ثقافة وفنون

في المقهى… عندما التقى غودو سيزيف

في المقهى… عندما التقى غودو سيزيف

دانا جودة

الأول: ما رأيك أن نجلس هناك، في ذلك المقهى، هل تعرفه؟
الثاني: أعرفه! أحفظ المكان شبرا شبرا. فهم ينتظرونني هناك منذ الأزل.
اختار الرجلان طاولة صغيرة تطلّ على شارع اختلط رصيفه بركام بنايات كانت يوما تزيّنه. جلس أحدهما وهو يتأمل عيون من حوله المتعبة، كمن أنهكتها سنوات طويلة من الترقّب. بينما جلس الآخر، متّكئا على الطاولة بيديه الخشنتين وظهره المقوّس.
الثاني موضّحا: منذ زمن طويل والبعض يجلسون هنا. قيل لهم إنّ شيئا ما سيحدث، إن حدثا عظيما سيُغيّر كلَّ شيء. يبدو لهم أحيانا أن الزمن يرفض الحراك، إلا أنهم ما زالوا ينتظرون.
الأول (ساخرا): الانتظار؟ هذا ترف لا أملكه. أنا منشغل بشيء أكثر واقعية. كل يوم أشمّر عن ساعديّ، وأدفع بحِملي إلى الأعلى، صحيح أن ما أقوم به يُهدَم كل يوم، يُقصَف ويُحرَق ويُسرَق لكن هذا لا يمنعني من أن أبدأ من جديد. هذا قدري، حتى إن كان بلا جدوى. على الأقل أنا لا أنتظر شيئا من أحد. أُنظر حولك، كلهم هنا مثلي، يحملون أعباءهم بصبر غريب، وكأنهم وُلدوا لذلك.
الثاني: بلا جدوى! لكن ألا تشعر بأن كل هذا الجهد يجب أن يكون لغاية تجعلك تتحمّل؟
الأول: أي غاية يا صديقي، غاياتي تنزلق من يدي مع كل خطوة. لكن على الأقل حِملي حقيقي، ملموس. أما أنت يا رجل! أنت مجّرد حُجّة لتمرير الوقت، مثل برنامج مملّ يُعرَض في الوقت الضائع. تجلس هنا مُعَلقا كوعد لا شكل له ولا صوت. أخبرني مجدّدا بالله عليك، ما الذي ينتظره الآخرون منك؟
الثاني: يقولون إن الفرج قريب، ولا بدّ من تغيير، عدالة، أو ربما معجزة من السماء. لكن الأخبار تتكرّر، هي ذاتها، حتى إنهم يشعرون بها كابوسا لا ينتهي أو مسلسلا تراجيديا عالقا عند مقطع واحد أصبح يُضحكهم من شدّة ما أبكاهم. الانتظار كما ترى هو ما يمدّهم بالأمل و..
الأول (مقاطعا): أوه، لا تبدأ بالخطابات الفارغة عن الأمل. الأمل خديعة، وسرعان ما يتحوّل إلى عبء. أنا أجد سعادتي في قبول عبثيّة الوضع. لا أنتظر شيئا ولا أبحث عن شيء. أحمل صخرتي، وأبتسم للفراغ.
الثاني: سأعترف، أحيانا أسمعهم يشكّكون بأن ما ينتظرونه هنا لا يملك حتى وجهة واضحة. أحيانا يشعرون وكأن الأمل ذاته قد ضلّ طريقه إليهم. لكنه استدرك بعناد: مع ذلك، لو أنهم توقفوا عن الانتظار، فما الذي سيبقى؟ إذا لم ينتظروا التغيير، كيف يمكن له أن يحدث؟
الأول (بابتسامة ساخرة): تقصد لو أنهم توقّفوا عن المحاولة، حتى لو كان ذلك لا يؤدي إلى شيء، فكيف لهم أن يستمروا؟ اووه يا صديقي سيوران كم أنت حكيم حين شبّهت الأمل بالشكل السويّ للهذيان! ومع ذلك، لا ألومهم. نحن في مدينة يبدو أنها علِقت بين زمنين، لا تستطيع المضيّ قدما ولا العودة إلى الوراء. هنا، الانتظار عبء آخر.
أنظر حولك، أنظر كيف يرفعون صخورهم كل يوم ليبنوا بيوتهم التي تهدّمت مرّات لا تُحصى! يرفعون صخورهم لينزحوا من مكان لآخر وهم يظنّون أنهم قد نجوا هذه المرّة، لكنهم في النهاية ورغم اللاجدوى يحاولون.
أدرك كلاهما لوهلة أنّ الإنسان هنا يعيش بين صخرتين: واحدة يدفعها يوميا بلا كلل، وأخرى تبقى جاثمة على صدره إلى أن يتغيّر شيء ما.
معاندا، نفض الثاني أفكاره في لحظة الإدراك تلك: ورغم ذلك، كأنّ الانتظار صار طقسا، كأنه ينبض في عروقهم. أحيانا أفكر، ربما ليس المهمّ أن يحدث شيء، بل أن يبقوا منتظرين، فقط ليشعروا بأنهم على قيد الحياة.
الأول: عدنا إلى عبثيّتك! الحياة ليست في الانتظار يا رجل، بل في مواجهتها حتى إن كانت لا تؤدي إلى شيء. كل يوم أحمل ثقلي وأنا أعرف نهايته، لكن في كل خطوة أجد معنى في كل تلك الّلاجدوى، معنى صغيرا يمنحني القوّة لأبدأ من جديد.
ساد صمت ثقيل بينهما، لا يقطعه سوى صوت طيور جارحة تجوب السماء فوقهم، قبل أن يعودوا إلى مراقبة المارّة في الشارع. هناك من كان يتفقّد ساعته، وآخر يحمل صخرة على كتفيه، فيما اجتازهم للمرّة الخامسة منذ جلوسهم رجل غريب آخر يركض مُتخبّطا، وهو يحمل جسد كائن صغير، يتدلّى بين ذراعيه. طال الصمت إلى أن قطع الأول رتابة الزمن وهو ينهض، استعدادا ليعود إلى مهمّته الأزليّة. غادر بخطوات ثابتة وظهرٍ منحنٍ، تاركا خلفه رجلا ينظر إلى ساعته المتوقّفة.

كاتبة أردنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب