فلسطين محمود درويش: في تجاوب الشعر والغناء

فلسطين محمود درويش: في تجاوب الشعر والغناء
منصف الوهايبي
مصطلح «تجاوب الفنون» أو «تجاوب الأجناس الأدبيّة» أو «تجاوب الحواس» هو الأصوب؛ وليس مصطلح «التراسل» الذي تجري به الألسنة في هذه المسائل التي يعاد طرحها بقوّة. هذا بالرغم ممّا ينطوي عليه المصطلحان من معنى «التفاعل»، وهي صيغة تدلّ حسب سياقها على معان مثل «المطاوعة» حيث «تفاعل» مطاوع لصيغة «فاعل» وعلى «المشاركة» بين اثنين وأكثر في الفعل، لكن أحدهما فاعل صراحة، والثاني فاعل ضمنا. وقد استقرّ رأيي، على أنّ المصطلح الأنسب هو «التجاوب». وأمّا «التراسل» فمن تَرَاسَل القومُ أَرْسَلَ بعضُهم إِلى بَعْضٍ. وليس فيها معنى»Correspondance».
وما نخالها إلاّ ترجمة حرفيّة غير مفيدة لما يسمّى «تراسل الحواسّ»، حتّى لو قلّبناها على مشتقّاتها مثل التَّرسُّلُ أو التَّرْسِيل وَهُوَ التَّحْقِيقُ بِلَا عَجَلة، أو التَّوقُّر والتفهمُ وَالتَّرَفُّقُ. وأمّا «التجاوب» فيعني التحاور. وتجاوب القوم: جاوب بعضهم بعضا، واستعمله بعض الشعراء في الطير وفي النوق كما في قول طرفة:
إذا رَجّعَتْ فِي صَوْتِهَا خِلْتَ صَوْتَها/ تَجاوُبَ أظْآرٍ على رُبَعٍ رَدِ
وهذا ملحظ يحتاج إلى بحث مستقلّ، بيْد أنّني أتركه جانبا حتى لا يحجزني التنظير عن هذا الموضوع الذي أطرحه بحذر؛ إذ يقتضي معرفة عميقة بالموسيقى، لا أملكها، ولا أدّعيها؛ وأنّى لنا أن نبحث في إيقاعات البيانو أو الكمان، أو الغيتار والأكورديون والساكسفون وما إليها من آلات موسيقيّة تتسرّب نغما ولحنا إلى نصّ هو لغة قبل كلّ شيء؟ والموسيقى تتميّز بوحدة الشّكل والمحتوى، واصطلاحاتها وإن كانت شعريّة هي أيضا أو هي مستخدمة في نقد الشعر، لها معنى خاصّ مثل كلمة «لحن» بمعناها الإيقاعي لا النحوي، و«نغم» «تنغيم» و«تناغم».
والتّناغم صفة وقيمة ترجعان إلى القوانين اللغوية الصوتيّة في تجميع الكلمات وتسويتها، وفي ضبطها وتوازنها. ومصطلح «قصيد» أو «نشيد» يدلّ على نوع موسيقيّ؛ أو هو ينضوي إلى مدار الموسيقى، والقصد من إنشائه إنّما هو إنشاده، فالقصيد يعدّ لينشد أو كما يقول سيبويه وقد ساق أمثلة مثل «قفا نبك»: «وإنّما ألحقوا هذه المَدّة في حروف الروي، لأنّ الشعر وضع للغناء والترنّم…». بيْد أنّنا ندرك أنّ التجاوب بين القصيدة والأغنية، قائم في اللغة والإيقاع واللحن والأداء وحتى في الهيئة أو الصورة. والدراسات الغربيّة تباشره من أكثر من زاوية، كالأغاني المصاحبة أو التي هي من مكوّنات المتن السردي. بل هي أنشأت علما يدرس الأغنية وعالمها هو «الكانتولوجيا « Cantologie أي مباشرة الأغنية من حيث هي جنس أدبي قائم بذاته و«كلًّ عضويّ» يشجُ الصلة بين النص والموسيقى والصوت والتأويل، من منظور مناهج متنوّعة: أدبيّة وجماليّة وموسيقيّة واجتماعيّة وتاريخيّة… كما يدرس طرائق الاستماع والتلقّي أو استقبال الأغنية، والأغنية والصورة، والأغنية والأدب، والأغنية وفنون الأداء، والأغنية والمجتمع، والأغنية والراب… وقد يحتجّ البعض بـ«الموشّح» ففيه يتلاقى الشعر والموسيقى والغناء، لكنّ ما يغفل عنه هؤلاء أنّ الموشّح «أغنية» وليس قصيدة بالمعنى الذي استتبّ للقصيدة في نظريّة العرب الشعريّة، إلاّ في بعض الموشّحات التي هي «قصائد» متنوّعة القوافي.
أمّا في الفنون فثمّة أكثر من رواية ألهمت الأغنية، وأكثر من أغنية ألهمت الرواية مصادر ومراجع؛ ولعلّ أشهرها الجزء الأوّل من رواية مارسيل بروست «في البحث عن الزمن المفقود»، و«صحراء التتر» للإيطالي دينو بوزاتي، وقد حوّلت إلى عمل سينمائي شهير 1976.
أمّا هذه الأغنية «أحنّ إلى خبز أمّي» التي نستشعرها في هذا الظرف الفلسطيني العربي الفارق، وهي في أساسها قصيدة لم يكتبها درويش من أجل الغناء، إنّما هي شعر، شأنها شأن كثير من القصائد العربيّة القديمة والمعاصرة التي كتبها أصحابها، من دون أن يخطر ببالهم أنّها تصلح للتغنّي؛ ويكون لها وقع أشدّ من القصيدة. ومنها قصائد أخرى لمحمود درويش غنّاها مارسيل خليفة مثل: «بيروت» و«هذا البحر لي» و«نلتقي بعد قليل» و«خائف من القمر» و«أنا يوسف يا أبي» و«إلهي لماذا تخلّيت عنّي» و«نعرف الماضي ولا نمضي». واللافت فيها أنّ شهرة المغنّي أو الملحّن لم تحجب اسم الشاعر كما يحدث عادة.
ولعلّ مردّ ذلك إلى شعريّة محمود العالية، وما تتميّز به هذه القصائد المغنّاة إذ هي تتحرّر من الحنين البسيط أو الشجيّ إلى الماضي في النصّ المعقود على عالم الوجدان، بل هي تؤكّد إعادة الاستيلاء عليه أو اكتشافه ثانية؛ حتى لكأنّ الهواء المغنّى، مثل الهواء الذي نتنفّسه، يلتقط رائحة خبز الأمّ وقهوتها؛ ويحجب الحاضر الذي يكون حيث لا يكون: فالأغنية وهذا مصدر قوّتها من حيث لذّة الأذن ومتعة السمع هي حضور الحاضر أو فنّ الإمساك به. والغناء بهذا المعنى ليس مجرّد حركة استرجاعيّة، بل دائريّة أجراسا وأصواتا.
وهذه القصيدة الأغنية على بساطتها «الخادعة» «جنس أدبيّ» مداره على ثلاثة أنواع من الإيقاع مترابطة:
أوّلها «إيقاع تسلسلي» وهو يجري في القصيدة كلّها، كما هو الشأن في فاتحتها حيث تتآزر ثلاث كلمات (خبز وقهوة ولمسة) تنتظم كلّها في تراكيب بالإضافة، وتتكرّر فيها لفظة الأمّ لترسم صورة قد تكون مألوفة في الظاهر، فيما هي تأخذ بـ«معنى حافّ» فيه ما فيه من «سيولة الكلمة»، أو «مائيّتها». فهو راجع إلى صورة «الأمّ» المحفوفة بمعنى القداسة. ومن ثمّ تكتسب أشياؤها دلالات خاصّة، أو هي تتفرّد بها: الخبز والقهوة واللمسة… والإضافة التي نحن بصددها، ليست مجرّد نسبة اسم إلى اسم على وجه يكون فيه تخصيص أو تعيين أو تعريف، وإنّما لغة تَبِين عن تدخّل الذّات الشعريّة في رسم الصورة: «أحنُّ إلى خبز أمّي/ وقهوة أُمّي/ ولمسة أُمّي».
وثانيها «الإيقاع المتسلسل» أو «التعاقبي» الذي يتّصل بعضه ببعض، وينعقد بعضه على بعض كانعقاد هذه الكلمات (الطفولة والعمر والدمع) التي لا رابط بينها سوى الإصرار على الحياة والتشبّث بها، لا حبّا فيها أو حرصا عليها؛ وإنّما لتجنّب «الخجل» خجل «الميّت» من بكاء الأمّ أي الخجل بمعنى التحيّر والدهش من الاستحياء: «وتكبر فيَّ الطفولةُ/ يوماً على صدر يومِ/ وأعشَقُ عمرِي لأني/ إذا مُتُّ/ أخجل من دمع أُمّي».
وثاثها «إيقاع ديناميكي» أو «إيقاع صاعد منتظم متكرّر» حركةً أو صوتاً أو الاثنين معا مداره على «المونولوج» من جهة كما في قفلة الأغنية/ القصيدة: «هَرِمْتُ فردّي نجوم الطفولة/ حتى أُشاركْ/ صغار العصافير/ درب الرجوع/ لعُشِّ انتظارِك».
وعلى الحوار من جهة أخرى، وأساسه صيغة الأمر (خذيني، غطّي، شدّي، ضعيني) وهو أقرب إلى «الدعاء» والتمنّي، منه إلى الالتماس أو الطلب الجازم: «خذيني، إذا عدتُ يوماً
وشاحاً لهُدْبِكْ/ وغطّي عظامي بعشب/ تعمَّد من طهر كعبك/ وشُدّي وثاقي/ بخصلة شعر/ بخيطٍ يلوَّح في ذيل ثوبك/ ضعيني إذا ما رجعتُ/ وقوداً بتنور ناركْ/ وحبل غسيل على سطح دارك/ لأني فقدتُ الوقوف/ بدون صلاة نهارك/ عساني أصيرُ إلهاً/ إلهاً أصيرْ/ إذا ما لمستُ قرارة قلبك».
وهذه ثلاثة مبادئ أساسيّة في نظام الإيقاع الشعري عند درويش في هذه «الأغنية» وفي غيرها، تتضافر في صياغة الحركات الصاعدة والهابطة سواء في السطر الشعري أو في المقطع، وفي الحفاظ على «التوازن» بين المقاطع، بسند من التكرار، في نوع من «الأداء» المحكم بين ما هو متناظر وما هو غير متناظر، تبين عنه «الأصوات»؛ وهي تأخذ كلّها بصيغة تذكيريّة تجعل الجملة الشعريّة المغناّة تتأدّى في تراتيب وتراكيب مخصوصة محكومة بإيقاع يشحذ فعل التذكّر.
ونقدّر أنّ وعي هذه القاعدة التذكّريّة هو السبيل إلى اكتناه سجلّها الغنائي، بما يجعل المتلقّي/ المستمع منشدّا إلى الفضاء السماعي الذي تجري فيه القصيدة، لما يتوفّر عليه من «ديناميّة» الصوت أو حيويّته؛ وهو أشبه بصدى يتردد في جنبات القصيدة/ الأغنية من حيث هي أداء شفويّ وبصريّ في آن، يراوح جيئة وذهابا بين ذاكرتين متجاذبتين: سماعيّة من جهة وبصريّة من جهة أخرى. وهذا مظهر لافت من مظاهر «التجاوب» بين الفنون، لكن بدون أن يسوق ذلك إلى القول بتماه تام بين الأغنية والقصيدة.
وحاصل القول إنّ هذه القصيدة/ الأغنية «أحنّ إلى خبز أمّي» مثال من بين أمثلة أخرى «يتجاوب» فيها الشعر والموسيقى والغناء، فهي نّص غنائي وجداني موضوعه القصيدة نفسها وفلسطين الأمّ في بساطتها وعمقها. وفي سياق هذا «التجاوب» تنشأ علاقة بين: الشاعر والمغنّي «الكانتور» أي «الناشد» (من النشيد) والمستمع حيث الأغنية وهي زمان صدى للمكان، أكثر منها صدى للعواطف الشخصيّة. فضلا عن أنّ هذه الأغاني محكومة بإيقاع من شأنه أن يشحذ فعل التذكّر؛ ويحدّ الطريقة التي تنتظم بها الخبرة الغنائيّة عند المغنّي.
*كاتب من تونس