ثقافة وفنون

الحب المركزي وحبّ الشعاع

الحب المركزي وحبّ الشعاع

توفيق قريرة

٭ أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسية

حين جاءت نظرية الطراز انقلب كثير من المعطيات عن المقولة رأسا على عقب. لم تعد المقولة تعتمد نظرية الشروط الضرورية والكافية المأثورة من العهد الفلسفي القديم، بل قال لنا علماء النفس العرفاني، إنّ البشر يصنفون الأشياء والمعاني في الكون اعتمادا على أبرز الأمثلة من كل مقولة، ويسمّى طرازا وتتحدد بالنسبة إليه بقية عناصر المقولة. فعلى سبيل المثال فإنّا ندرك مقولة الطيور بالاستناد إلى أبرز أمثلة الطيور في محيطنا الثقافي؛ ففي تونس مثلا وفي جميع البلدان في المتوسّطية يكون الدوريّ هو طراز الطيور وتكون الشجرة الطرازية هي الزيتونة، وبالنسبة إليهما تتحدّد بقية الطيور والأشجار قربا أو بعدا. برز في هذا السياق مفهوم المقولة الشعاعية Radial Category وهي صنف أو مقولة تتحدد إدراكيا بالنسبة إلى مقولة طرازية، ولها امتدادات تشعّ منها، وتحافظ هذه الامتدادات الشعاعية على تشابه عائلي مع الطراز؛ غير أنّ بينها اختلافات في الاستخدام وهي تتنوّع بتنوّع الثقافات، فعلى سبيل المثال إنّ عبارة الحبّ في العربية لها معنى طرازي يعني ذلك الشعور بالتعلق والانجذاب تجاه كائن حيّ عادة ما يكون من جنس مخالف.

وعن هذا المعنى الطرازي تمتدّ أنواع أخرى من الحبّ، التي إن حافظت على المعنى الطرازي المركزيّ، فإنها تختلف عنه؛ وهناك أشكال من الحبّ يمكن أن تنحدر من الدائرة المركزية العاطفية، التي يمثلها الطراز، نجد فيها حبّ الأشياء والمجرّدات والكيانات المركبة. ففي حبّ الأشياء يمكن أن نجد حب المال وفي حبّ المجرّدات يمكن أن نجد حبّ العدالة، أو أيّ قيمة أخرى وفي حبّ الكيانات المركبة يمكن أن نجد حبّ التجوال صباحا في الطبيعة مثلا. ولا بدّ أن ترتبط هذه الأنواع من الحبّ بالحبّ الأصلي أو الطرازي، فعلى سبيل المثال فإنّ حبّ المال يعني عاطفة تربط صاحبها بتجميع المال أو بتوفيره، ولكنّه حبّ عجيب لأنّه من طرفين لكن لا يكون الطرف الثاني غير منقاد. يشعر المرء في حبّ المال أنّه ساع سعيا دؤوبا إلى تجميعه وتوفيره، مع شعور خفيّ بأنّ المال أيضا واهب نفسه لهذا الساعي في طلبه فهو مبذول غير منوع مثلما قد يكون عليه الحبيب في العلاقة الطرازية. علاقة الحبّ الطرازية في تمثلاتنا تجعل الحبيب ساعيا من أجل أن يعيش هذا الحبّ ويزهر ويجعل المحبوب بدوره ساعيا من أجل أن يستمر ذلك الشعور، وحتى في الحبّ من طرف واحد، فإنّ المحبوب موجود أيضا كامن ينتظر خروجه إلى العلن حبيبا مشاركا له العاطفة الفياضة. لا يتصوّر من يحبّ من طرف واحد أنّ الطرف الآخر خالي الذهن أو الشعور تماما؛ صحيح أنه منصرف عنه، لكن لديه أمل في أنّ انصرافه سينقلب ذات مرّة إلى إقبال وعناية. العلاقة في الحبّ هي علاقة يعيّنها من يتكلم عن نفسه، كالواثق من شعوره، ويتكلم عن الآخر بما هو طرف لا يمكن أن يتجاهل لأنّ العلاقة العاطفية مبنية عليه.

حبّ المال وهو في تقديرنا حبّ شعاعي لا يختلف فقط من جهة موضوع الحبّ: المال بدلا من الكائن الذي يسحر اللبّ؛ إنّه يختلف أيضا بشيء آخر هو السمات التي نسمه بها في ثقافتنا. الحبّ الطرازي بين طرفين عاشقين مختلفي الجنس هو أيضا يمكن أن يوسم ثقافيا بسمات وبشكل عامّ فإنّ هذا الحبّ في الثقافة العربية الإسلامية ذاهب باتجاه التخلص من القيود والمحرّمات إلى مجال أكثر حرّية ففيه ضرب من النضال من أجل أن يتكرس سلوكا مقبولا ويخرج من اللاشرعية إلى الشرعية. لكنّ حبّ المال فيه سمات موجبة وأخرى سالبة، ولاسيّما إذا تعلّق الأمر بتعليق قيمي ديني كالذي نجده في الآية الكريمة (الفجر 20) «وتحبّون المال حبّا جمّا». حبّ كثرة المال في هذا السياق هو أمر غير مرغوب فيه لأنّه يشغلنا، بما هو زينة من زينتي الحياة الدنيا، عن العمل من أجل الآخرة.

هذا المعنى غير طرازي لأنّه ينحدر من حبّ مسلط على شيء فانٍ زائل، قد يغري ولكنّه غَرور؛ على النقيض من الحبّ الطرازي الذي ينخرط فيه المرء بجميع ما لديه من شعور واع، أو لا واع بأنّه لا غرور فيه ولا انقطاع له. لكنّ سؤالا إدراكيا مهمّا يمكن أن يطرح ههنا: هل أنّ تجربة الإنسان مع العشق هي الأصل في إدراكنا لكل علاقة حبّ؟ هل حبّ البشر للمال هو عاطفة باتجاه المال يعالجها الذهن كما يعالج حبّا باتّجاه شخص؟ من الناحية الإدراكية تكون معالجاتنا العاطفية للأشياء المادّية أصلا، فنحن قد نعطش فنحبّ الماء وقتها، حتى إذا شربنا وزال عطشنا زال تعلقنا بالماء وتغافلنا عنه. ولكنّنا نظلّ نحبّ الأب والأمّ والرفيقة والحبيبة، حتى إن زالت الأسباب النفعية من حبّنا لهم؛ فإذن يتعامل ذهننا مع حبّ بشري قد لا يزول بزوال أسبابه وحبّ قد تزول أسبابه فيضعف. هذا الحبّ الغريزي الذي يدفعنا إلى حبّ أكلة عند الجوع، أو شربة عند الظمأ ليس هو الحبّ الذي يكون مقيما فينا لمن نحبّ.

حبّ المال إذن درجات: الحبّ الجمّ منه هو ما زاد عن الحاجة واستمرّ؛ لذلك لا يقبل من هذه الجهة الدينية لأنّه سيكون ماثلا في عاطفتنا وسيشغلنا عن أن نفكّر في غيره من أحوال الآخرة والعبادة. حبّ القيمة هو من جهة إدراكه ومن جهة علاقته بالحبّ الطرازي مختلف يتطلب الانخراط، أو الالتزام الواعي في الإيمان بالقيمة بما هي شيء فاعل في التاريخ. فعلى سبيل المثال فإنّ حبّ العدالة أو الحرّية لا يمكن أن يطرح خارج دائرة من يتمثل جيّدا هاتين القيمتين ويؤمن بقدرتهما على التغيير في حياة الفرد أو المجموعة. لكنّ هناك فرقا بين أن تؤمن بالعدالة أو الحرية؛ وأن تحبهما. قد يختلط الحبّ بالإيمان ولكنّ الحبّ هو الشعور بالرغبة في تملّك هذه القيمة وفي جعلها ركنا ثابتا من أركان ما يصنع موازنات حياتك، والإيمان هو اعتقاد في قيمة الحرية أو العدالة في التغيير. إنّ الحبّ يمنحك طاقة عاطفية والإيمان يعطيك طاقة فكرية جدالية، أو حجاجية في نسق من بناء التصوّرات وحلّ المشكلات العالقة. الحبّ من جهة معالجته يمكن أن يكون قرارا يتخذ، ولكنّ الإيمان من جهة معالجته هو اختيار لحلّ مشكل رأسه إحدى القيمتين المذكورتين.

حين نحبّ نكون قد اتخذنا قرارا في أن نهب عاطفتنا لطرف، أو لشيء أو لقيمة تحتاج أن نحبها لأنّها تصنع توازن كياننا الذاتي، أو كوننا العاطفي المغلق؛ ولكنّنا حين نؤمن بشيء، أو بشخص أو بقيمة نؤمن بها لأنّها تحلّ مشكلا من مشكلاتنا في حياتنا؛ هي لا تخلق كياننا، بل هي جزء من معادلة جعلت لكي تحلّ مشكلة من مشاكل وجودنا الاجتماعي على هيئة نريدها أن تكون الأفضل. الحبّ الطرازي يظل طرازيا حتى ينقلب فيه الشعاعي ليصبح هو المركز: حين يصبح حب المال مثلا هو المقياس الذي عليه يقاس حبك لامرأتك وحبيبتك وصاحبتك، يتولد لديك شعور آخر بأنّك لا تحبّ بمجرد أن تنجذب لكيان فيه توازنك المطلوب، وفيه جمال يمكن أن يضفي بهجة على الكيان؛ بل يصبح المرء مطلوبا لأنّه (كنز) أو (ثروة) إنّه يتسلل إليك حين تقول مثلا: «أنت كنزي و»أنت ثروتي» و’أنت تجارتي الرابحة». حين يخاطب المحبوب بهذه الاستعارات التي ربما حركت السواكن وصارت الأنفس لها جذلى، فإنّه يكون في نسق من الإدراك يصبح فيه المال وحبه هو الطراز، ويصبح فيه الحبّ والعشق هو التجربة التي تعاش إدراكيا وتعالج بوسائل المال. في المسألة إشكال في الرؤية يتمثل في انقلاب التصورات الشعاعية على التصوّر الطرازي المركزي قد يكون انقلابا وقتيا استعاريا وقد يكون ثابتا أبديا.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب