علي بدرخان… مخرج الوعي والتمرد

علي بدرخان… مخرج الوعي والتمرد
فايزة هنداوي
القاهرة ـ شهدت السينما المصرية مع نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي، تحولات كبيرة في أساليب السرد والرؤية البصرية، كان من أبرزها ظهور تيار «الواقعية الجديدة»، الذي سعى إلى تقديم صورة أكثر صدقًا وتعبيرًا عن الواقع الاجتماعي والإنساني. هذا التيار الذي استلهم بعض مفاهيمه من الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية، أعاد تشكيل العلاقة بين السينما والجمهور من خلال الاهتمام بالحياة اليومية، وتصوير قضايا المجتمع بواقعية تبتعد عن المبالغة الدرامية والميلودراما التقليدية.
المخرج الكبير علي بدرخان أحد أبرز رموز جيل الواقعية الجديدة في السينما المصرية، وهو الجيل الذي جاء بعد جيل الواقعية الكلاسيكية التي قادها مخرجون مثل صلاح أبو سيف وكمال الشيخ وتوفيق صالح. وقد تميز هذا الجيل الجديد بنظرته الأكثر عمقًا وتركيبًا للواقع الاجتماعي والسياسي، متجاوزًا التوثيق السردي المباشر إلى تقديم رؤى أكثر انفتاحًا على التجريب والأساليب الفنية المختلفة. وقد شكل علي بدرخان مع زملائه من المخرجين، مثل عاطف الطيب وخيري بشارة ومحمد خان، وداود عبد السيد، ملامح هذا الاتجاه الذي استطاع أن يعبر عن قضايا المجتمع المصري برؤية أكثر إنسانية وجرأة.
لذلك فإن الحديث عن علي بدرخان هو حديث عن مرحلة مهمة من تاريخ السينما المصرية، حيث تضافرت عوامل سياسية واجتماعية لإنتاج جيل من المبدعين الذين سعوا إلى تقديم سينما مختلفة. كان بدرخان أحد هؤلاء الذين أدركوا أن السينما ليست مجرد إطار سردي، بل هي وسيلة لطرح الأسئلة، وكشف الحقائق، وبناء وعي جديد قادر على رؤية الواقع بعيون مختلفة.
يتميز علي بدرخان بأنه صاحب مشروع ورؤية سينمائية متكاملة، تعكس بعمق أزمات المجتمع المصري عبر العصور. حيث يركز على قضايا القهر والظلم بكافة أشكاله، من دون الوقوع في فخ المباشرة الخطابية أو الرمزية الفجة، مع إبراز دور المرأة كجزء من هذا الصراع، فحضور المرأة في أفلام بدرخان كان جزءًا من رؤيته النقدية للمجتمع. ففي «الكرنك»، تمثل شخصية سهير الشباب الذي يتم سحقه من قبل السلطة، بينما في «شفيقة ومتولي»، تصبح شفيقة رمزًا للاستغلال الاجتماعي، أما في «الجوع»، فتتجسد المرأة كعنصر فاعل في الصراع الطبقي. هذا التناول المتكرر يرسّخ قناعة بدرخان بأن قمع المرأة ليس مجرد قضية منفصلة، بل هو جزء لا يتجزأ من منظومة القهر الاجتماعي والسياسي.
جدلية السلطة والفرد في أفلام بدرخان
يمكن بوضوح ملاحظة أن أغلب أفلام علي بدرخان تدور حول الصراع بين السلطة والفرد، سواء كانت سلطة سياسية، أو اجتماعية، أو اقتصادية. في كل مرة، تظهر الشخصيات الرئيسية كأدوات في لعبة أكبر، تحاول التمرد، لكن ينتهي بها المطاف في مواجهة قوى أقوى منها.
اعتمد بدرخان على لغة بصرية تعكس واقع شخصياته، مستخدمًا تكوينات سينمائية قوية، وإضاءة معبرة، ومونتاجًا متقنًا يبرز تناقضات المجتمع، مع الاهتمام بكافة العناصر مثل الملابس والديكور والموسيقى التصويرية، كما كان من أوائل المخرجين الذين اهتموا بتطوير أدوات السرد البصري، وهو صاحب مشروع فكري متكامل، يرى في السينما أداة لتحليل تناقضات المجتمع وكشف القهر السياسي والاجتماعي. قادر دائما على النفاذ إلى جوهر المشكلات الاجتماعية والسياسية، ونجح في تقديم سينما تحمل جرأة فكرية، ورؤية بصرية متميزة، وقدرة على استكشاف قضايا المجتمع بعمق وتحليل إنساني راقٍ.
ثورة المرأة على العادات والتقاليد «الحب الذي كان»
على الرغم من قلة عدد أفلامه، إلا أن علي بدرخان استطاع أن يترك بصمة قوية في السينما المصرية. حيث قدم تحليلات بصرية عميقة للمجتمع، تكشف تناقضاته وتسلط الضوء على القضايا التي يتم تجاهلها.
في «الحب الذي كان» أول أفلامه الروائية الطويلة، تناول قضية قهر المرأة داخل منظومة اجتماعية صارمة، حيث قدّم صورة مأساوية للصراع بين الواجب، وبين العاطفة والرغبة في التحرر من القيود التي يفرضها المجتمع، ليشكل عملًا نقديًا قويًا سلط الضوء على الظلم الذي تتعرض له النساء بسبب الممارسات القهرية التي يفرضها المجتمع على النساء باسم العادات والتقاليد، الفيلم لا يدين شخصًا بعينه، بل يكشف عن مجتمع بأكمله يُنتج الظلم ويعيد إنتاجه باستمرار.
«الكرنك»:
مأساة الفرد في مواجهة السلطة
ثم كان فيلم»الكرنك»، الذي كان صرخة ضد الاستبداد السياسي. يستند الفيلم إلى رواية نجيب محفوظ، لكنه لا يكتفي بنقل الحكاية فقط، بل يخلق مناخًا بصريًا يوصل الإحساس بالاختناق الذي تعيشه الشخصيات، من خلال قصة الفتاة الجامعية سهير التي تتعرض للاعتقال والتعذيب، حيث تتحول أجهزة السلطة إلى ماكينة تسحق الأفراد وتحولهم إلى أدوات طيعة في يد النظام.
استخدم بدرخان في الفيلم مجموعة من الأساليب البصرية التي جسّدت أجواء القمع والخوف بمهارة، من أبرزها الإضاءة القاتمة التي تعكس الظلمة المخيّمة على المجتمع جراء القهر والاستبداد، بالإضافة إلى اللقطات القريبة التي تبرز بوضوح مشاعر القلق والتوتر على وجوه الشخصيات. ولأن هذه اللقطات تعتمد على أداء الممثلين، كان لا بدّ أن يتقنوا التعبير عن هذه المشاعر بعمق، وهو ما نجح فيه بدرخان بفضل براعته في توجيه الممثلين وإدارتهم، ما انعكس على جودة الأداء في جميع أعماله. كذلك، لعب المونتاج المتوتر دورًا أساسيًا في تأكيد الإحساس الدائم بالتهديد والاضطراب، مما زاد من تأثير الفيلم على المشاهدين. ولا يزال هذا الأثر ممتدًا حتى اليوم، حيث يعكس الفيلم واقعًا لم يندثر، بل ما زال يتكرر في مجتمعات تعاني القمع والاستبداد.
«الجوع»:
الفقر كأداة للهيمنة والسيطرة
فيلم «الجوع» هو أعمق المعالجات السينمائية لرواية «الحرافيش» للأديب نجيب محفوظ، حيث نجح في النفاذ إلى جوهر الرواية وفلسفتها، مقدمًا تأملًا بصريًا مكثفًا حول الصراع الأبدي بين السلطة والقهر، وبين التطلع إلى العدالة والانجراف نحو التسلط. على عكس الأفلام الأخرى التي استعرضت الرواية عبر قصص منفصلة، مكتفية بسرد حكاية واحدة بدون التعمق في أبعادها الفلسفية، استطاع «الجوع» أن يترجم الروح الحقيقية لللحرافيش، مستخدمًا سردًا بصريًا حافلًا بالدلالات الاجتماعية والسياسية، ليقدم تأملًا سينمائيًا في دورات القهر والتفاوت الطبقي، حيث تتحول الضحية إلى جلاد، ويدور التاريخ في حلقات متكررة من الظلم والمقاومة.
ومن خلال رؤيته الإبداعية، أكد علي بدرخان أن «الجوع» ليس مجرد حرمان مادي، بل استعارة لكل أشكال القهر والاستغلال الإنساني، حيث يصبح الجوع أداة للسيطرة الطبقية وإخضاع الفئات المستضعفة. استخدم بدرخان الضوء والظل بذكاء، مستفيدًا من براعة مدير التصوير محمود عبد السميع في تجسيد قسوة العالم الداخلي للشخصيات، ما جعل الفقر يبدو كسجن أبدي يحاصرها. كما استعان بزوايا تصوير واسعة تُظهر الشخصيات ضئيلة في مواجهة واقع ضخم ومهيمن، ليعكس حالة العجز أمام السلطة القامعة.
«شفيقة ومتولي»: الاستغلال الاجتماعي والبحث عن الخلاص
استلهم بدرخان التراث الشعبي في فيلم «شفيقة ومتولي» ليقدّم معالجة سينمائية جريئة تكشف عن الاستغلال الاجتماعي للمرأة في مجتمع ذكوري قاسٍ. شفيقة، الفتاة البريئة، تصبح نموذجًا للمرأة التي يتم التضحية بها من أجل بقاء النظام الاجتماعي. الفيلم يعكس ذات الفكرة التي طرحها «الكرنك» حول سحق الفرد، ولكن في سياق اجتماعي هذه المرة، حيث يتم التلاعب بمصير شفيقة من قبل قوى أكبر منها، تمامًا كما حدث مع أبطال «الكرنك» في مواجهة أجهزة الدولة القمعية.
تميّز الفيلم بتصويره البانورامي للطبيعة الريفية المصرية، حيث استخدم بدرخان اللقطات الواسعة للطبيعة كوسيلة لإبراز التباين بين براءة الريف وقسوة الاستغلال الاجتماعي. كما استُخدمت الإضاءة الطبيعية في المشاهد الريفية، بينما لجأ المخرج إلى الإضاءة المعتمة في المشاهد التي تصوّر معاناة «شفيقة»، مع توظيف الإضاءة الخلفية لإبراز العزلة النفسية للشخصيات، خاصة في مشاهدها داخل القصور. لعب بدرخان أيضًا بالألوان، حيث بدأت الألوان زاهية في المشاهد الأولى، لكنها أصبحت داكنة ومائلة للبني كلما تعمقت معاناة البطلة.
«أهل القمة»: انهيار قيم المجتمع بسبب السياسات الاقتصادية
وفي فيلم أهل القمة ناقش بدرخان التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على المجتمع المصري خلال فترة الانفتاح الاقتصادي. يعكس الفيلم صراع القيم بين الطبقات المختلفة، مُسلطًا الضوء على صعود طبقات اجتماعية جديدة بوسائل غير مشروعة، وما ترتب على ذلك من تناقضات اجتماعية حادة.
يعكس الفيلم رؤية بدرخان التحليلية للمجتمع، من خلال شخصياته المعقدة وحبكته الدرامية العميقة. الفيلم يُبرز كيف أن سياسة الانفتاح لم تكن مجرد تحول اقتصادي، بل أدت إلى تغيرات جوهرية في طبيعة العلاقات الاجتماعية، وهو ما تجلى في الشخصيات التي رسمها الفيلم بعناية.
«الراعي والنساء»: صراع الرغبات والقيود في مجتمع تقليدي
وفي فيلم «الراعي والنساء» يتجلى اهتمامه العميق بالإنسان ومشاعره، خاصةً المرأة في رحلة نفسية تسلط الضوء على العلاقات المعقدة بين شخصياته، حيث تتقاطع الرغبات الشخصية مع القيود الاجتماعية، مما يولد صراعات داخلية عميقة تترك أثرًا نفسيًا بالغًا.
تميز أسلوب بدرخان في هذا الفيلم بالتركيز على التفاصيل الإنسانية، حيث يمنح شخصياته مساحة كافية للتعبير عن مشاعرها وأزماتها، مستخدمًا لغة سينمائية تعتمد على التكوينات البصرية المدروسة التي تعكس التوتر النفسي، بالإضافة إلى زوايا تصوير تسهم في إيصال المعاناة الداخلية للأبطال.
قدم بدرخان في هذا الفيلم رؤية إنسانية شديدة الحساسية، وقد أظهر ببراعة كيف تتعامل شخصياته النسائية مع القهر والحرمان، وفي الوقت ذاته سعى إلى إبراز قوتها الداخلية وقدرتها على الصمود في مواجهة المصاعب.
أفلام بدرخان تؤكد إنه ابن المدرسة التي تؤمن بأن السينما قادرة على إحداث وعي جديد، وأنها ليست مجرد صناعة، بل هي فن قادر على التعبير عن هموم الناس وأحلامهم. لذلك، كان أحد الذين ساهموا في إعادة تعريف دور السينما المصرية، وجعلها أكثر التصاقًا بالواقع وأكثر جرأة في تناول قضاياه، لذلك فإن أعماله ستظل حية ومؤثرة وشاهدة على عصرها، تعكس الماضي وتُلقي بظلالها على الحاضر، ما يجعلها قابلة للتأويل وإعادة الاكتشاف مع كل حقبة زمنية.
«القدس العربي»: