أمريكا تختار العزلة… الحرب التجارية ضد العالم تجعلها دولة منبوذة معادية للديمقراطية

أمريكا تختار العزلة… الحرب التجارية ضد العالم تجعلها دولة منبوذة معادية للديمقراطية
إبراهيم نوار
النسخة الجديدة من الحرب التجارية «الترامبنوميكسة» ضد العالم ليست موجهة ضد خصوم الولايات المتحدة فقط، ولكنها تشمل شركاءها التجاريين الذين تربطهم علاقات تجارية منظمة باتفاقيات مثل اتفاقية منطقة التجارة الحرة بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، كما تضم دول الاتحاد الأوروبي إلى جانب الصين. ومن شأن توسيع نطاق الحرب التجارية حرمان الولايات المتحدة من ميزة مطالبة الدول الغربية بتطبيق نظام العقوبات الثانوية ضد الصين وبقية خصوم أمريكا، لأن هذه الدول نفسها تعهد ترامب بإخضاع صادراتها إلى بلاده لرسوم جمركية إضافية، وطالب البعض منها بتقديم تنازلات في حقوق السيادة مثل حالة كل من كندا التي يريد ضمها لتصبح الولاية 51، والدنمارك التي يريد تجريدها من حقوق السيادة على جزيرة غرينلاند إما بالشراء أو بوسائل أخرى. ويجسد ترامب في فترة رئاسته الثانية نموذج الحاكم الخارج على القانون والمؤسسات الذي يحكم حكما فرديا تسلطيا، يحيط به مجموعة من كبار الأثرياء الأمريكان بصرف النظر عن مصدر ثرواتهم. «الترامبنوميكس» تضع مجلس الاحتياط الفيدرالي الأمريكي في ورطة، نتيجة إدخال متغير جديد لم يكن في الحسبان، يحد من قدرة الفيدرالي على تخفيض سعر الفائدة على الدولار من أجل إطلاق محركات النمو المقيدة بأسعار فائدة مرتفعة تثقل كاهل تكلفة الإنتاج، ومعدل تضخم مرتفع يأكل أرباح المنتجين، ويضعف القيمة الشرائية لدخول المستهلكين.
تناقض مع القيم الديمقراطية
هذا النموذج للحاكم الذي يجسده ترامب يتناقض بشكل صارخ مع منظومة القيم الديمقراطية التي تجمع الدول الغربية ذات النظام السياسي الليبرالي، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى انفصال النظام الأمريكي عن تلك المنظومة، والتصرف خارج حدودها تماما، الأمر الذي يجرد الولايات المتحدة من مؤهلات الوقوف على الأساس الذي يقوم عليه النظام الديمقراطي الليبرالي، سواء في التحالف العسكري داخل حلف شمال الأطلنطي، أو في التحالف الاستراتيجي من خلال مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى، التي تربطها معا منظومة القيم الديمقراطية. وتشكل حرية انتقال البضائع ورؤوس الأموال والأفراد الأسس المادية للديمقراطية الليبرالية. وتعتبر التضحية بهذه الحريات أو بعضها أو فرض قيود عليها ضربة كبرى للنظام الديمقراطي الذي كانت تراه الولايات المتحدة حاضنة القيم التي تشترك فيها مع غيرها من الدول الليبرالية. فإذا ما جاءت الضربات لتلك الحريات الاقتصادية من جانب الولايات المتحدة التي تدعي انها زعيمة النظام الديمقراطي الليبرالي الغربي، فإن السياسة الأمريكية التي يتبناها دونالد ترامب لا تفقد مصداقيتها فقط، ما يعني عزلها عن ذلك النظام، بل إن النظام كله يفقد مصداقيته وبداية رحلة سقوطه، ما لم تنشأ قوى مقاومة كافية لتصحيح المسار، وإثبات أن النظام الديمقراطي الليبرالي قادر على تصحيح نفسه بنفسه، وليس إعادة إنتاج نفسه بكل ما فيها من تشوهات وقصور. وعلى المدى القصير والمتوسط ستترك تداعيات الحرب التجارية التي يشنها دونالد ترامب على العالم، آثارا سلبية واسعة النطاق على معدلات التشغيل والتضخم والنمو والتجارة، في وقت لا يبدو فيه الاقتصاد الأمريكي على أحسن ما يكون. وهو يبدو أكثر هشاشة وأقل قوة من أن يتحمل في الوقت الحالي ارتفاع معدل البطالة، وتراجع معدل النمو، واتساع نطاق العجز المالي الداخلي والعجز التجاري مع العالم.
حتى الآن لا يبدو ترامب مهموما بنتائج الحرب التجارية السلبية. بل إنه على العكس يعتقد أن الحروب التجارية «جيدة ومن السهل كسبها». وعندما ترتفع أسعار سلع أساسية مثل الخضروات والفواكه التي تحصل عليها الولايات المتحدة من المكسيك بسبب زيادة الرسوم الجمركية، فإن ترامب سيقول إن سبب ارتفاع الأسعار هو المكسيك. ربما يلجأ قليل من الناس إلى استخدام عقولهم وإدراك أن ترامب يكذب، لكن كثيرين سيصدقونه، خصوصا عندما يستخدم إيلون ماسك كل الأساليب الممكنة من خلال منصات السوشيال ميديا لترويج حجة ترامب، وتسخيف الحجج المعارضة له. وعندما ترتفع أسعار السلع ومستلزمات الإنتاج المستوردة من الصين، سيقول ترامب لناخبيه أن الصين هي عدو الولايات المتحدة، وهي التي تقف خلف ارتفاع تكاليف المعيشة، ومن الضروري مجابهتها. وعندما ستطول قائمة البلدان التي يتهمها ترامب فإن ملاذه الأخير سيكون شعار «أمريكا أولا»، ويصرخ في العالم كله كأنه يقول: «وعلى الباغي تدور الدوائر»، على منصة الكذب التابعة له التي يطلق عليها منصة «الحقيقة». كما أن أي رد ضعيف على سياسته العادية، أو الانصياع لهذه السياسة على غرار ما قامت به دولة السلفادور سوف يستخدمه ترامب بوقا لمحاولة التأكيد على نجاحه في إرهاب الدول الأخرى. الموقف الصحيح هو ذلك الذي أعلنته الصين فورا، بتجاهل ترامب تماما وعدم الاتصال به على عكس ما فعلت كندا والمكسيك، وفرض رسوم وإجراءات تعادل تقريبا الرسوم الجمركية الإضافية تتراوح بين 10 – 15 في المئة، مع فتح تحقيقات منفصلة مع شركات أمريكية مثل «غوغل» و «إنفيديا» و«إنتل» على خلفية اتهامات بممارسة سلوكيات احتكارية أو تمييزية ضد الشركات الصينية. الصين استعدت، وردت فورا، لأنها كانت تتوقع سلوك ترامب. أما الدول الغربية فقد كانت في شك من أمره وحيرة من أمر نفسها، وسيطرت عليها نظرية «اللايقين» في حين كانت العناوين واضحة ومكتوبة على الجدران.
ماذا تقول النظرية الاقتصادية؟
اتخذ ترامب قراراته بفرض رسوم جمركية إضافية بنسبة 25 في المئة على كندا والمكسيك، وبنسبة 10 في المئة على الصين، من دون الاعتماد على تقدير مبني على المعرفة لظروف العالم الاقتصادية والجيوسياسية. ومن المؤكد أنه استلهمها من تجربته السابقة خلال فترة رئاسته الأولى، مع انها كانت تجربة فاشلة. وربما سانده بعض الأساتذة الانتهازيين الذين يطلقون عليهم في مصر مصطلح «المطبلاتية».
لكن فضيلة العودة إلى النظرية الاقتصادية تزودنا بوجهات نظر قاطعة تؤكد أن استخدام سلاح التعريفات الجمركية يقود إلى خسارة مزدوجة للطرف البادئ بالحرب والطرف المستهدف. وفي كثير من الأحوال تكون خسارة الطرف البادئ بالحرب أكبر من خسارة الطرف المستهدف، كما نستنتج من دراسة مهمة أجراها عام 2011 عالم الاقتصاد الأمريكي رالف أوسا الأستاذ في جامعة شيكاغو، ضمن برنامج دراسات «المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية – إن بي إي آر» في الولايات المتحدة. وقال أوسا في دراسته «الحروب التجارية والمفاوضات» التي استخدم فيها أسلوب التحليل الكمي، أن فرض رسوم جمركية عالية أو إعلان رسوم إضافية من جانب دولة ضد دولة أخرى لا يجب أن يكون مجرد شطحة من الشطحات غير المحسوبة، وإنما يجب أن يقوم على قواعد تأخذ في اعتبارها عدة متغيرات، لتجنب أو تقليل الآثار السلبية على السوق المحلي، من أهمها وجود البديل الأرخص، وأن تكون الزيادة في الرسوم الجمركية أقل من الحد الذي ترى فيه الدولة المستهدفة أن مصالحها معرضة للخطر، ما يدعوها للرد على الطرف الآخر بزيادة الرسوم الجمركية على صادراته إليها لتعويض الخسائر المحتملة. وقد تستطيع الدولة البادئة بزيادة الرسوم الجمركية تجنب رد الفعل من الدولة المستهدفة بإعلان زيادة ضئيلة لا تستدعي الرد عليها. ومن ثم فإن أوسا قام بتعريف الحد الأمثل للرسوم الجمركية بأنه «المستوى الذي لا يخشى فيه الطرف الذي يفرض الرسوم من قيام الطرف المستهدف بفرض رسوم انتقامية ردا على الرسوم المفروضة، وإذا تجاوزه يجب أن يتوقع تعريض منتجاته لرسوم انتقامية في أسواق الطرف الآخر».
وبناء على هذه النظرية عرض جوشوا ميلتزر الأستاذ في جامعة جورج تاون، الزميل في برنامج الاقتصاد العالمي والتنمية في معهد بروكنغز للدراسات، في مقال نشره المعهد
نتائج المحاكاة القائمة على نموذج مشروع «تحليل التجارة العالمية» في ظل سيناريوهين. السيناريو الأول يبين التأثيرات الاقتصادية على الولايات المتحدة والمكسيك وكندا مع فرض الولايات المتحدة تعريفات جمركية شاملة بنسبة 25 في المئة، من دون أي رد انتقامي منهما. بينما يعرض السيناريو الثاني تقييما للتداعيات المحتملة في حال ردت كندا والمكسيك بفرض تعريفات جمركية بنسبة 25 في المئة على الواردات الأمريكية. وتشير التقديرات إلى أن جميع التأثيرات الاقتصادية ستحدث على المدى المتوسط (أي على مدى السنوات الثلاث إلى الخمس المقبلة). ونظرا لأن التعريفات الجمركية الأمريكية على الواردات من المكسيك وكندا بموجب اتفاقية منطقة التجارة الحرة بين الدول الثلاث تقترب في معظم الحالات من الصفر، فإن فرض تعريفة بنسبة 25 في المئة سيخلف صدمات اقتصادية سلبية كبيرة على الدول الثلاث وليس على الدولتين المستهدفتين فقط. وفي كلا السيناريوهين، يكون التأثير الاقتصادي أشد حدة على المكسيك وكندا، لأن حصة أكبر بكثير من تجارتهما، تقدر بـ 83 في المئة من صادرات المكسيك و78 في المئة من صادرات كندا تذهب إلى الولايات المتحدة، في حين أن نحو ثلث الصادرات الأمريكية فقط يتجه إلى كندا والمكسيك. ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة ستتعرض لضربة اقتصادية كبيرة، حيث من المتوقع أن تنكمش بعض القطاعات من أهمها صناعة السيارات، التي تترابط بين البلدان الثلاثة من خلال سلاسل التوريد، إضافة إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية الطازجة بسبب اعتماد واشنطن على الإمدادات المكسيكية.
في حالة الصين فإن ترامب لم يأخذ سيناريو الرد الانتقامي في الحسبان، وإنما كان يراهن على بدء مفاوضات تنتهي بتأجيل الرسوم الإضافية حتى يتم التوصل إلى صفقة. ولكن بعد الرد الصيني فإن الأمور يمكن أن تزداد تعقيدا في كل جولة من جولات الحرب التجارية. وكما يقال بأن سياسة العين بالعين قد تترك الناس جميعا عميان، فإن سياسة رفع الرسوم الجمركية مقابل رفع الرسوم من الطرف الآخر يمكن أن تقضي على التجارة الدولية وتعيد البشرية إلى عصر الاكتفاء الذاتي والمقايضة السلعية. وكان علماء الاقتصاد الرواد في إقامة أسس الحرية الاقتصادية وتقسيم العمل وحرية التجارة، مثل آدم سميث وديفيد ريكاردو وجون ستيورات ميل قد أقاموا نظرية شاملة ترسم طريق الرفاهية على أساس عدم تدخل الدولة وتعزيز حريات العمل والتنقل ورأس المال، وهو ما تم ترجمته منذ القرن التاسع عشر في شعار واضح منطوقه: «دعه يعمل، دعه يمر» فهذا هو طريق الرفاهية. ريكاردو الذي طور قواعد الحاجة إلى التخصص وتقسيم العمل الدولي على أسس نظرية المزايا النسبية، وأظهر مزايا حرية التجارة الدولية، باعتبارها الطريق إلى توسيع نطاق الرفاهية ودفع عجلة النمو في العالم. ويبدو أن ترامب ومن أيدوه لم يقرأوا سميث أو ريكاردو، كما لم يقرأوا علماء الاقتصاد المعاصرين مثل ستيغليتز وكروغمان وأوسا، أو أيا من الاقتصاديين الليبراليين المؤمنين بأن تقدم النظام الرأسمالي يقوم على أسس حرية المنافسة وحرية انتقال البضائع ورأس المال والعمل، وليس من خلال فرض القيود على الحريات الاقتصادية والحروب التجارية.
لقد انطلق ترامب في قرارته بفرض رسوم جمركية إضافية من نظرة أنانية ضيقة الأفق إلى العالم، معتبرا أن السوق الأمريكية هي أكبر سوق استهلاكية في العالم، وأن دخولها بواسطة الدول أو الشركات الأخرى هو ميزة كبيرة تستحق الولايات المتحدة أن تحصل عليها أتاوة على الواردات القادمة من الخارج، خصوصا من الدول التي تتمتع بفائض تجاري كبير مع الولايات المتحدة. وبرر ترامب قراراته بأن الدول المصدرة للولايات المتحدة لا تفعل ما فيه الكفاية لتعديل الميزان التجاري، ولذلك فإنها يجب أن تدفع رسوما أعلى، أو أن تشتري منتجات أمريكية بكميات أكبر. ويبدو أن المفاوضات الجارية الآن بين الولايات المتحدة وكل من كندا والمكسيك خلال مدة تأجيل فرض الرسوم الإضافية التي تبلغ شهرا واحدا، تهدف للتوصل إلى صيغة تستورد بمقتضاها كل من الدولتين كميات أكبر من المنتجات الأمريكية أو تتوصل إلى صيغة حل وسط بشأن نسبة الرسوم الإضافية. الخيار الثالث هو فرض رسوم انتقامية ضد السلع الأمريكية، ثم بدء حلقات متصاعدة للحرب التجارية، سوف تسفر عن خسارة للأطراف الثلاثة، لكن خسارة الولايات المتحدة قد تكون أكبر.
الرد الصيني كان مفاجئا، وجاء في الوقت الذي كان فيه ترامب يتوقع مكالمة هاتفية من الرئيس الصيني للتوصل إلى صفقة بين الطرفين. وقد أعلنت الصين في الرابع من الشهر الحالي رسوما جمركية إضافية على بعض السلع المستوردة من الولايات المتحدة، على أن يبدأ سريانها اعتبارا من 10 شباط/فبراير، ردا على قرار ترامب بفرض رسوم جمركية إضافية على واردات الولايات المتحدة من الصين. وتضمن القرار الصيني فرض رسوم جمركية بنسبة 15 في المئة على الفحم والغاز الطبيعي المسال المستورد من الولايات المتحدة، وفرض رسوم إضافية بنسبة 10 في المئة على النفط الخام والآلات الزراعية وسيارات الشحن الكبيرة والشاحنات الصغيرة. هذه القرار من شأنه إبعاد السلع الأمريكية المشمولة بالرسوم الإضافية عن المنافسة في السوق الصينية أكبر مستورد للنفط والغاز في العالم، وهو ما يمثل ضربة لسياسة الطاقة التي يتبناها ترامب، كما تضرب واحدا من أهم قطاعات صناعة السيارات الأمريكية، وهي صناعة تعاني بالفعل من صعوبات شديدة في الوقت الحاضر. الصين تعلم أين تضرب وتختار السلع أو القطاعات الأكثر إيلاما للاقتصاد الأمريكي. وجاء في القرار الصيني أن اتخاذه وفقا للقوانين واللوائح ذات الصلة، فضلاً عن المبادئ القانونية الدولية، طبقا لما أعلنته لجنة التعريفة الجمركية بمجلس الوزراء. أما قرارات ترامب بفرض رسوم جمركية انتقامية ضد الصين وكندا والمكسيك، فإنها صدرت بمقتضى أمر رئاسي تنفيذي، غير مستند للقانون الأمريكي أو القانون الدولي. وذكرت وكالة أنباء الصين الجديدة «شينخوا» أن هذه الخطوة جاءت في الوقت الذي وقع فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمرا تنفيذيا يوم السبت (أول شباط/فبراير) بفرض رسوم جمركية إضافية بنسبة 10 في المئة على السلع المستوردة من الصين. وذكر التقرير أن البيت الأبيض قال إن الرسوم الجمركية الإضافية ستشمل جميع الواردات من الصين فوق الرسوم الجمركية التي كان معمولا بها قبل القرار. ويبلغ حجم التجارة بين الولايات المتحدة والصين 688.28 مليار دولار، كما يوجد في الصين أكثر من 70 ألف شركة أمريكية لديها استثمارات هناك.
ترامب يفضل بالقطع الحصول على إيرادات إضافية بلا مقابل من الدول المستهدفة بزيادة الرسوم الجمركية. لماذا؟ لأنه كان قد وعد الناخبين بتخفيض الضرائب وزيادة الإنفاق من خلال زيادة الرسوم الجمركية على الواردات من الدول ذات الفائض التجاري مع الولايات المتحدة، وتخفيض نفقات الحكومة الفيدرالية بواسطة خطة يشرف على تنفيذها إيلون ماسك تقوم على تعديل نظام الحكومة الفيدرالية وإلغاء عدد من الأجهزة، مثل هيئة المعونة الأمريكية، وتسريح آلاف من الموظفين غير الموالين لترامب في عملية تطهير إداري واسعة النطاق، تشمل أجهزة وكالة المخابرات المركزية، ستنتهي حتما للقضاء على استقلال المؤسسات وتحويلها إلى أجهزة وظيفية تختص بتنفيذ الأوامر التنفيذية الرئاسية، على غرار ما يجري في الحكومات الهشة في دول العالم الثالث المتخلفة سياسيا!
أهمية الولايات المتحدة للعالم
على جانبي كل من المحيط الأطلنطي (أمريكا وأوروبا) والمحيط الهادي (أمريكا والصين ودول الشرق الأقصى) يوجد اتفاق عام على أهمية دور الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي، باعتبارها تسهم وحدها بحوالي ربع قيمة الناتج المحلي للعالم كله (26 في المئة)، وما يقرب من ثلث إجمالي الاستهلاك العالمي، كما تسهم بالدور الأكبر في التجديد التكنولوجي على مستوى العالم ككل. لكن دورة التجديد التكنولوجي والسياسي والاقتصادي والعسكري في العالم تبشر حاليا بانطلاقة كبرى لما يسمى «عالم الجنوب» الذي يقترن بتجمع «بريكس»، مقارنة بالولايات المتحدة والدول الصناعية الكبرى الأعضاء في مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى. بنهاية عام 2024 بلغ الناتج المحلي الإجمالي للعالم ما يقرب من 110 تريليون دولار أمريكي، استحوذت الولايات المتحدة وحدها أكثر من ربع هذا الرقم بقيمة تقرب من 29 تريليون دولار. في المقابل بلغت قيمة الناتج المحلي الإجمالي للصين حوالي 18.3 تريليون دولار. الصين حققت نموا سريعا جدا خلال الربع الأول من القرن الحالي، حيث كانت قيمة الناتج حوالي 1.3 تريليون دولار فقط عام 2001، ليصبح الآن ثاني أكبر اقتصاد في العالم، متفوقا على فرنسا وبريطانيا ثم ألمانيا وأخيرا اليابان. وتسعى الصين لأن تصبح أكبر اقتصاد في العالم بحلول منتصف القرن الحالي، لكن الرئيس الأمريكي السابق بايدن قال قبل خروجه من البيت الأبيض أن ذلك لن يتحقق أبدا.
وتشمل قائمة أكبر 12 اقتصادا في العالم جميع اقتصادات مجموعة السبع «G7» بالإضافة إلى أكبر أربعة اقتصادات في مجموعة البريكس وتأتي كوريا الجنوبية في المركز الـ 12. وقد شهدت التعديلات الأخيرة في القائمة تجاوز اقتصاد ألمانيا لليابان ليصبح ثالث أكبر اقتصاد في العالم في عام 2023، بينما تقدم اقتصاد البرازيل على اقتصاد إيطاليا في عام 2024، وفي وقت تسعى الهند إلى مزاحمة بريطانيا على المركز الخامس في القائمة. ويبشر وجود الصين والهند والبرازيل وروسيا في قائمة أكبر اقتصادات في العالم، بأن عالم الجنوب في طريقه إلى فرض حالة من المنافسة الشديدة في أسواق العالم، حيث تستحوذ دول الجنوب ككل على 60 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للعالم، في حين تنتج الدول الصناعية الغربية بما فيها الولايات المتحدة ما يقرب من 40 في المئة فقط. تتبقى بعد ذلك أهمية الولايات المتحدة كأكبر سوق استهلاكية في العالم تستوعب وحدها ما يقرب من ثلث الاستهلاك العالمي في بلد يعيش فيه 4 في المئة من سكان العالم فقط. لذلك فإن ترامب يريد فرض أتاوة على السلع الأجنبية التي لن تجد سوقا بحجم السوق الأمريكي.
ويفسر الاقتصادي الأمريكي نورييل روبيني الأستاذ في جامعة نيويورك في تغريدة منذ أيام على حسابه الخاص على منصة «إكس» السبب الرئيسي وراء ارتفاع حصة الولايات المتحدة من الاستهلاك العالمي بأنها يعكس حقيقة انها تمتلك أكبر حصة عالمية من الناتج المحلي الإجمالي. ويضيف أن حصة الولايات المتحدة من الاستهلاك العالمي أعلى قليلا من حصتها من الناتج المحلي الإجمالي (أي تستهلك أكبر مما تنتج) لأنها تدير عجزا كبيرا في الحساب الجاري/التجاري، ليس مدفوعا في الغالب بمعدلات استثمار أعلى، ولكن بمعدلات ادخار خاصة وعامة أقل من معظم البلدان. ويؤكد روبيني أن العجز المالي الكبير للولايات المتحدة (عجز الميزانية)، يرتبط ارتباطا وثيقا بالعجز التجاري، (وهو ما يُعَبّر عنه بمصطلح «العجز المزدوج»)، العجز في الميزانية وفي الميزان التجاري. أن أغلب العجز في الحساب الجاري الأمريكي مدفوع باختلال التوازن الهيكلي بين الادخار والاستثمار، وليس بسياسات التجارة أو العملة «غير العادلة» التي ينتهجها شركاؤنا التجاريون. وقال في ختام تغريدته: «إلى حين أن نتمكن من أن ننفق أقل – بالنسبة لدخلنا- ونوفر أكثر في القطاعين الخاص والعام، فإن عجزنا التجاري سيظل قائما حتى لو فُرضت تعريفات جمركية كبيرة. وهذا هو الدرس المستفاد من أول موجة تعريفات جمركية فرضها ترامب في عامي 2018 و2019. ومنذ ذلك الحين، زاد عجزنا الخارجي، ولم ينخفض!» ويؤكد روبيني بذلك عقم سياسة الرسوم الجمركية الإضافية وعدم فائدتها بدليل التجربة السابقة في فترة ترامب الرئاسية الأولى. ومن الضروري أن نقول هنا أن روبيني تجاهل الإشارة إلى حقيقة أن الولايات المتحدة تمول البذخ في إنفاقها الاستهلاكي بديون يتم تغطيتها بواسطة العالم الخارجي، وهو أسلوب غير مستدام ويحول الاقتصاد الأمريكي إلى «اقتصاد فقاعة» يمكن أن تنفجر في أي وقت.
وعلى ضوء النظرية الاقتصادية والخبرة العملية فإن الولايات المتحدة لن تحصد من «الترامبنوميكس» غير الخسارة، وفقدان مكانتها العالمية، واتساع نطاق التداعيات السلبية للعجز المزدوج المالي والتجاري. ومع أن روبيني أكد على أهمية زيادة معدلات الادخار والاستثمار المحلي، فإن أمام المنتجين الأمريكيين طريق شاق وطويل من أجل زيادة القدرة التنافسية للبضائع الأمريكية، نظرا لأن هناك مزاحمة شديدة من جانب المنتجين الأكثر كفاءة مثل فيتنام وتايلاند وكوريا الجنوبية وأيضا مثل الهند. ومن المتوقع في الربع الثاني من القرن الواحد والعشرين أن يكون هناك عدد أكبر من الصين. وإذا اعتقدت الولايات المتحدة أن الحرب التجارية هي السبيل لمواجهة الصين الواحدة، فإنها بلا شك ستجد صعوبة ضخمة في مواجهة النموذج الصيني عندما يتكرر وينتج أكثر من صين حول العالم. مشكلة الولايات المتحدة أنها لا تستوعب حتى الآن حقيقة أنها فقدت القدرة على المنافسة في معظم الصناعات، وأن التحدي لن يتوقف، حيث يتعاظم إصرار عالم الجنوب على تحقيق التقدم في كافة الصناعات القائدة بما في ذلك الصناعات التكنولوجية وصناعات الأسلحة والفضاء، الأمر الذي يمكن أن يجرد الولايات المتحدة من كثير من المزايا المتبقية لديها التي ما تزال تتمتع بها حتى الآن. الحرب التجارية حل يائس ومضلل يحاول إلقاء اللوم على الآخرين.




