مقالات
وثائق بريمر الحاكم العسكري للعراق(الجزء الثالث والأخير) بقلم الدكتور عبده شحيتلي-طليعة لبنان –
بقلم الدكتور عبده شحيتلي-طليعة لبنان -
وثائق بريمر الحاكم العسكري للعراق(الجزء الثالث والأخير)
بقلم الدكتور عبده شحيتلي-طليعة لبنان –
في الجزئين السابقين من بحثنا تناولنا المقدمات والأهداف المعلنة لاحتلال العراق من خلال المدونات اليومية لبول بريمر الحاكم العسكري للعراق التي تبين سعي الاحتلال لترسيخ أقدامه، والسيطرة على العراق من خلال ما سمي بالعملية السياسية، ومقاومة الشعب العراقي البطلة لهذا الاحتلال .
فيما يلي نعرض لبعض وقائع ما سمي بالعملية السياسية الهادفة الى القضاء على الدولة العراقية المركزية القوية، والعاملة على خلق هويات مذهبية وإثنية بديلة تحت عناوين الفدرلة ،والحريات السياسية والاقتصادية.
6- فدرالية الطوائف والديمقراطية المستوردة
العراق ،كما تراه العين الامبريالية الأميركية (ص54 )التي كلفت بريمر بفكفكته، مستعينا بجيوش الإحتلال والحكام الجدد القادمين على دباباته ليعاد تركيبه من جديد، شعب متباين وتوليفة من اختلافات إثنية وطائفية حادة . هكذا جاء الاحتلال الأميركي ليصحح مسارالتاريخ في العراق ، ويعيد الحق لأهله ! لذلك دعا بريمر المسؤولين الشيعة في العراق تحت الاحتلال الى التعاون مع مسعاه لكي لا يقعوا في ” الخطأ نفسه الذي ارتكبوه عام 1920 ” ( ص 108 ).
لا يبيّن بريمر مصدره في تحديد نسبة الطوائف والمذاهب في المجتمع العراقي عشية الاحتلال . كذلك يتوهم قارىء كتابه ، إذا كان غير مطلع على تاريخ العراق، أن البعثيين استلموا السلطة في العراق من العثمانيين عام 1968 !
وهو لا يكتفي بالتشريح المذهبي للمجتمع العراقي ، فيتابع مبضعه “الحضاري” تشريح العراق إثنيا ليميز ما بين السني العربي والسني غير العربي، ليصل الى النتيجة التي يراها منطقية وهي : إن مقتضيات الديمقراطية في العراق أن يكون التمثيل في السلطة متناسبا مع الاختلافات الاثنية والطائفية ، وأن يكون الحكم هذه المرة لما اعتبره بريمر الاكثرية الشيعية التي يعتقد أن روابط قوية تربطها بإيران (ص54 ).هكذا قسم الاحتلال العراق الى إثنيات ومذاهب وتلاعب بنسبة عدد المذاهب الى مجموع الشعب العراقي على هواه ، وقرر أن الشيعة هم “الأكثرية الساحقة “، وربطهم بما يشبه التلزيم الذي يجيده المقاولون بإيران. ويعتبر أنه ، أي الاحتلال أتى لتصحيح أخطاء التاريخ على يديه ، والوصفة المناسبة لذلك هي: دستور فدرالي جديد يكرس حكم “الأغلبية” ذات الروابط القوية بإيران ، ولكي يتم ذلك لا بد من فتوى مضادة لفتوى 1920 لا يمكن أن يصدرها الا المرجع الأول للشيعة في العراق أية الله السيستاني.
كانت قيادات “الأحزاب الشيعية” التي دخلت الى العراق بعد مشاركتها في مؤتمر لندن عام 2002 ، حين كانت إدارة بوش تعد لاحتلال العراق وإزاحة نظامه الوطني بإدارة السفير “زلماي خليل زادة” بصفته ” مبعوث الإدارة الإميركية لدى المعارضة العراقية ” ، و”ديفيد بيرس” عن وزارة الخارجية الأميركية، إضافة الى ممثلين عن جهاز الأمن القومي الأميركي ووزارة الخارجية البريطانية ،فاقدة لأي مصداقية وطنية وتوصم معظم أطرافها بالعمالة أو التعاون أو التبعية للمحتل الأميركي وشريكه البريطاني ، أو لإيران ؛ وبعد أن أدت الدور الذي يخدم أهداف التحضير للاحتلال ، والعمل تحت إدارته بعده ، عمل بريمر بعد أن تولى إدارة مجلس الحكم المكون على أساس إثني ومذهبي على التواصل مع المرجعية الشيعية في العراق لكي تكون عوناً له في تسويق خطابه الذي يقنع العراقيين أن الاحتلال اتى لتحريرهم ،وإرساء الديمقراطية في العراق على قاعدة إنهاء “الحكم السني” المستمر منذ ا كثر من أربعمئة عام على حساب ما اعتبر “اكثرية شيعية” ، التي تأخذ موقعها في السلطة بسبب خطأ المرجعية التي رفضت التعاون مع الاستعمار البريطاني عام 1920 .ولا يتورع بريمر عن تبني مسلمة تتعلق بالصراع التاريخي بين السنة والشيعة ، يعبر عنها بقناعته باضطهاد السنة للشيعة تاريخياً ، الأمر الذي يدفع الشيعة “الى الانتقام مما فعله بهم السنة على مدى ألف عام “. (ص 290 )
يقول بريمر إنه كان يتواصل مع السيستاني بانتظام “من خلال الوسطاء “طوال المدة التي قضاها الائتلاف في العراق، وإن آية الله أبلغه بأن تجنب الاتصال العام معه يتيح له أن يكون ذا فائدة كبرى في “مساعينا المشترك ” ، وأنه ، أي السيستاني ،”قد يفقد بعض مصداقيته في أوساط المؤمنين إذا تعاون علناً مع مسؤولي الائتلاف ” لكنه ،كما يؤكد بريمر، ” سيعمل معنا ، فنحن نتقاسم الأهداف نفسها”( ص 214 ). ويؤكد بريمر أنه شدّد في التواصل مع السيستاني على أن الأميركيين جاؤوا “محررين لا محتلين “. في هذا الاطار يذكر أنه بين أواسط تموز وأواسط أيلول 2003 تبادل معه “أكثر من عشر رسائل” وفيها “عبّر السيستاني بشكل متكرر عن امتنانه الشخصي لكل ما فعله الائتلاف من أجل الشيعة والعراق ” ( ص 214 ).
في هذه الفترة كان أية الله حسين الصدر من القنوات غير المباشرة التي يقول بريمر أنه عمل ” على فتحها مع السيستاني ” (ص 215 ). كذلك موفق الربيعي كان من ناقلي الرسائل المتعلقة بما يسميه بريمر “مصالحنا المشتركة ” ؛ فحين شعر السيستاني أنه مهدد ممن يصفه بريمر بالشاب المتطرف أي “مقتدى الصدر” أبلغ بريمر بواسطة الربيعي الذي نقل رسالة الى السيستاني بشأن ما يسميه “مصلحتنا المشتركة “(ص253 ) ، ” بأن خياره الأفضل هو ألا يبقى مقتدى “( ص 254 ). وقد بلغ عمق العلاقة بينهما حد إبلاغ بريمر بمضمون الرسائل التي وردت من الرئيس السوري بشار الأسد الى السيستاني المتعلقة بموضوع التعاون مع الاحتلال .(ص 254 ).
بالاضافة الى هاتين القناتين للاتصال غير المباشر المتمثلتين بالصدر والربيعي يذكر بريمر أن ” عماد ضياء “كان قناته الخاصة للتواصل مع السيستاني ،وهو “عراقي- أميركي من المقيمين في ديترويت ومن عائلة محترمة في النجف ، وغالباً ما اثبت فائدته كقناة سرية للاتصال بآية الله العظمى ” وأنه كان يثق به أكثر من الآخرين لأنه لا يغير رسائله أو يحرفها لأسباب حزبية كما قد يفعل الآخران (ص 307) . أتاح تعدد الوسطاء لبريمر أن يتبادل مع السيستاني في الأشهر الأربعة عشر التي قضاها في العراق “ما يزيد عن ثلاثين رسالة ” كانت بالنسبة له ” مفيدة للغاية “( ص 478 )
حرص بريمر على التواصل مع السيستاني، المصمم على التأثير في العملية السياسية ، والذي يرى من مقره في النجف العراق والعالم الأوسع من خلال المنظور الديني االاسلامي الشيعي ، فضلاً عن منظور السياسة المتشددة ، كما يقول بريمر (ص 243 ) ،كان منطلقاً من خلفية السعي الى انجاح هدفه في تفكيك الدولة العراقية القائمة على اساس مركزي وطني يستند الى الهوية العراقية العربية، لتأسيس عراق جديد يقوم على اساس فدرالي تتحول فيه الانتماءات الدينية والمذهبية الى هويات تعلو على الهوية الوطنية العراقية، وتنتزع العراق من انتمائه العربي . وقد وجد في المرجعية الشيعية ضالته لأنه كان يعلم أن ” الأحزاب السياسية لا تحظى بشعبية في العراق ” ( ص 434 ).
لقد اعتمد على هذه الأحزاب لتكون واجهة داخلية عراقية للاحتلال ، ووجد في مباركة المرجعية للعملية السياسية التي تعتمد على هذه الأحزاب ما يسبغ عليها شيئاً من المشروعية الدينية ” والوطنية”. وكانت الصيغة التي تجمع ما يسمى بالمكونات في مجلس الحكم هي الأساس الذي اعتمده الاحتلال للقضاء على فكرة الدولة الوطنية المركزية، والاتجاه نحو ترسيخ فكرة الفدرالية في الحكم .
يؤكد بريمر أنه أبلغ جلال الطالباني، من أجل إقناعه بالمشاركة في مجلس الحكم ،منذ بداية الاحتلال ، أن ادارته مصممة ” على دعم إنشاء عراق فيدرالي ” (ص 123 ). منذ البداية كان هذا هدفهم على مستوى السلطة السياسية ويضاف اليه على المستوى الاقتصادي ما اطلق عليه بريمر تسمية ” الهدف الاستراتيجي للإئتلاف ” وهو ” فتح الاقتصاد العراقي على العالم ” (ص 103 ).
ليست الفدرالية بحد ذاتها نظاماً جيداً أو سيئاً ؛ فالكثير من الدول المستقرة والمزدهرة في العالم تعتمد النظام الفدرالي ، وكذلك الكثير من الدول التي تقوم على النظام المركزي. لكن الفدرالية ،حين تتعدى الطابع الإداري وتبنى على فرضية الهويات المجتمعية المتعددة، تتحول الى عامل تهديد للكيان الوطني، وتدخل المجتمعات في دوامة الاضطراب والنزاع الذي يمزق النسيج الاجتماعي ووحدة الدولة .
هناك تمايز حاسم ما بين الانتماء الوطني والاعتقاد الديني . لا يمكن للاعتقاد الديني أن يتحول الى هوية مجتمعية . يسود التنوع الديني في العدد الأكبر من مجتمعات الدول ، فدرالية كانت أو مركزية ، وحيث تحول الانتماء الديني الى هوية وطنية كانت النتيجة الأكيدة ، الحروب الأهلية التي تمزق النسيج الاجتماعي وتجعل الكيان الوطني عرضة للانفصال والتقسيم .
تصح الفدرالية لأسباب إدارية وجغرافية ، ولكن مخاطرها على الوحدة الوطنية وهوية الكيان الوطنية تغدو كبيرة جداً حين تعتمد لأسباب إثنية أو طائفية أومذهبية في مجتمعات طالما تميزت بوحدتها الوطنية رغم التنوع الديني والاثني ، لأن إدارة التنوع الديني والثقافي في إطار الوحدة الوطنية يشكل الأساس الذي تبنى عليه الدساتير والقوانين المدنية في الدولة الحديثة .
الهوية الوطنية المبنية على الانتماء العربي لا يمكن ان تكون إلا موحدة وجامعة ، والاثنيات غير العربية في الوطن العربي التي حافظت على هويتها الثقافية تشكل عامل غنى وتنوع في الهوية الوطنية ، ومن حقها التعبير عن ثقافتها والمشاركة في بناء الوطن على اساس المواطنية المبنية على مبدأ التساوي في الحقوق والواجبات ،في إطار القوانين المدنية بعيداً عن أي شكل من أشكال التمييزفي الحقوق الفردية والسياسية والاجتماعية ، وكل ما يؤدي الى المس بالكرامة الإنسانية.
ما كان هدف الاحتلال الأميركي للعراق تقسيمه جغرافياً ، لأن السيطرة عليه واستغلال ثرواته ، واستخدامه كمنصة لإعادة تشكيل المنطقة وفقاً لمشروع الشرق الوسط الجديد ، تغدو أصعب إذا تعددت السلطات ودخلت في نزاعات لا تنتهي فيما بينها ؛ لذلك كان هدفهم المحافظة على وحدة العراق جغرافياً ،وإعادة تشكيل السلطة على أساس فدرالي .
هذا النوع من النظام الفدرالي الجديد يضعف الدولة ، ويعمل على خلق هويات مجتمعية بالتساوق مع نظام محاصصة ينسحب من مواقع السلطة الى المواقع في الإدارة ، وتلعب المؤسسات الدينية فيه دوراً موازيا للمؤسسات الدستورية.
نجح الاحتلال على يد بريمر منذ تجربة مجلس الحكم وصولاً الى تشكيل اول حكومة ، ووضع دستور جديد للعراق في تأسيس هذا الشكل من فدرلية النظام السياسي الذي يحول التنوع المجتمعي الى هويات سياسية تبحث عن حماية خارجية لمواقعها في السلطة، وقد كان المحتل وقواعده وسفارته ،التي غدت اكبر سفارة له في العالم ،الحامي الأول والأكبر للمواقع في السلطة ،الأمر الذي يجعله قادراً على الاستمرار في الوجود وتحقيق أهدافه حتى وإن عمل ،مختاراً أو مضطراً، لمشاركة القوى الإقليمية ،وبشكل خاص إيران أولاً وتركيا ثانياً ،في تشكيل السلطة وإدارة عملية النهب المنظم لثروات العراق المستمرة منذ العام 2003 .ولا عجب بعد اثنتين وعشرين سنة من الاحتلال أن يكون العراق ،الغني بثرواته وطاقاته البشرية بلداً يعاني من المديونية والفقر ،وتدني مستوى الخدمات من الكهرباء الى الصحة والتعليم ومختلف البنى التحتية، ناهيك عن واقع جيشه وقواه الأمنية التي تعاني ما تعانيه.
7- فدرالية السلطة وحرية الاقتصاد: فدرالية السلطة وفتح الاقتصاد العراقي للعالم هي الأهداف الأساسية التي أعلنها بريمر للاحتلال ، لأن إدارته تتبنى النظرية القائلة :” من المسلم به أن الحريتين السياسية والاقتصادية تسيران جنباً الى جنب ” (ص104 ). اذا كانت الحرية السياسية، كما تراها إدارة الاحتلال ، تقود الى نظام فدرالية الطوائف ، فإن الحرية الاقتصادية، بعرف هذه الادارة ، تقتضي القضاء على اساسين للدولة الوطنية العراقية هما :الرعاية الاجتماعية وحماية الثروة الوطنية .
يرسم بريمر صورة لمظاهر دولة الرعاية الاجتماعية التي ارساها النظام الوطني في العراق على النحو الآتي:
– سعر ليتر البنزين في تركيا يزيد أربعين ضعفاً عن سعره في العراق ” (ص 68 ).
– “سعر الغاز المسال في تركيا يرتفع الى مئة وخمسين ضعفاً “(ص 88 )
– “أسعار رمزية للكهرباء” .(ص89 )
– “سنة 1995 بدأ صدام حسين نظام الحصص التموينية ، فمنح رب كل أسرة بطاقة تموينية تخول أسرته الحصول على سلة غذائية توزع من خلال نحو أربعين ألف متجر للبيع بالمفرق في كل البلاد ” (ص 89 ). وكانت وزارة التجارة تتمتع بحق حصري في استيراد المنتجات الغذائية التي تدخل في السلة ، وتمتلك الوزارة ستة وثلاثين صومعة ضخمة لتخزين الشعير والقمح ، ولديها نحو ثلاثة آلاف شاحنة لتوزيع السلع .
ويؤكد بريمر أن ” صدام حسين أمر قبل الحرب بتزويد العراقيين بمؤن تكفي لمدة ثلاثة أشهر من المواد الأساسية ، لذلك لم تشكل المجاعة تهديداً وشيكاً ” (ص 39 ) عند بداية الاحتلال.
ولابقاء المزارعين في مزارعهم ، و”معظمهم من الشيعة “كما يؤكد بريمر، لجأت الحكومة العراقية الى مزيد من الدعم ببيع البذار والأسمدة والمبيدات الحشرية بربع كلفتها . (ص ص 89-90 ).
– العراق بشعبه المتعلم والمجد ، كما يؤكد بريمر، سيساعد في تحويل المنطقة ذات يوم (ص95 ) ، ولكنه يتناسى أن هذا الشعب عاش في كنف دولة الرعاية الاجتماعية التي أمنت التعليم المجاني في مختلف مراحل التعلم ، وابتعاث المتفوقين الى أفضل الجامعات العالمية للدراسات العليا .
للقضاء على فكرة هذه الدولة بما هي دولة رعاية اجتماعية في الاقتصاد والتعليم والرعاية الصحية الشاملة والمجانية التي يتم تقديمها في ” مستشفيات البلد المئتين والأربعين ” (ص 151 )، وضع الاحتلال هدفاً استراتيجياً له منذ البداية هو :” فتح الاقتصاد العراقي على العالم ” (ص 103 )، وكان الطريق الى ذلك عبر مسارين : 1-العمل على جلب المستثمرين الأجانب للسيطرة على مختلف مناحي الانتاج والتصنيع واستخراج الثروات ، خاصة في ميدان النفط ، ولذلك حرص الاحتلال منذ يومه الأول على حراسة وزراة النفط وحمايتها؛ فقد نجت هذه الوزارة كما يقول بريمر ” لأن القوات الأميركية أمرت بحراسة الموقع ” (ص 29 ) حين كانت الفوضى والنهب يسودان في كل مكان ؛ فقد تمت حماية هذه الوزارة بمبناها وكل ما فيها من موجودات ، بينما اجتاح الناهبون الوزارات الأخرى والإدارات ، ومعامل الكهرباء والمحطات الفرعية لسرقة أدوات التحكم والعدادات والاجهزة الالكترونية ، كما أنهم دمروا أبراج الكهرباء لسرقة الأسلاك النحاسية وتذويبها وبيعها في السوق السوداء، ويشير الى أن الشبكة الكهربائية في العراق كانت “تضم اثني عشر الف ميل من خطوط الكهرباء ” (ص 151 )
تحرير العراق بعرف الأميركيين وحلفاؤهم البريطانيين يتطلب القضاء على دولة الرعاية الاجتماعية ، واعتماد نظام الاقتصاد الحر لتدخل الرساميل وتخرج بالطريقة التي تخدم النظام الرأسمالي وتسمح لشركاته بالتحكم بالسوق التجاري واستثمار ثروات العراق ، لا سيما في ميدان النفط لكي يثأروا لقرار التأميم الذي بادرت اليه السلطة الوطنية العراقية منذ بداية سبعينيات القرن العشرين ، ويعيدوا الاقتصاد العراقي الى حظيرة الهيمنة الامبريالية الغربية .
2- المسارعة الى وضع الخطط “لتعليم العراقيين النافذين أسس الاقتصاد الحر: (ص 86 )؛ ومن أجل ذلك تم استحضار ” بيتر ماكفيرسون “ليقيم الندوات الأسبوعية للعاملين في الوزارات ، ” والقادة السياسيين الشباب الواعدين ” الذين سيديرون القطاع الخاص الوليد. يقول بريمر إن هدفه من ذلك كان تطوير ” هذه الجلسات الى نوع من مجلس المستشارين الاقتصاديين للحكومة المؤقتة ” (ص 86 ) التي ينوي تشكيلها. ويؤكد أنه في الوقت القصير الذي أمضاه في العراق تأثر ” مراراً وتكرارا” بالقدرات التقنية الاستثنائية التي يمتلكها العراقيون العاملون في الحكومة والصناعة ” ( ص104)، وكان يرى أنهم بحاجة الى الفرصة فقط لاستغلال هذه المهارات في عمل منتج . هذه الفرصة هي ما سيتيحها الاحتلال من خلال القضاء على أسس دولة الرعاية الاجتماعية ،وجعل النافذين يسيطرون على الاقتصاد الحر! بعد القضاء على ما يسميه “البيروقراطية العراقية ” التي كانت تحاذر التسرع في القرارات خوفاً من الوقوع في الخطأ تفادياً لما يسميه ” وحشية صدام “التي علمتهم ” ألا يرتكبوا أي خطأ “(ص 145 ).ومن هم هؤلاء النافذون؟ إنهم أنفسهم الذين اختارهم بريمر ليكونوا واجهة للاحتلال في مجلس الحكم ثم مجلس الوزراء الذي كان عليه بعد تشكيله أن يعمل تحت إشراف مستشاري سلطة الائتلاف المؤقتة أي فريق الحكم الأميركي البريطاني بعد أن نبههم بريمر قائلاً لهم : ” أحببتم ذلك أم كرهتم … الائتلاف هو السلطة السيدة هنا”(ص205 ) ، وابلغهم أن مجلس الحكم اتخذ في صباح نفس اليوم الذي عقد فيه مجلس الوزراء أول اجتماع له ” خطوة بالغة الأهمية بالموافقة على الاصلاحات الاقتصادية القوية التي تقدم بها بيتر ماكفيرسون ، واهمها إبطال الحظر الذي فرضه صدام حسين على الاستثمارات الأجنبية”(ص205 ). ولا شك بان ذلك يطال أول ما يطال قطاع النفط ، ليكون هذا القرار بمثابة ثأر تأخر اكثر من ثلاة عقود من قرار تأميم النفط الذي حرر الثروة النفط ،وجعل الاستثمار في ثروة العراق بعيدا عن النهب الاستعماري للشركات البريطانية خاصة والغربية عامة.
بالاضافة الى ذلك عملت إدارة الاحتلال على إنشاء مصرف مركزي مستقل ” لأول مرة في العراق (ص152 ) من جهة ،وعلى وضع قوانين لتحرير التجارة والاستثمار من جهة أخرى .
ليصبح العراق بجيشه الجديد وتسليحه ، واقتصاده الحر ، والشركات المستثمرة في ثرواته خاضعا لاحتلال يدوم ويتغلغل في كل مفاصل الدولة العراقية ،بعد نهاية الاحتلال العسكري .
8- على هامش البحث: 1- حدد بريمر كلفة إعادة إعمار العراق في مختلف المجالات بمبلغ يترواح بين 55 و77 مليار دولار .وأكد أن الأمم المتحدة كانت تحتجز ” مليارات الدولارات العائدة للشعب العراقي” (ص181 ). ورغم الارتفاع الكبير في اسعار النفط حيث تجاوز سعر برميل النفط حاجز المئة دولار ، وبلوغ مداخيل العراق من النفط أكثر من 550 مليار دولار في اقل التقديرات لا يزال العراق يعاني من تدني مستوى الخدمات والرواتب والأجور ناهيك عن غياب مشاريع البناء والمشاريع الانتاجية في ميادين التعليم والصحة والكهرباء والمياه والصناعة والزراعة …الخ
2 – عبر بريمر ، كما ورد في كتابه ،انزعاجه من قرارالعفو عن جميع المساجين الذي اتخذته القيادة العراقية عشية الحرب ،لأن بعض هؤلاء المساجين تسببوا برأيه بعمليات النهب والفوضى التى كانت قوات الاحتلال عاجزة الى حد بعيد عن السيطرة عليها ، لكن هذه السجون عادت لتمتلىء بأكثر من 10000 معتقل كما يعترف بريمر (ص 440 )كانوا يحتجزون الى اجل غير محدد ، ورغم قوله بانه كان يكره هذا العمل ، ألا انه كان يعتبر أنه ” لا بد منه ” رغم معرفته بالانطباع السيء الذي يحدثه في العراق والخارح على السواء.وقد كانت العشوائية والفوضى وانعدام الحس الإنساني سائدة في عمليات الاعتقال الى الحد الذي جعل بريمر يعترف أنه كان يبحث عن قاض عجوز تم اعتقاله ظلماً ، وقد ” استغرق الأمر ثلاثة أسابيع لتحديد مكانه ، وعشرة أيام أخرى قبل أن يطلق سراحه”(172 ).لقد ثارت ثائرة بريمر كما يقول بسبب هذه الواقعة ، ولكن فضيحة التعذيب في سجن ابو غريب كشفت زيف ادعاءاته وبينت أن ممارسات الاحتلال أكثر ظلما وبشاعة من الممارسات التي يزعم الاحتلال انه اتى للقضاء عليها.
3-يذكر بريمر في سياق حديثه عن المعارضة العراقية التي تعاونت مع الاحتلال وقائع تتعلق بما تسميه هذه المعارضة ” الانتفاضة الشعبانية ” ، فيقول : عندما انسحب الجيش العراقي من الكويت ، و”بناء على دعوة مبهمة من الائتلاف المنتصر في حرب الخليج تمكن “الثوار الشيعة” بقيادة فارين من الجيش باسلحة خفيفة ، من الاستيلاء على البلدات والمدن ، وإعدام المسؤولين البعثيين ، وشكلوا تهديداً خطيراً لنظام صدام ” (ص 70 ).
في تأكيده لهذا الاستهداف للبعثيين وعائلاتهم من قبل من يسميهم الثوار الذين استجابوا لدعوة مبهمة من قيادة الائتلاف لاسقاط النظام العراقي ، يؤكد بريمر حقيقة استهداف النظام الوطني والبعثيين الذين تم غدرهم ، واغتيالهم ودفنهم في اماكن مجهولة ، قبل ان يستعيد الجيش العراقي السيطرة وإعادة النظام .
4- إيران غيت :في سياق حديث رامسفيلد عن استيائه من تدخل كوندليسا رايس في المسائل الأمنية العملياتية ،قال رامسفيلد لبريمر إنه “عندما تدخل مجلس الأمن القومي في القضايا العملانية لآخر مرة حدثت إيران- كونترا “وهذا يشكل دليلاً كافياً لمن يشكك بهذه الواقعة الشهيرة التي حدثت أثناء الحرب العراقية – الإيرانية حيث قامت الولايات المتحدة بتزويد إيران باسلحة اشترتها من الكيان الصهيوني .
خاتمة: كان احتلال العراق في العام 2003 في لحظة دولية مؤاتية للدولة الأميركية العميقة التي يتحكم بها من كانوا يسمون بالمحافظين الجدد ، إيذاناً بمرحلة جديدة من السعي المحموم للسيطرة على العالم . الذين ظنوا انه يمكن لهم أن يهادنوا الاحتلال اويشاركوا في الغنيمة ، أو يتجنبوا إغضابه ، خاصة الانظمة العربية ودول الإقليم ، لم يتأخروا في اكتشاف الأهداف العدوانية التي طالتهم جميعاً. لا فرق جوهري بين الديمقراطيين والجمهوريين فيما يتعلق بالأهداف الكبرى للدولة العميقة في أميركا الساعية الى أمن الكيان الصهيوني الذي يتطلب تصفية القضية الفلسطينية ،والسيطرة على النفط والغاز وممرات نقلهما عبر الأرض العربية الى اوروبا ،ناهيك عن محاربة الصين تجارياً والعمل على تطويقها ،وفتح الطريق اما ما سمي “بالكوريدور الهندي” للسيطرة على الاستثمارات والتجارة في سوق تضم مئات ملايين البشر وثروات طبيعية هائلة . وهاهي “الترامبية” اليوم تعتمد اساليب الدبلوماسية الفظة والوقحة لكي تقول للجميع أنا سيد العالم ومن يريد رعايتي وحمايتي عليه أن يخضع ويدفع . حين انهار حائط الصد العراقي صار الصمود أمام دفق الفيضان اشبه بالمهمة المستحلية ، وحري بكل من ساهم في ذلك، او تخلف عن فعل كان ينبغي فعله ،او جلس على التلة منتظراً، أن يقول : أكلت يوم أكل الثور البيض .