منوعات

أسامة بعلبكي: تحية ومعرض يشكلان خطوة استثنائية

أسامة بعلبكي: تحية ومعرض يشكلان خطوة استثنائية

زهرة مرعي

متحف سرسق في «تحية للجنوب» معرض لأعمال عبد الحميد بعلبكي بعد تفجير منزله في العديسة

بيروت ـ  أزيل منزل الفنان الراحل عبد الحميد بعلبكي من الوجود. انهمرت عليه كُتلة نار من حقد متأصل، حقد يُدرك صانعوه أن بلدة العديسة المحاذية لفلسطين ناسها منغرسون بتربتها، وجذورهم في أعماقها. هم أهل الأرض، وغير مستجلبين قطعاناً من شتات الدنيا ولممها. أرض وناس مميزون رسمهم أو نحتهم عبد الحميد بعلبكي، يستحوذون على الحواس جميعها، تكاد تحادثهم، وتُحصي أنفاسهم، وتشعر بأفكارهم، فريشته تبعث الحياة في شخوصه، نحتاً أو رسماً.
لهذا الجنوب المعطاء الذي جسّد عبد الحميد بعلبكي تضاريسه المثيرة بألوان مدهشة بتداخلها، وتفردها يقدّم متحف سرسق «تحية للجنوب» من خلال أعمال فنان عاملي السيرة والطوية. معرض يفتتح في 27 شباط/فبراير ويستمر إلى 28 أيلول/سبتمر 2025.
هنا تحقيق عن المعرض والعديسة والبيت.

أسامة بعلبكي
الفنان وإبن الفنان: أتشبّث بأطراف التاريخ في العديسة

○ ما هي الصورة الباقية في خيالك عن منزلكم العائلي في العديسة؟
• بيتنا قائم على سفح وادٍ في آخر الضيعة. يُطلّ على هضاب جميلة جداً، تشكل جزءاً من طبيعة جبل عامل. هضاب يمتاز بها الجنوب، تتشابه مع أجساد البشر، وتختزن ما هو إنساني، بانحناءات ناعمة، وتدرج لطيف. يتميز بيتنا بإطلالته على الوادي والهضبة، ويبدو كوردة مقابل تلك التشكيلة الطبيعية.
○ متى شُيّد البيت؟
• شُيّد على مراحل، وكأنه بيت لن يتمّ إنجازه لكثرة ما توسّع وأستطرد والدي في بنائه، كونه بيت الأحلام. بدأ والدي بتشييده سنة 1984، وحينها كنّا قد غادرنا بيروت بسبب الاجتياح الصهيوني، وعدنا إلى العديسة. استمر التشييد مرتبطاً بإيقاع الأزمات اللبنانية الاقتصادية وسعر الصرف، صرف من راتبه الجامعي على البناء. وعندما حدث العدوان الأخير لم يكن المنزل قد اكتمل، فنحن أبناء عبد الحميد بعلبكي كنّا بصدد إضافات جديدة، إلى أن نُسف وجُرف.
○ هل بلغتك تفاصيل عن تدميره؟
• فخخ وفجّر من الداخل. وأظهرت صور الأقمار الصناعية بأنه تعرّض لاحقاً للجرف. وهو حال العديد من منازل الحي. وإلى اللحظة التدمير والحرق مستمران في العديسة.
○ وماذا عن ضريح الوالدين؟
• الضريح الذي كانت تُظلله الأشجار مُلحق بالمنزل، ويبعد عنه بضعة أمتار. لدى وفاة والدتي سنة 2003، رغب والدي بدفنها ضمن مساحة المنزل، ولكونه شديد التصالح مع الحياة والموت حضّر سلفاً مكان دفنه بقربها.
○ كيف كان وقع خبر تدمير المنزل عليكم؟
• في خضمّ حرب قاسية جداً، أتى الحدث من ضمن التوقع. إنما حدوثه فاق التخيُل والتوقع. جهود أجيال وسنوات طويلة وتعب، تبدد بلحظة. من طبيعة شخصيتي التسليم بالخسارة، والتفكير مباشرة بالصفحة التالية. أفكر بكيفية التشبث بأطراف التاريخ في العديسة، أي التشبث بوجودنا، كي لا نسمح لمشروع الإبادة الصهيوني بأن يكتمل. تلقى اخوتي الخبر بأسى كبير، وكل منهم حسب طبيعة شخصيته، في حين «جاندت» على الحدث، ووجدت بمن قدّموا أرواحهم في مواجهة المحتلين أمراً جللاً، فتوازنت كإنسان فقد منزلاً.
○ ماذا عن محترف عبد الحميد بعلبكي في ذاك المنزل؟
• كما تبين لنا أن والدي وفي مرحلة مبكرة جداً من شبابه حلُم بهذا البيت. حلُم رافقه في رحلته لدراسة الدكتوراه في باريس، بأن يكون منزله من ضمن هوية عربية أصيلة. اهتمّ بالتعبير عن جذوره الحضارية، أنجز الـ«ماكيت» قبل بدء التنفيذ. وكان يتحين لحظة عودته من باريس للبدء بالمشروع الحلُم. اُنجز المنزل بطراز أندلسي حديث. بيت كبير يتسع للعائلة جميعها، وكان طموحه أن يصبح مركزاً فنياً. كان مأخوذاً بأن جبل عامل سيكون مكاناً للنشاط الثقافي والفني، لهذا يمكن وصف مرسمه بأنه كبير وضخم، واحترافي التنفيذ. فيه مكتبة ضخمة تضمّ بحدود الـ8 آلاف كتاب فني، وأخرى قديمة ذات قيمة عالية، إلى نوادر الكتب، وطبعات أولى للكثير منها، ومخطوطات، وكُتب مصنّفة من التُحف النادرة. حين أنجزنا معرضاً استعادياً له في بيروت سنة 2018، نقلنا من العديسة جزءاً مهماً من الزيتيات. وبقي في المنزل نسبة 15 في المئة من الأعمال الزيتية والورقية، وأخرى موجودة ضمن مجموعات أخوتي، حيث لدى كل منهم عدداً من اللوحات. ابيد من الزيتيات بحدود الـ20. والأعمال الورقية والمنحوتات المبادة بالعشرات، وأبيدت دراسات كثيرة.
○ هل كانت لدى عبدالحميد بعلبكي هدايا من فنانين زملاء؟
• طبعاً. هدايا من مجايلين له، وكان المنزل يضم صوراً عائلية ووثائق، وأرشيفه الخاص الذي يضمّ أوراقه المختلفة من شعر وترجمات، إلى اهتمامه بجمع المأثورات الشعبية الخاصة بجبل عامل، والأمثال الشعبية، والتراث الشعبي، واحتفاظه بالمخطوطات الأصلية لتاريخ العديسة والجنوب بشكل عام.
○ هل تمنيت لو سُحبت إحدى اللوحات من العديسة؟
• لم تمر تلك الخواطر ببالي، فالأحداث كانت مفاجئة، وسريعة، وفي زمن قصير تدحرجت الحرب من عادية إلى حرب عالمية هائلة. في الأحداث التاريخية الكبرى تَصغر الخسارات الشخصية.
○ وكأنّ عبد الحميد بعلبكي منذ بداياته وبعد رحيله منذور للخسارات الكبيرة؟
• نعم. بدءاً بلوحة «عاشوراء» وهي مشروع تخرجه من معهد الفنون في الجامعة اللبنانية والذي كان مقره وسط البلد في بيروت، وفقدت في بدايات الحرب الأهلية سنة 1975. لوحة «حرب» التي مثّلت الحرب الأهلية في لبنان والتي عُرفت بحرب السنتين، تضررت وعاد لترميها. والدي وأبناء جيله من الفنانين الذي كانت قراهم تلامس حدود فلسطين، انعكست النكبة عليهم تماماً كما على الفلسطينيين، وتمثّلت بالتهجير المتواصل. التهجير الأول الذي عاشه والدي كطفل كان سنة 1947 بانتقالهم للعيش في الطيبة، وحينها أرتكبت مجزرة حولا. تلا ذلك سلسلة الشقاء الذي عاشه بالانتقال من الريف إلى بيروت. يحسب والدي لعائلتنا بحدود 10 مرّات تهجير، من منزل لآخر، ومن منطقة لأخرى.
○ حتى أنه فقد في باريس لوحته «سقوط النصّار» وهي تمثّل تاريخ جبل عامل؟
• صحيح. تاريخ الناس كان راسخاً في وجدانه. وجبل عامل بالنسبة له فكرة ووطن إلى حد ما. من المهمات الفنية التي دأب عليها شعوره بأنه صوت للروح العاملية وللبشر. نجد في أعماله وكأنه يُعبّر رمزياً عن المجتمع بكامله. كان يهتم بالتعبير الرمزي عن الوجدان المشترك.
○ وماذا قالت لك «تحية للجنوب» من متحف سرسق من خلال أعمال والدك؟
• في الحقيقة تفاعُل متحف سرسق من خلال أعمال والدي مع ما حدث للناس يدلّ على روح التضامن الوطني. خطوة تعطي انطباعاً حقيقياً بأن لبنان رغم ما يفرقه يبقى الملاذ الأخير للجميع. خطوة تُقدّر بشكل استثنائي جداً.

مُتحف سرسق:
أعماله راحت صوب الناس والعدالة

وفي حوار مع المسؤول الإعلامي في متحف سرسق محمد شقير قال:
○ لماذا التحية للجنوب من خلال الفنان الراحل عبد الحميد بعلبكي؟
• «تحية للجنوب» معرض يبدأ في 27 شباط/فبراير الجاري وينتهي في 28 أيلول/سبتمبر 2025. استدعته الحال الذي عاشه الجنوب على مدى أشهر، وتسوية منزل عبد الحميد بعلبكي بالأرض. منزل كان رمزاً لفناني الجنوب، وحتى اللحظة لا نعرف حاله ومحتوياته.
○ عائلته شاهدته عبر صور الأقمار الاصطناعية مجروفاً؟
• هناك احتمال وفقاً لصور الأقمار الاصطناعية بأن يكون البيت غير مُدمّر كلياً، ولا نعرف حتى الآن حجم الدمار. وقد يكون أملي مبالغا فيه، لكنه موجود. التحية للجنوب من قبل متحف سرسق تقع في اللحظة المهمة والمؤثرة.
○ كم تلعب المتاحف دوراً في الإضاءة على أثر الحروب في تدمير تاريخنا وإرثنا الفني والوطني؟
• نعتبرها مهمة كافة المتاحف. وعلى عاتقنا دور كبير في حفظ هويتنا الخاصة بالفنون في كافة مناطق لبنان، ويقع على عاتق المتاحف دور توثيقي، فإن تعرّضت الأعمال للتدمير نبقى نحتفظ بتاريخها وتفاصيلها وصورها، وحوارات وكتابات حول الأعمال المُدمّرة، وحوارات مع عالم الفنان الحميم.
○ هل ستترافق تلك التحية للجنوب مع محاضرات أو ندوات تحكي خساراتنا الفنية في هذا العدوان؟
• في برنامجنا سلسلة تحيات لفنانين سابقين، أو لمجموعة فنانين أو لمناطق بعينها. عدّة غرف من الطابق الأول مهمتها احتضان التحيات لفنانين سابقين، وتحية للجنوب معرض يتضمّن فيلماً وثائقياً، مدته تسع دقائق سيكون من ضمن الصالة. وهو من إنتاج المتحف تولت خلاله مديرة المتحف كارينا الحلو طرح الأسئلة، إلى جانب الفريق الفني للمتحف، وهو من تصوير مالك حُسني. كما وسنستضيف متكلمين عن المعرض في أوقات متفرقة في ندوات يحضرها الجمهور.
○ وما هي محتويات الفيلم؟
• يجمع شهادات وأقوال من شقيق الفنان المُكرّم وهو الفنان فوزي بعلبكي، وإبن فوزي الفنان أيمن، وابن عبد الحميد الفنان اسامة. رغِبْنا بزيارة العديسة واستكشاف ما حصل فيها، والأمر لم يكن متاحاً بالمطلق، واُرجِأ. لكننا نأمل بفيلم وثائقي أطول عن حياة الفنان والناس الذين كانوا يحيطون به، وكذلك عن المجلس الثقافي للبنان الجنوبي والذي كان عبد الحميد بعلبكي ناشطاً من ضمنه.
○ قبل تدمير بيت عبد الحميد بعلبكي كم كان إرثة وفنه معروفا لديكم؟
• كان المتحف على دراية بأعمال عبد الحميد بعلبكي لدى إعادة افتتاحه سنة 2015، لكنه لم يصادق عليها خلال صالون الخريف.
○ هل كانت لمعرض الخريف قواعد محددة؟
• بظني أن معرض الخريف كان يتّبع إرشادات ومعايير المعاهد والمتاحف الأمريكية والأوروبية، التي تُفضل أسلوب رسم يختلف عن الواقع الذي كان يرسمه عبد الحميد بعلبكي.
○ ما هو دور الفن في رواية سيرة الشعوب بطريقة موازية لما ترويه كتب التاريخ؟
• انطلاقاً من رسم عبد الحميد بعلبكي أجده يقوم بدور كبير. رسم اليوميات العادية للناس، ورفض تجسيد العناوين السياسية الكبيرة، رغم كونه يمتلك مواقف وأفكار بهذا الصدد. أعماله راحت صوب الناس والعدالة بعيداً عن التمييز، بخلاف لوحتي عاشوراء والحرب، لم يكن يرسم موضوعاً سياسياً. فيما عاشوراء تمثّل تراثاً لجبل عامل أكثر من كونها ديناً، والحرب اُعتبرت غارنيكا لبنان. رسم أبو الجماجم، الرجل السفاح في الحرب الأهلية، وكان متواجداً في كافة المناطق المتقاتلة. رسم الناس، من بائع البطيخ والحطّاب وغيرهما.
○ ألوانه وخطوطه كانت قريبة من الناس؟
• بكل تأكيد. تألق في رسم تربة الجنوب وبلدته العديسة. ميزته في اختيار ألوانه لتجسيد تربة الجنوب. ذكر ابن شقيقه ايمن أن نصيحة عمه له بأن يرسم مع مبالغة، عندها تُصدم العين وتُجذب، وفسّر له بأن الرسم يستدعي المبالغة أكثر من السينما والشعر.
○ ختاماً نستنتج أن «تحية للجنوب» يشكل تعارفاً بين متحف سرسق وعبد الحميد بعلبكي والجنوب؟
• طبيعي. الظروف القائمة استدعت هذا الخيار، وباتت علينا مهمات ومسؤوليات أكبر. هو معرض يتناول فناناً استطاع أن يشارك شغفه مع أفراد عائلته، كونه رب أسرة تضمّ عشرة فنانين، كان يطمح لتحقيق ذلك في الجنوب ـ إنه تحية لهذا الحُلُم.
يوسف غزاوي:خسارتي الرابعة من العدو ومستمرون

للفنان الدكتور يوسف غزاوي ابن الخيام تاريخ من الخسارات تسبب بها العدو الصهيوني. تعرفنا إليها حين سألناه عن إحصاء لخسارات الجنوب الفنية، فكان في طليعتها. يقول: في الخيام بيت لوالديَ، وآخر لي لم يكتمل بناؤه، ودُمرا كليا. في منزل والديَ كانت لي مجموعة كبيرة من الأعمال، وأخرى لزوجتي الفنانة التشكيلية الدكتورة سوزان شكرون. حكايتي تطول مع الحروب، إنها الخسارة الرابعة لأعمالي. المرة الأولى كانت في اجتياح الليطاني سنة 1978 حيث دُمّر منزل أهلي في الخيام وخسرت كافة أعمالي، رسوم من الطفولة إلى حينه. الطفولة عزيزة على الإنسان وتشكّل أساساً لتفتحه اللاحق. أنظر لما في خيالي من تلك المرحلة وأجد رسوماتي أهم من كافة المراحل التي تلتها، وحرمت منها. الخسارة التالية لم تكن بعيدة وكانت سنة 1982 حين خسرت كافة أعمالي الأكاديمية ومكتبتي في منزلنا في الصفير. والمرة الثالثة في منزلي في حارة حريك خلال عدوان تموز سنة 2006 تداعى البناء بكامله، ففقدت مع زوجتي كافة أعمالنا ومكتبتنا الغنية. انتشلت من ذاك المنزل بقايا وأقمت معرضاً في الأونيسكو حمل اسم «اغتيال مُحترف». ونحن الآن مع الخسارة الرابعة بعد تدمير منزل الأهل المؤلف من ثلاثة طوابق. في الحقيقة وزّعت أعمالي، فمنزلي لا يتسع لها، وكان القسم الأكبر منها في منزل الأهل في الخيام. أعمال عزيزة للغاية من ضمنها بورتريه للمرحومة والدتي، وللمرحوم والدي «وغصّ بالبكاء». ومن ضمن الأعمال المُدمرة أعداد كبيرة من اللوحات التي رممتها بعد خسارة المنزل في حارة حريك. اعتقدت أن مكانها في الخيام سليم بنسبة أكبر، مجموعة تتضمن أعمالي في المرحلة الباريسية، واعتبرها تجربة غنية للغاية.
وأضاف: إنها حكايتنا مع الحروب ومع بلدنا. اُنتج أعمالاً منذ 42 سنة وأغلبها مصيرها الدمار. لست أتخيل إنساناً في هذا العالم مرّ بهذا الحال، وللأسف هي قضية لا تلقى الضوء الذي تستحقه. هو ألم ما بعده ألم.
ويقول الدكتور يوسف غزّاوي عن أعمال زوجته الدكتورة سوزان شكرون: رغم تجربتها الحديثة بالنسبة لي، إنما صُدمت، وكان الوقع صعباً ومريراً، وكل منا يواسي الآخر. نسأله رأيه في التحية للجنوب التي يقيمها متحف سرسق؟ يقول: الراحل عبد الحميد بعلبكي كان أستاذي ومن ثمّ زميلي في معهد الفنون الجميلة. فنان جنوبي أصيل، أعماله نابعة من بيئته، من جنوبه وثقافته وإيمانه، وبالتالي تحاكي الجنوب، ومجتمعنا، وعاداتنا وأفكارنا. زرته في منزله وهو يمتلك مكتبة نادرة الوجود، دمارها خسارة كبيرة.
وخلص للقول: رغم كافة الخسارات نحن مستمرون.

«القدس العربي»:

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب