ثقافة وفنون

«كارمن» رواية ميريميه الرائعة في أوبرا بيزيه الجريئة

«كارمن» رواية ميريميه الرائعة في أوبرا بيزيه الجريئة

بهاء بن نوار

لا يكاد يحضر اسم الكاتب الفرنسي بروسبير ميريميه حتى تحضر معه رائعته الشهيرة «كارمن» التي صدرت طبعتها الأولى سنة 1845 فغدت من حينها وحتى يومنا هذا واحدةً من أشهر الشواهد العالمية لنموذج المرأة المغويةLa Femme Fatale التي اختُصِرت في سمات «كارمن»؛ المرأة الجامحة، العصبية، المتقلبة المزاج، التي لا يمكن أبدا التنبؤ بحالاتها وردات فعلها، والتي لا تنشد شيئا سوى الحرية المطلقة والتمرد والانطلاق، وتجني بصفاتها المنفلتة هذه على عاشقها المتيم دون جوزيه الذي يتحول بسببها من جندي ملتزمٍ، أمينٍ، ينتظره مستقبلٌ واعدٌ من الترقيات والنجاحات إلى قاطع طريقٍ ومهربٍ فمجرمٍ تتملكه شهوة القتل، وتنهشه الغيرة فيقتل أيضا كل من تسول له نفسه الاقتراب من حبيبته، وينتهي به الأمر إلى قتلها هي نفسها وتقديم عنقه إلى حبل المشنقة، والإعدام جراء كل هذا، ما شكل شقا كبيرا من عناصر تميزها وبقائها خالدةً في أذهان القراء الذين لم يعتادوا هذا النوع المتمرد والمدمر والواقعي من العشق، بل اعتادوا النموذج الحالم والهادئ والرومانسي؛ نموذج التضحية وإنكار الذات، والوفاء المطلق للحب أو للحبيب، كما في «الأميرة دوكلاف» 1678 و«حكاية الفارس دي غريو ومانون ليسكو»1731 و«بول وفرجيني»1787 و«غادة الكاميليا» 1848، وغيرها.
وإلى جانب هذا البعد الواقعي في رصد المغيب والمسكوت عنه دوما في العلاقات العاطفية، فقد تميزت قصة «كارمن» ببعدها التوثيقي الواقعي أيضا الذي تجلى من خلال المرجعية السيرذاتية للكاتب، حيث قام برحلات كثيرة إلى إسبانيا، كانت أولاها سنة 1830 وتبعتها ثانيةٌ سنة 1840 وتلتها رحلاتٌ أخرى كثيرة. وكان له أن التقى في رحلته الأولى بنموذج كارمن ممثلا في غجريةٍ مشردة من مورفيادرو- قريبا من فالنسيا ـ في إحدى مصارعات الثيران، مما شكل واحدا من أهم مصادره الإبداعية، التي ارتكزت فضلا عن استلهام ملامح وسمات شخصية بطلة العمل من نموذجٍ واقعي على وصفٍ مستفيضٍ للبيئة والزمن، والمجتمع الإسباني في المدن العامرة أو في الجبال النائية. ودقةٍ عاليةٍ في ذكر أسماء الشوارع، والأزقة، وهو ما نلمس تكراره وإصرار الكاتب عليه في أعمالٍ أخرى له، مثل: «مسرح كلارا غاثول» سنة 1825 التي كتبها منتحلا شخصية مؤلفة إسبانية غجرية زعم أنه التقاها في جبل طارق، و«لؤلؤة توليدو» سنة 1829، و«رسائل إسبانيا» سنة 1832، التي احتشدت بالأجواء نفسها التي سادت «كارمن»، دليل السفر، والساحرات، وطقوس مصارعات الثيران، وغيرها.

كارمن في رحاب الأوبرا

رغم النجاح الكبير الذي حققته كارمن نموذجا أدبيا، فإنها حققت نجاحا أكبر لدى اقتباسها أوبراليا على يد الموسيقار الفرنسي جورج بيزيه سنة 1875، في واحدٍ من أشهر عروض «الأوبرا كوميك» بباريس، حيث تلقاها الجمهورُ بحماسٍ قليلٍ، بسبب طابعها الاقتحامي الجريء وغير المألوف، حيث صيغت في أسلوبٍ واقعي لم يلبث أن أصبح أحد أنماط الأوبرا، بعيدا عن الشخصيات الأسطورية، وبعيدا عن المثاليات الأخلاقية، فبدت «كارمن» في كامل طبيعيتها وواقعيتها؛ تدخن السيجار، تتهتك كل التهتك، ولا تتورع عن ارتكاب أي سوءٍ في سبيل إرضاء مزاجها المتقلب، وإفعام نفسها الظامئة إلى اللهو وجميع صنوف المتع والمسرات، وهو الأمر الذي لم يتقبله الجمهورُ بدءاً وهو المشبع ذوقيا بتلك النماذج البطولية الفخمة، مما شكل عنصرا مفصليا من عناصر مقاومة الاستجابة لها ولأشباهها من العروض. وهي السمة التي تميز بها بيزيه لا في «كارمن» فحسب بل في كثيرٍ من أعماله السابقة مثل: «صيادو اللؤلؤ» و«غادة بيرث الجميلة»، وليس هذا بعجيبٍ، فهو واحدٌ من أهم ما يميز مسرحه الموسيقي، وهو الأمر الذي أثار إعجاب الفيلسوف الألماني نيتشه الذي كثيرا ما قارن بينه وبين ابن جلدته فاغنر واعتبره فاغنر اللاتيني.
ولئن اقترنت «كارمن» بقامتين إبداعيتين شامختين في مجالي: الأدب والموسيقى، فإن السؤال الذي نطرحه الآن هو عن مدى تقارب وجهيها في كليهما أو تنافرهما: فما الذي قدمته «كارمن» صوتا أوبراليا متفردا ومتمردا لكارمن النموذج الحِبري المتفرد والمتمرد أيضا؟
بقراءة النموذج القصصي وتتبع أحداث الأوبرا وكلماتها تتكشف لنا نقاط تقاربٍ كثيرةٍ يكاد يبدو العملُ الأوبرالي في بعضها نسخا حرفيا من المرجع الأدبي، مما يكرس فكرة وفاء الشاعرين مايلهاك وهالفي معدي الكلمات للأصل الأدبي واعتدادهما الشديد به، الذي يشي بعمق قراءتهما للقصة واستلهامهما الدقيق لأهم تفاصيلها، فنجد الإطار الدرامي واحدا في كلا العملين: حب وتعلقٌ، ومللٌ وخيانة، فقسوةٌ وانتقامٌ، وختامٌ دموي مدو. غير أننا رغم هذا التطابق الظاهري الشديد نلمس اختلافا جوهريا في كثيرٍ من التفاصيل، أهمها ما بدا في تشكيل الشخوص؛ ففي الأوبرا نجد شخصيةً جديدةً هي: ميكائيلا خطيبة دون جوزيه، التي ليست سوى ابتكارٍ أوبرالي، لا وجود له في الأصل الأدبي، فلم يكن لجوزيه خطيبةٌ ولا حبيبةٌ غير كارمن التي دمرته، ولعل في حضورها دورا دراميا تعمد من خلاله كل من الشاعرين خلق نقطة تناقضٍ بينها وبين كارمن؛ فهي نموذجٌ رومانسي للنقاء والعذوبة، على نقيض كارمن؛ مثال الشهوانية والخطيئة. ومن الناحية المظهرية يمكننا ملاحظة فروقٍ جوهريةٍ بينهما؛ فميكائيلا بدت بتنورةٍ زرقاء، والأزرق هو لونُ ثياب «العذراء»، فيما بدت كارمن مرتديةً الأحمر والأسود، وهما لونا الموت والعواطف الجامحة، وحتى اسماهما يحملان معنيين متناقضين؛ فاسم ميكائيلا مشتق من اسم الملاك الأكبر: ميكائييل Michaël فيما اسم كارمن مشتق من السحر Charme.
وليس حضور ميكائيلا فيما أرى سوى عنصرٍ درامي خارجي، استعان به العرضُ الأوبرالي لإبراز قسوة كارمن وسوء طباعها، فلم تكن الفسحة فيه لتسمح بأكثر من هذا، في حين تفردت القصة وبطاقات السرد العالية التي حوتها بفرصٍ كثيرةٍ للغوص في أعماق هذه الشخصية الغريبة والمعقدة الأطوار، فنجد ميريميه يقف طويلا أمام مزاجها المتقلب، ويورد تفاصيل لا نجدها في الأوبرا، كما جاء في وصفه المستفيض لإسرافها الشديد، وعدم تفكيرها في الغد؛ فلم تجد بأسا من إنفاق جميع ما لديها ولدى جوزيه من نقودٍ في شراء مأكولاتٍ كثيرةٍ تفيض عن حاجتهما من خبزٍ وسجقٍ، ونبيذٍ، وبرتقال، وحلوياتٍ، وصفار بيضٍ محلى، وفواكه معقودةٍ وغيرها. ولم تنِ تحطم الأكواب قاذفةً بها على الجدار، وصائحةً: هذه كي لا يزعجنا الذباب! لتبادره في الصباح متذمرةً: «أظنني أحبك قليلا، ولكن لن يستمر هذا كثيرا… لقد قابلت الشيطان، نعم، الشيطان، هو ليس أسود دائما، كما أنه لم يدق عنقك، إنني أرتدي الصوف، ومع ذلك لستُ حملا…».
وهي رغم شجارهما العنيف ذات مرة، وتطاول فترة القطيعة بينهما، وبرود عاطفتها نحوه، لا تتخلى عنه وقد أصيب بجراحٍ خطيرةٍ في إحدى المواجهات مع الجنود، فبقيت ترعاه خمسة عشر يوما كاملا من دون أن تتركه لحظةً. ومع إقبالها الجامح على متع الحياة فإنها تستسلم في الختام لمصيرها البائس استسلاما مطلقا، ولا تبدي أية مبادرةٍ لإنقاذ نفسها، رغم كثرة الفرص المتاحة لذلك؛ فلم تحاول الهرب من ذلك البيت الذي خلفها فيه جوزيه رغم علمها بنيته قتلها. ولا هي ارتعبت من رؤيته يسحب سكينه ويلوح به أمامها، محاولا إخافتها عساها تضعف وتطلب الرحمة، بل كانت تدق الأرض بعنفٍ صارخةً: كلا! كلا! كلا! رافضةً تماما فكرة العودة إليه.
وجميعُ هذه المقاطع، وغيرها كثير، تؤكد تعقد طباع كارمن وشدة جموحها وجنونها نموذجا أدبيا أكثر منه صوتا أوبراليا، وهو ما يجعلنا نعتقد بدون مبالغةٍ أن كارمن التي أبدعها بيزيه أخف حدةً وأكثر تمدنا من تلك التي ابتكرها ميريميه، حيث تبدو لدى هذا الأخير لصةً، ودساسةً، ومجرمةً، ولا أخلاقيةً، ومتحجرةً، ووقحةً، فيما تبدو في الأوبرا أقل تطرفا في آثامها، وجرائمها. ولعل هذا يرجع إلى الطابع الجمعي لفن المسرح، وإلى تضخم التشدد الرقابي حينها، ما حتم نوعا من المراوغة وتلطيف جرعة تلك الصفات المتطرفة في لا أخلاقيتها، مراعاةً لطبيعة الجمهور عموما، ولذوق الطبقة الراقية فيه خصوصا، مما يذكرنا بشيءٍ مما فعله ألكسندر ديماس الابن في مسرحيته «غادة الكاميليا» التي هي كتابةٌ ثانيةٌ لروايته التي تحمل الاسم نفسه، فنجده حرص أيضا على عدم إغضاب الطبقة البورجوازية عليه، فحذف كل ما مِن شأنه الغمز فيها، أو الحط من شأنها، مما أدى إلى تخفيف البعد المأساوي وتمييعه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب