ثقافة وفنون

سرديات الأم: من ثيولوجيا الألم إلى إرادة القوة

سرديات الأم: من ثيولوجيا الألم إلى إرادة القوة

عبد السلام دخان

ليست الأمومة حدثا بيولوجيا عابرا، ولا دورا اجتماعيا محددا، بل ممارسة فلسفية تتجاوز الملموس إلى ما وراءه، معلنة ثورة على التصنيفات الجاهزة. إنها مسألة وجودية تحيي الأسئلة المطلقة: كيف يولد المعنى من رحم العدم؟ وكيف تصير الهشاشة نفسها مصدرا للقوة؟ وأيضا، كيف يتحرر الحب من شروط التملك ليكون فعلا إبداعيا خالصا؟ هنا، لا تنفصل الأمومة عن التفلسف؛ فهي اختبار حي يعيد تشكيل الذات عبر كسر الثنائيات الجامدة، وتفكيك المفاهيم المتعالية، وبناء لغة جديدة قائمة على التناقض الخلاق.
الأمومة ليست امتدادا بيولوجيا أو عبئا أخلاقيا، بل هي تمثيل لمسار وجودي يخترق الميتافيزيقيا الكلاسيكية، معلنا أن الذات لا تتأسس إلا بانكسارها. في هذا الفضاء، تتحول الأم إلى حقل لتجارب الوجود المتشابكة، حيث الألم لا يظل مجرد إحساس جسدي، بل يغدو علامة سيميائية على ولادة المعنى، في عالم يتسم بسطوة السيمولاكر، والعطاء لا يكون رديفا للفقدان، بل فعل مقاومة ضد انحسار الذات في فردانيتها المغلقة، لكن كيف تعيد الأمومة تشكيل الثنائيات الفلسفية، التي حكمت تاريخ الفكر؟ كيف تتحول هشاشة الجسد الأنثوي المتجسدة في الولادة والرعاية إلى قوة مؤسسة لنسق أخلاقي يجذر الحب كأعلى مراتب الإرادة؟
لا يمثل ألم الأمومة جسديا كان أم نفسيا، عرضا جانبيا، بل طقس عبور ميتافيزيقي تذوب فيه الذات في بوتقة الغيرية (لحظة الولادة)، وتنفتح على ممكنات الوجود (قلق المسؤولية). هنا، لا ينفصل الألم عن الأمل، ولا الذات عن الآخر، بل تشرع أبواب الهوية لتعلن الانزياح عن الوغوس الذي جعل من الذات مركزا مستقلا. تصبح الأمومة مراسا رمزيا، تتشظى فيه الذات لصالح الآخر، لا بوصفه امتدادا مطابقا، بل بوصفه اختلافا يفرض حوارا لا ينتهي بين الأنا والآخر. هكذا يعاد تشكيل السرديات التقليدية؛ فالعطاء الأمومي ليس تضحية تقاس بمعايير التبادل، بل هو إبداع يخلق نظاما من المشترك الإنساني، حيث تولد الكينونة من رحم الانزياح الجمالي. تحوِّل الرؤى الثيولوجية معاناة الأم إلى رمزٍ للتضحية الأنثوية، فتُشكِّل هويتها الأمومية ضمن أُطرٍ تعزز التراتبيات الجندرية، عبر حصر عطائها في نطاقٍ فرديٍ منفصلٍ عن سياقه المجتمعي. بهذا تُصبح سرديات الأمومة أدواتٍ تُعيد إنتاج التأويلات التقليدية، التي ترفع التضحية إلى مصاف «القدر المحتوم»، مُختزِلةً الأم إلى كينونة صامتة، تُحوَّل آلامها إلى حكايةٍ غيبيةٍ تُبرئ المجتمع من مسؤولية البنى المادية والرمزية المُنتِجة لهذا «المصير».

لا يكتمل نقد هذه السرديات إلا بتجاوز النقد النظري بغية الكشف عن الآليات التي تحوِّل الأمومة إلى عبءٍ وجودي. ولا يقتصر الأمر على تفكيك الخطاب، بل يتطلب بناء رؤية جديدة تستبدل منطق التضحية بثقافة التضامن، عبر ربط الاختيار الحر للأمومة بالتفاعل المجتمعي. هكذا تتحول الأمومة إلى فعلٍ واعٍ يعيد صياغة القيم، ليس كاستجابةٍ حتمية للطبيعة، أو الواجب، بل بوصفها ممارسة وجودية تُعزِّز الذات عبر اندماجها في نسيجٍ حياتيٍ تذوب فيه الفواصل بين الخاص والعام، بين العطاء والتشارك.
في هذا السياق، تقدم الأمومة نموذجا مغايرا للقوة: ليست القوة هيمنة أو سيطرة، بل قدرة على تحويل الهشاشة إلى مصدر للإبداع. فمن فوضى الحاجات اليومية، تنسج الأم نظاما قيميا لا يستمد شرعيته من سلطة خارجية، بل من طاقة الحب كفعل مقاومة ضد العدمية. إنها تعيد تعريف «الضعف» بوصفه قوة قادرة على تفكيك خطاب الهيمنة الذكوري، لتؤسس أخلاقيات جديدة تقوم على التكافل بدل الصراع، وعلى العطاء اللامشروط بدل المقايضة.
تكمن عبقرية الأمومة في قدرتها الفريدة على خلق التناغم من انعدام التماثل. الأم تمنح كيانها لكائن ينفصل عنها بيولوجيا، لكنه يظل جزءا من نسيجها الوجودي، مشكلة نموذجا لعلاقة تتجاوز ثنائية «الذات/الآخر» نحو فضاء ثالث، حيث الحب مساحة فسيحة للالتقاء دون امتلاك. ويكشف هذا الانزياح الذي يقاوم التأويل الهيرمينوطيقي المغلق، أن العطاء الأمومي ليس انصهارا في الآخر، بل حوارا مقدسا بين التقارب والتباعد، حيث يولد الانسجام من الاختلاف نفسه. لا تعيش الأم في الحاضر المعلق، بل تعيد تشكيل الزمن عبر تجديل الذاكرة مع أفق التوقع. ذاكرة الألم تتحول إلى سردية مؤسسة لهوية مشتركة، بينما يصبح القلق على المستقبل دافعا لخلق معنى جديد في فضاء وجودي متقلب. وهكذا، تتحول الأمومة إلى استعارة للزمن الوجودي الذي لا يسير في خط مستقيم، بل يدور في حلقة مفتوحة حيث يغذي الماضي المستقبل، ويعيد المستقبل تفسير الماضي في ضوء راهن متجدد. لتتحول الأم إلى فيلسوفة صامتة تقدم إجاباتها بلغة الجسد النابض بالحياة، والقلب القادر على اختراق قيود الأنانية، والزمن الذي يعلم أن الوجود الحقيقي يبدأ حين تنكسر الذات أمام قدسية الغير. ليست الأمومة مجرد فعل بيولوجي أو دور اجتماعي، بل هي تمرين فلسفي على تحويل الألم إلى إرادة، والهشاشة إلى إبداع، والوجود الفردي إلى قصيدة أنطولوجية تكتب بكينونة الحب.

كاتب مغربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب