزء من الواقع؟ لكن هل يمكن استئناف الحلم دون نفض كامل للسرديات التي لم تسعف لبنانيا وفلسطينيا وسوريا من عقود، بل زادت الطين بلة أضعافا؟ أليست المشكلة، في جزء منها، في غياب تصور ينبت بين هذه الشعوب، على هذه الأرض، لكيفية تدبر الحياة، بتعدديتها، في هذه المنطقة؟ فكرة أنه بعد انقضاء «القومية العربية» على كل مجتمع أن يحبس نفسه في كيانيته الوطنية أليست تساهم في تجفيف القدرة على الحلم؟ وكيف يكون الحلم في هذه المنطقة إن لم يكن متعلقاً بالمسارات المشتركة بين مختلف شعوبها؟

كاتب وصحافي لبناني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب