ثقافة وفنون

السكيمي… موسيقى مشاركة واحتفال

السكيمي… موسيقى مشاركة واحتفال

محمد تحريشي

تشهد الأوساط الاحتفالية في كثير من مناطق الجزائر بروز ظاهرة احتفالية مهمة في المناسبات وفي الأفراح، وفي بعض الجلسات الخاصة، تتعلق بطقس احتفالي للفنان السكيمي، وهو موسيقي يتقن العزف على آلة العود، بدأ يستقطب آلاف الشباب والمتابعين، وأصبحت طريقة عزفه تستولي على قلوب المعجبين، وتبدو هذه الطريقة من مخرجات موسيقى علا. هذا الموسيقار العالمي الجزائري والمقيم في باريس، الذي ابتكر موسيقى «الفندو» التي تقوم على الارتجال لتغوص في الأعماق وتتجلى في نوتات موسيقية تعبّر عن حال من الوجد والحنين وكثير من الألم والحزن والمعاناة، وبذلك تطهّر الذات من دنس الحياة ووجع النفس، موسيقى تغازل ذاك الجمال المبحوث عنه في الفن وفي تجلياته وفي أشكاله.
«موسيقى «علا» مقبلة من الأعماق لتنتشر على آفاق الروح، وهي تنشد السلام والمحبة والأمان، وتعبّر عن الألم والمعاناة وتعتصر اللحظة لتدخل الروح والجسد والنفس في حوارية جميلة، وتجعل من المتعدد منسجما ومتناغما كسيمفونية الحياة بكل تناقضاتها وتداخلاتها. موسيقى تحوّل السلبي إلى قيم جمالية إيجابية وهي تكشف عن الناقص فينا، وعن غير المتجانس بإيقاعات جديدة تبدو سهلة ومألوفة ومن نمط ما نعيشه من إيقاع الحياة، ولكنها تفاجئنا بقدرتها على التحول والتجدد والارتجال». ما يجعل المتلقي لها يشعر بسحرها وجمالها من أول سماع، ثم تتجلى له معان أخرى كلما عاود السماع والاستماع لمعزوفات هذا الرجل العصامي.
لعلّ اللافت للنظر والمثير للاهتمام هو التقاطع بين تجربة علا وتجربة السكيمي في البداية والظهور والانتشار والذيوع، مع وجود الفارق في عمق التجربة وحدتها وفي القدرة على الابتكار أو التجديد أو حتى المعاودة. كان تلقي موسيقى الفندو «في بداية الأمر بشيء من الإعجاب والتأثر وببعض الترقب، وأخذ هذا اللون الموسيقي في الانتشار بهدوء ليكتسب مساحات مهمة في آذان السامعين فيغدو مألوفاً، بل أصبح له معجبون ومتابعون؛ بعد أن وجدوا في هذه الموسيقى تغذية للروح وإمتاعا للنفس وإرضاء للذات وتجاوزا للمألوف والمعتاد وتعبيرا عن اليومي والمعيش بأسلوب فني خاص، وعلى الرغم من بساطة الموقف وعدم تعقيده». مقال لي منشور موسوم بـ(علا موسيقى من الأعماق) وكذا الأمر كان بالنسبة لمعزوفات السكيمي، التي كانت في إطار محدود ثم أخذت في الانتشار والتوسع في أغلب الجزائر، خاصة مع وجود أغلب هذه المعزوفات على اليوتيوب وبعض وسائط التواصل الرقمية.
إنّ المتابع الفطن لهذا الطقس الاحتفالي للفنان السكيمي، يطرح سؤالا مهما حول عناصر الجمال والمتعة والفرجة، التي تشد الجمهور، وتجعله يشعر بنوع من الدهشة والإعجاب بالتناسق والتناغم والانسجام بين الفرقة الموسيقية والجمهور، إلى درجة التوحد التي لا انفصام لها، خاصة أن أغلب المعجبين بهذا النوع من العزف والإيقاع من الشباب، الذين – ربما- وجدوا فيه ملاذا آمنا لأمانيهم وطموحاتهم ورغباتهم، وجدوا أيضا في هذا الطقس الاحتفالي تعبيرا عن الأمل وعن اليأس، عن الفرح وعن الانكسار، وجدوه حيزا جميلا بين واقعهم المثقل بالهموم وأملهم في غد أحسن، وجدوه معبرا بين الواقع والخيال. ولهذا فإن السكيمي ليس عزفا موسيقيا يقوم على الابتكار والتجديد، بقدر ما هو طقس احتفالي يشارك فيه كل من حضر بالعزف والتصفيق وحتى الرقص، فالكل معني بالمشاركة في هذا المشهد، وفي الوقت ذاته بالاستمتاع به.
استطاع عبد القادر السكيمي في غفلة من الكثير من المتابعين والمهتمين بهذا المجال، أن يحقق وجودا مهما وحضورا لافتا، أخذ ينتشر بين الشباب.
المشهدية بسيطة جدا تتكون من عازفين، فالسكيمي يعزف على العود ذي مكبر الصوت المدمج، يرافقه شباب على العموم على الإيقاع وعازف كمان، ويهندس كل هذا تقني التوزيع الموسيقي مع وجود مكبرات صوت، ويلف كل هذا جمهور من الشباب يضيف إلى المشهد رونقا وجمالا وبهاء، بقدرته على الانسجام مع القدرات التعبيرية للمقاطع الموسيقية المختارة بعناية، وبالحفاظ على الإيقاع المناسب، على أن يقوم السكيمي بالرش الموسيقي لنوتات تريد الانفلات والتحرر فيضبطها بأن ينطقها متى أراد ويسكتها متى يشاء. ويبدو كأنه يرتجل هذا العزف، ولعل الارتجال في الموسيقى هو الإبداع اللحظي للألحان، أو الإيقاعات دون تخطيط مسبق. ولكن هذا لا يمنع من وجود تدريب مستمر ومتواصل لساعات طويلة يتجلى في تلك الانسيابية التي تظهر أثناء المشاركة في الطقس الموسيقي الاحتفالي.

يتجلى انسجام الجمهور في هذا المشهد بقدرته على التفاعل مع هذه الطريقة التعبيرية بالنوتات بشكل عجيب، وكأن الأمر تمّ التدرب والتحضير له من قبلُ وبشكل مكثف، بينما هو في الواقع عفوي وارتجالي وحر ومتحرر من كل قيد، ينشد التعبير عن التلقي التام لهذا العزف ومحاولة التفاعل معه بالتصفيق بالأيدي أو بالتعبير الجسدي، كهز الرأس تناغما مع الإيقاع، أو قد يسمو ويرتقي ليتحول إلى رقص للتعبير بالجسد علاقة الروح والجسد والموسيقى بكثير من التناسق. وليس شرطا أن يتقيد الراقص بحركات تعبيرية متشابهة أو متفق عليها، وإنما كل مشارك في هذه المشهدية يختار ما يناسبه من حركات متقنة؛ تعبّر بصدق عن ذلك الإحساس العميق عن شعور بالمتعة والجمال قد يتحول إلى شيء من النشوة أو الحال أو الجذب الذي يجعل المؤدي لهذه الحركات الراقصة يشعر بنوع من التطهير، وبذلك يتخلص من تلك الشحنات الضاغطة.
يقع السؤال حول مصدر هذا التناغم والانسجام في هذا الطقس الاحتفالي «السكيمي» بين العازفين والجمهور؛ الذي قد يكون مرده إلى التفاعل والتواصل العاطفيين مع هذا الإيقاع المشترك الذي يتكرر كل مرة، والذي يسهل من عمليتي التفاعل والتواصل هذه بالتصفيق والرقص، أو حتى الهتاف والصراخ رغبة في المشاركة الإيجابية الجماعية، انسجاما وتناغما وإعجابا وفرحا. ولعل ما يجعل العازفين يتجاوبون مع الجمهور تلبية لرغبات هذا الجمهور المتحمس والمتفاعل. ومن ثم يصبح الجسد أداة موسيقية تسهم في إضفاء تعابير متزامنة مع النوتات الموسيقية فاعلة ومتفاعلة بشكل إيجابي. وتنتقل مشاعر الفرح والحنين والتذكر بين المشاركين في هذا الطقس الاحتفالي في حال شعورية متوحدة ومتناغمة. وقد يساهم الإيقاع السريع والمتسارع في تحفيز درجات تلقي عند الجمهور ولدى العازفين في الوقت ذاته.
تتجلى المفارقة في هذا الطقس الاحتفالي في الجمع بين المتناقضات كالمعاناة والفرح عبر التفاعل العاطفي والجسدي مع الإيقاع واللحن والأجواء المحيطة. ولعل من خصائص هذا الطقس الاحتفالي «السكيمي»: الإيقاع السريع والمتسارع والتفاعل الجماعي وكذا المؤثرات البصرية والصوتية والجو العام مما يعمّق الإحساس بالسعادة، ويدفع إلى العفوية والارتجال لمزيد من المتعة والحماس فتتناغم الموسيقى مع المشاعر ويتحول الفرح من مجرد إحساس فردي إلى تجربة وجدانية جماعية مشتركة. قد يجد الإنسان المطحون اجتماعيا تعبيرا عن همومه في موسيقى الأعراس والأفراح عبر التناقض التعبيري، حيث يمتزج الفرح بالحزن، أو من خلال تعبير هذه الموسيقى عن المسكوت عنه، أو من خلال تحولها إلى أحد عناصر المقاومة لمواجهة الظروف القاسية. إن الطقوس الموسيقية الاحتفالية ما هي في الواقع إلاّ مرآة عاكسة للواقع الاجتماعي.

كاتب جزائري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب