ثقافة وفنون

قصيدة الفياشية: من بديع الملحون المغربي

قصيدة الفياشية: من بديع الملحون المغربي

مروة صلاح متولي

الفياشية عنوان لافت لقصيدة مغربية قديمة تعود إلى القرن السادس عشر، ألفّها الولي الصالح عثمان بن يحيى الشرقي المعروف باسم سيدي بهلول الشرقي، وهي من أشهر القطع الشعرية المغناة في المغرب حتى وقتنا هذا، وقلما نجد عملاً فنياً أو أدبياً عربياً بهذا القدم، لا يزال حياً ومحتفظاً باستمراريته. تأخذنا الفياشية إلى عمق الثقافة المغربية الخالصة، وتقف بنا أمام بعض السمات والملامح التي تميز شخصيتها، فهناك الغناء الروحي، بما له من حضور قوي وأهمية كبرى في بلد يعد مركزاً صوفياً، لطالما امتد إشعاعه إلى بلدان عربية وإسلامية أخرى، وهناك الطرب الأندلسي والغرناطي ميراث المغاربة العظيم ودرة في تاج الفن المغربي، وهناك الملحون الذي هو فن المغاربة في قول الشعر بلهجتهم العامية، وهو أيضاً غناؤهم الفريد على وقع موسيقاهم الخاصة. تم تسجيل الملحون كتراث غير مادي باسم المملكة المغربية في اليونسكو عام 2023، وهو ديوان المغاربة كما يطلقون عليه، وسجلّهم الذي يضم دارجتهم ومفرداتهم العامية، ومآثرهم وروحانياتهم، وإبداع قريحتهم ونتاج مخيلتهم، وأساليبهم في التعبير وتفننهم في قول الشعر والغناء، سواء كان ذلك غزلاً أو تصوفاً أو أي ضرب آخر من ضروب الشعرالمختلفة.

نشأة القصيدة وقصة الولي الصالح

للفياشية قصة يرويها المغاربة ويتداولونها في ما بينهم، وهي كما نسمعها منهم تدور حول سلطان كان ينتظر أن تضع زوجته مولودهما الأول، بعد سنوات طويلة عانى فيها الحرمان من الذرية. أثناء الانتظار وفي إطار الاستعداد لاستقبال المولود، أتى السلطان بأجمل وأثمن جوهرة، تحفة لا مثيل لها، اختارها لتكون أول هدية للطفل الذي طال انتظاره. أراد السلطان أن تثبت الجوهرة وتعلق في قلادة أو سلسلة، فأمر أن تذهب إلى أمهر صائغ يمكن أن يقوم بتلك المهمة، هذا الصائغ صاحب الحرفة الدقيقة، هو مؤلف قصيدة الفياشية، العارف بالله سيدي بهلول الشرقي، الذي عكف على أداء المهمة بحرص شديد، وبينما كان يعمل بإتقان على اعداد الجوهرة من أجل تعليقها في السلسلة، انشطرت الجوهرة إلى نصفين، فتملكته حالة من الهلع وسيطر عليه الخوف الشديد، وشعر بأنه سوف يدفع حياته ثمناً لما حدث من سوء حظ ،أو خطأ غير مقصود، فهو لم يفسد جوهرة باهظة ثمينة لا مثيل لها وحسب، وإنما أفسد فرحة السلطان بهدية استقبال مولوده الأول، الذي كان عزيز المنال. نظم الولي الصالح قصيدة الفياشية، وظل ينتظر مصيره عندما يعلم السلطان بما حدث للجوهرة، وفي يوم من الأيام جاء إليه رجل من رجال السلطان، وظن الصائغ أنها النهاية، لكن الرجل أبلغه بأمر آخر من السلطان يقضي بأن يقسم الصائغ الجوهرة إلى نصفين، وأن يعلق كل نصف منهما في سلسلة، فالسلطان رزق بطفلين توأمين، ولا بد من تقسيم الجوهرة لتهدى إليهما. وهكذا بقدرة الله نجا الصائغ من غضب السلطان وعقابه، الذي كان يمكن أن يكون قاسياً، كما عوّض الله السلطان عن طول حرمانه.
نُظمت القصيدة بلهجة أهل المغرب العامية، وربما تقترب بعض المفردات من الفصحى، ويمكن القول إنها عامية تقارع الفصحى ببلاغتها وجزالة معانيها وجمال صورها وقوة تراكيبها. تُغنى القصيدة على مرّ الأجيال في المغرب، ونسمعها بصوت كبار المطربين والمنشدين المغاربة، وكذلك نسمعها بأداء الجوقات الكثيرة المنتشرة في المغرب.

والقصيدة تتطلب في معظم الأوقات وجود مجموعة من المغنين أو المرددين، حتى عندما يقوم بها مطرب بعينه، إذ تستوجب الكثير من الترديد خصوصاً في الشطر الثاني من كل بيت. ونجد أن أغلب النسخ المغناة تعتمد على لحن بسيط وإيقاع يكاد يكون إيقاع الشعر ذاته، وأحياناً تغنى الفياشية من دون موسيقى، حيث تنشدها الأصوات الجماعية، وقد تختلف طرق أداء الفياشية من حيث عدد المنشدين، والآلات الموسيقية المصاحبة للغناء، والأساليب الأندلسية في المد والتنغيم والإقفال. وتتعدد أجواء تقديم هذه القصيدة من مجالس الذكر في زوايا المتصوفة، إلى حفلات الطرب الرصين، حيث يحفظها البعض عن ظهر قلب، كما لو كانت ورداً من الأوراد، ويستمتع بها الجميع كغناء راق رفيع. تتكون القصيدة من تسعة وعشرين مقطعاً، وعلى الأرجح أنه لا تغنى كاملة خصوصاً عندما تغنى بمصاحبة الموسيقى، وإنما يتم غناء بعض المقاطع المختارة، ويضاف إليها أحياناً عند الغناء، الصلاة على النبي بالصيغة التالية: «اللهم صل وسلم على.. نبينا محمد عليه السلام».
تزخر القصيدة على طولها بالكثير من المعاني الإيمانية العميقة، والصور والأفكار النابعة من نفس يملؤها الرضا واليقين وصدق التوكل على الله. وفي الكلمات المنظومة بنغم موسيقي وإيقاع منضبط، نلاحظ بلاغة التعبير الشفهي، ودقة المفردات الدالة على التعلق بالإيمان والتشبث به في كل الظروف والأحوال، تلامس كلمات القصيدة فطرة الإنسان بشكل عام، وفكرتها بالغة العمق والتأثير، على الرغم من أنه قد تبدو فكرة بسيطة وبديهية. تبدأ القصيدة بالمطلع الذي يقول: «أنا عبد رب له قدرة.. يهون بها كل أمر عسير.. فإن كنت عبداً ضعيف القوة.. فربي على كل شيء قدير.. مني آش عليا وأنا عبد مملوك.. والأشيا مقضية ما في التحقيق شكوك.. ربي ناضر فيا وأنا نظري متروك.. في الأرحام والأحشا من نطفة صورني».

أما الجملة الأساسية المستمد منها عنوان القصيدة، والتي تشكل فاصلاً بين كل مقطع وآخر فتقول: «أنا ماني فياش آش عليا مني.. نقلق من رزقي لاش والخالق يرزقني». ينفي الشاعر عن نفسه صفات الكبر والغرور والتفاخر، ويخرج من كل شعور بالقوة والقدرة والتمكن، ويتواضع اعترافاً بحقيقته البشرية وإيمانه بقدرة الله عز وجل. تطول القصيدة وتمتد مقاطعها بتدفق شعري مثير لا يعرف تكراراً للمعاني والأفكار، وتمضي في إيقاع تلتقطه الأذن بسهولة، وتمد سامعها بطاقة روحانية تستقر في أعماق النفس. تبدو القصيدة كأنها نتاج تأمل طويل وتفكر عميق ولجوء صادق إلى الله، وفيها نجد سلامة الذوق والفطرة والتعبير، والكلمات التي تستطيع العامة أن تفهمها وتحفظها وترددها، وفي الوقت نفسه لا يستطيع أصحاب الذائقة الشعرية المعقدة أن يرفضوها ويدحضوا جمالياتها، أو أن ينكروا هذا الشعر السهل الممتنع الذي يحقق البلاغة بألفاظ سهلة وتراكيب بسيطة. يرجع الشاعر إلى أضعف الحالات التي يكون عليها الإنسان، لا يملك شيئاً من سبل الحياة لولا أن يسخر الله له كل شيء، من غذاء يمده به وهو جنين في ظلمة الرحم، وأم ترعاه وترضعه حين يولد، وهكذا يتولاه الله سبحانه وتعالى في كل مراحل حياته، «في ظلمة الأرحام صورني من نطفة.. وبدا لي بالإنعام نعمة من كل صنفا.. وخلق لي ما وطعام ونعايم مختلفة.. ونزلت بغير قماش غطاني وسترني». أحياناً يمثل الشطر الأول من أبيات القصيدة حالة عصيبة أو موقفاً معجزاً، ثم يأتي الشطر الثاني من البيت حاملاً الحل والفرج والنجاة، «ما زدت إلا عريان ما نعرف ذا من ذا.. ستر الله المنان وجعل للروح إذا»، «وكم من ليلة بت في كربة يكاد لها الرضيع أن يشيب.. فما أصبح الصبح حتى أتى من الله نصر وفتح قريب». هكذا تترك هذه القصيدة سامعها في حالة من الارتياح والاطمئنان، فالفياشية التي نشأت من وجدان المغاربة، وازدهرت في مدارجهم وشغفوا بها، قصيدة تجسد قوة الإيمان وثبات اليقين، وصدق التوكل على الله عندما تضيق الدنيا ويتربص الشر ويقترب الخطر.

كاتبة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب