ثقافة وفنون

ألن غينسبرغ … أمريكا التي تأخذ كل شيء

ألن غينسبرغ … أمريكا التي تأخذ كل شيء

مروة صلاح متولي

أمريكا، لقد أعطيتك كل شيء.. والآن أنا لا شيء. بهذه الكلمات افتتح الشاعر الأمريكي ألن غينسبرغ قصيدته التي ألفها عام 1956 بعنوان أمريكا، كُتبت القصيدة تحت وطأة المكارثية، وما كان سائداً في الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك الوقت من إرهاب فكري، يسعى لفرض السيطرة الجهنمية على عقول البشر ونفوسهم ومشاعرهم، وضبط أذهانهم داخل الحدود، والتقييد على أصحاب الأفكار المختلفة، وتهديدهم بعواقب شديدة تبدأ من تشويه السمعة إلى الزج في السجون.
تثير القصيدة العديد من الأفكار حول الوطن ومفهوم الوطنية بشكل عام، ماذا يتطلب الأمر لكي يكون المرء وطنياً بحق؟ هل عليه أن يصدق كل ما يقوله الوطن؟ أن يحب ويكره ويصادق ويعادي بأمر من الوطن؟ أن يسلم العقل تماماً ويطيع دون تفكير؟ أن يرى ما يراه الوطن ولا يرى سواه؟ بعيداً عن حقيقة وماهية من يمثل هذا الوطن ويحتكر صوته، ورغم تغير هذا الصوت وتبدل توجهاته من حين إلى آخر؟ هل عليه أن يتجرع كل ما يحاصره به إعلام الوطن ويصدق كل ما يقال له بأنه الأفضل والأقوى، وأن عليه أن يحتقر الآخرين؟ أن يخشى ذلك الوهم الذي يشير إليه الوطن كعدو ويؤمن بأنه العدو المخيف بالفعل؟ وما هو الوطن ومن يملك صوت الوطن لكي يتحدث باسمه، وماذا أو من في إمكانه أن يحكم ويقرر مدى انتماء الفرد لوطنه؟ ومن له الحق في أن ينزع عن المرء وطنيته؟ هذا مما تثيره القصيدة حول مفهوم الوطن بشكل عام، لكنها تثير كذلك وبشكل أكبر العديد من الأسئلة حول الولايات المتحدة الأمريكية، على لسان أحد مواطنيها وأعلام نخبتها، الذي يناقش تلك الدولة، أو ذلك الكائن العملاق المتجبر، الذي يستبيح كل شيء بضراوة. من خلال القصيدة يخاطب الشاعر وطنه موجهاً إليه أقسى عبارات النقد والسخرية، ويواجهه بجرائمه وأكاذيبه وشروره التي يمارسها على البشر أجمعين.
نشرت القصيدة ضمن ديوان عواء وقصائد أخرى، وتعد من القصائد البارزة التي تعبر عن روح الاحتجاج والتمرد داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وتعري الواقع الأمريكي من صناعة الحروب واستباحة العالم وأوطان وثروات الغير، وسياسات القمع وثقافة الاستهلاك، والرأسمالية الشرسة المتطرفة، التي تقدس المال على حساب القيم الإنسانية. كان غينسبرغ يجاهر ببعض الأفكار الشيوعية في فترة قمة الخوف من الشيوعية والاتحاد السوفييتي، وفي قصيدته يسخر من ذلك الهوس ومحاولات نشر الهلع من روسيا التي تريد أن تأكلهم أحياء، وأن تسرق سياراتهم، كما يذكر الصين أيضا في القصيدة والهنود والافارقة. ومن أهم ما يتناوله غينسبرغ أيضا تناقضات أمريكا وازدواجية معاييرها، ويعبر عن استيائه الشديد من تدخلاتها العسكرية في الخارج، تأتي كل هذه الانتقادات من خلال أسئلة غاضبة يوجهها الشاعر إلى وطنه، وتبقى الأسئلة بلا إجابات بطبيعة الحال، فلا نسمع أمريكا ترد على شاعرها، لكن الأسئلة يجيب عليها الواقع الأمريكي منذ ذلك الحين وحتى اليوم.
شاعر متمرد من جيل البيت
كان من الصعب على شاعر مثل غينسبرغ أن يعيش هذا الواقع، وهو الذي بدأ حياته متمرداً على كل شيء وظل كذلك حتى وفاته، فهو ينتمي إلى جيل «البيت» Beat الذي أقام تلك الحركة الأدبية الشهيرة التي ظهرت في أمريكا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بل هو أحد مؤسسي هذه الحركة، إلى جانب الروائيين ويليام بوروز وجاك كيرواك وآخرين، بفضل ملهمهم الأكبر نيل كاسيدي، الفنان الفطري الذي لم يترك من آثار أدبية سوى بعض الخطابات التي كان يرسلها لأصدقائه الكتاب الصغار في ذلك الوقت، وفيها الكثير من النصائح الفنية والآراء النقدية القوية، نيل كاسيدي هو «دين مورياتي» بطل الرواية الشهيرة «على الطريق» التي كتبها جاك كيرواك تخليداً لذلك الجيل، وذلك الفنان الفطري الذي قضى حياته هائماً على الطرقات بينما يتبعه هؤلاء الفتية الصغار يستلهمون منه الفن والحياة والتمرد.
ينتمي غينسبرغ إذن إلى ذلك الجيل الذي تمرد على كل شيء وغير وجه الأدب الأمريكي في الشعر والرواية، وكان ضد كل ما هو قائم من أوضاع سياسية وعادات وقيم، وتقاليد أدبية وفنية، كما كان رافضاً لكل أشكال السلطة، سلطة العائلة والمجتمع والجامعة والدولة، وكتب غينسبرغ أكثر من قصيدة انتقاداً وهدماً ورفضاً لكل شيء، أشهرها قصيدة «عواء» 1955 ومفتتحها الشهير الذي يعبر عن معاناة جيله حيث يقول: رأيت أفضل العقول في جيلي وقد دمرها الجنون. كما كان غينسبرغ منفتحاً على الثقافات والأديان الأخرى والشرقية منها خصوصاً، وكان قد سافر إلى الهند وكتب عنها كثيراً، كما كان يمارس التأملات البوذية، لذا كان من الطبيعي أن يكتب ضد المكارثية في تلك الفترة من دون أن يبالي بالعواقب. عاش آلن غينسبرغ في الفترة من عام 1926 حتى عام 1997، وكان يمارس الغناء والتلحين كهواية على هامش الشعر، وكذلك كان يعزف على كل من آلة البيانو وآلة الهارمونيوم، غنى بعض أشعاره بصوته، كما غنى بعض قصائد لشعراء آخرين، كالشاعر الإنكليزي وليم بليك وديوانه «أغنيات البراءة والخبرة»، حيث لحنها غينسبرغ وغناها بصوته في ألبوم أصدره عام 1969.
بقصيدة يحاول الشاعر مواجهة الواقع وسطوة الإعلام، متمرداً على ذلك القالب الذي يريد الوطن حبسه في داخله وتشكيله على هواه، فجاءت قصيدة أمريكا تحمل الكثير من الغضب والتحدي وكذلك السخرية. يتساءل الشاعر كيف له أن يكتب في مثل هذا الواقع السخيف ويسأل وطنه قائلاً: أمريكا هل ما تفعلينه صحيح؟ أمريكا متى ستنهين الحروب؟ ويقول متحدياً: ها أنا أقرأ ماركس. ثم يقول غاضباً: أمريكا كفي عن توجيهي فأنا أعرف ما أفعل. يرى الشاعر نفسه في بداية القصيدة وقد صار كياناً منفصلاً عن وطنه ثم بعد ذلك يقول: أظن أنني أمريكيا، ها أنا أتحدث إلى نفسي ثانية. وكأنما يريد أن يؤكد أنه يمكن للمرء أن ينتقد وطنه ويظل وطنياً، على الرغم من ذلك، وأن هذا لا ينزع عنه الوطنية والانتماء، أو ربما للتعبير عن صعوبة الانفصال عن الوطن نفسياً. في كل الأحوال قصيدة أمريكا هي حوار أحادي مع الوطن، حيث يخاطب الشاعر/ المواطن وطنه موجهاً إليه الأسئلة التي تظل بلا إجابات، فالوطن لا يبادله الحوار.

كاتبة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب