التوازن الدولي وقضايا الشرق الأوسط

التوازن الدولي وقضايا الشرق الأوسط
د. سعيد الشهابي
ليس كل ما تريده أمريكا يتحقق، برغم ما تمتلكه من قوة اقتصادية وعسكرية. ويكشف السباق بين الإرادة الأمريكية والقوانين الطبيعية التي تحكم الدول والعلاقات والتحالفات، حدود القوة وأن هناك مناعة طبيعية لدى البشر ضد الهيمنة والاستغلال. كما يؤكد التاريخ المعاصر أن واشنطن منذ صعودها إلى موقع الصدارة السياسية والعسكرية في العالم لم تتخل عن أطماعها في توسيع النفوذ، وأنها امتداد للاستعمار الغربي الذي توسع نفوذه في بلدان العالم الثالث بعد الحرب العالمية الأولى.
وكانت حقبة الحرب الباردة حافلة بالصراع بين المعسكرين، الشرقي والغربي، لتوسيع مساحات النفوذ، وكذلك بنهضة الشعوب وحركات التحرر من الاستعمار. وحتى بعد أن أصبحت أمريكا القطب الأوحد بعد تداعي الاتحاد السوفياتي قبل ثلث قرن، لم تستطع واشنطن بسط نفوذها بشكل مطلق، فواجهت تحديات كبرى حالت دون تحقيق أطماعها. فقد كانت فرصة التراجع السوفياتي في أفغانستان مؤاتية للتوسع الأمريكي، ولكن يقظة الشعوب بالإضافة للتجارب السابقة المريرة ساهمت في تحجيم التوسع الأمريكي.
وكان أمام الولايات المتحدة فرصة لتثبيت نفسها بشكل أقوى لو قامت بأمور ثلاثة: أولها دعم التحول الديمقراطي في العالم. لو فعلت ذلك ومارست ضغوطا على حلفائها في الدول المحكومة بالاستبداد فلربما حظيت بقدر من الاحترام، ولكنها لم تفعل ذلك. ثانيا: استمرارها بدعم «إسرائيل» والتعهد بحمايتها الدائمة. وليس سرّا القول بأن النضال ضد الاستعمار تبنّى قضية فلسطين كعنوان لذلك النضال، وبذلك تميّزت القضية بأنها أحدثت استقطابا سياسيا وأيديولوجيّا غير مسبوق. الأمر الثالث: عجز أمريكا عن استيعاب تطلعات الشعوب وحرصها على حماية ثرواتها ورفض الاستغلال، وتصاعد النضال ضد المشروع الإمبريالي الذي حوّل العالم إلى ساحة صراع لم يتوقف على مدى مائة عام.
دروس التاريخ المعاصر تكشف اختلافا كبيرا بين الاستراتيجية البريطانية التي ساعدتها على البقاء في الدول التي وقعت تحت استعمارها والاستراتيجية الأمريكية الحالية. فبريطانيا كانت أقل استفزازا للشعوب المحتلة، وانتهجت سياسات هادئة لبسط النفوذ، وتظاهرت أحيانا بالتماهي مع تطلعات تلك الشعوب ورغباتها، وانتهجت الدبلوماسية الهادئة في التعاطي مع المستجدات في الفضاءات السياسية في بلدان العالم الثالث. بينما أمريكا عُرفت، منذ بداية توسعها بعد الحرب الكوريّة في مطلع الخمسينيات، بأنها أكثر تمسكا بالخيارات العسكرية. وساهمت تجربتها في فيتنام في رسم صورة أمريكا في الأذهان بأنها مستعدة للقتل والتدمير بدون حدود من أجل تحقيق أهدافها. فقد احتفظ العالم في ذاكرته بما حدث في نهاية الحرب العالمية الثانية عندما استخدمت أمريكا للمرة الأولى في تاريخ العالم، القنبلة الذّرّية بإلقاء قنبلتين على كل من هيروشيما ونغازاكي اليابانيتين. كانت رسالتها للآخرين أنها مستعدة لاستخدام أسلحة الدمار الشامل لتحقيق أهدافها، وأنها بعد ان تصدرت النادي النووي، لم تعد تخشى ردود فعل الآخرين. وشيئا فشيئا ارتبطت صورة أمريكا في أذهان الجماهير بالعنف والقسوة والخروج على القانون الدولي واضطهاد البشر وعدم الاكتراث بحقوق الإنسان. ويبدو أن أمريكا اقتنعت بأنها ما دامت لن تحصل على تعاطف الآخرين، فما جدوى التعويل على ذلك إذا كانت مصرّة على الهيمنة؟ أوليس من الأفضل أن يخافها الآخرون ما دام حبُّهم غير مضمون؟ أليس هذا ما قاله ميكافيللي للأمير: «الأفضل أن يخافك الآخرون على أن يحبّوك».
فشلت «إسرائيل» في مشروع إخلاء غزّة من الفلسطينيين، ومعها أمريكا التي عبّر رئيسها عن رغبته في تحويلها إلى منتجع سياحي واقتصادي
هناك فصول معاصرة من تجارب الشعوب مع أمريكا، تحمل الكثير من المرارة والامتعاض، وتعمّق مشاعر رفض «الحضارة الأمريكية» التي تقوم على القتل وسفك الدماء واضطهاد الشعوب. في البداية قضت «أمريكا الجديدة» على الهنود الحمر، وهم شعوب وقبائل استقرت في أمريكا لآلاف السنين، قبل أن يسحقهم مستوطنون ومهاجرون أوروبيون اغتصبوا أرضهم وأقاموا عليها ما يسمى حاليا الولايات المتحدة الأمريكية، وغيّروا في الوقت ذاته التركيبة السكانية والهوية الثقافية لأمريكا الجنوبية. وكان الكثيرون يعلّقون على الرئيس الأمريكي الأسبق، رونالد ريغان الذي أصبح رئيسا بعد أن كان ممثّلا ظهر في العديد من أفلام «رعاة البقر» ببندقيته. فكان انتخابه فرصة للتحدث عن دور السلاح والقوّة في الاستراتيجية الأمريكية. يومها نسب للرئيس مشروعا أطلق عليه «حرب النجوم» الذي ظهر في الثمانينيات في ذروة الحرب الباردة. وهو اسم ارتباط بما سُمّي «مبادرة الدفاع الاستراتيجي» وتم إنشاؤه من قبل الرئيس الأمريكي رونالد ريغان في 23 مارس 1983 لاستخدام الأرض والنظم الفضائية لحماية الولايات المتحدة من هجوم بالصواريخ الباليستية النووية الاستراتيجية. فقد تصاعدت الخشية من استخدام القنابل النووية في الصراعات المستقبلية مع الاتحاد السوفياتي بعد أن استخدمت أمريكا القنبلة الذرّيّة في نهاية الحرب العالمية الثانية.
لم تكن شهرة أمريكا المرتبطة باستخدام القوة والعنف في النزاعات عبثا، بل كان لها مصاديق عديدة. فقد استخدمت أوسع قصف في التاريخ البشري في فيتنام حتى وجد جنودها أنفسهم في نهاية المطاف مجبرين على الانسحاب. وما يزال مشهد الطائرة الأخيرة التي نقلت القوات الأمريكية وهي تستعد للمغادرة بينما يهرع الجنود لصعودها ماثلا في الذهن. فللقوّة العسكرية حدودها، ولا تستطيع وحدها تحديد نتائج الصراعات. تلك الحرب اشتهرت باستخدام أمريكا ما سمي «القصف البساطي» وهو هجوم مكثف بالقنابل يهدف إلى تدمير كل جزء من منطقة واسعة. يصف بعض الاستراتيجيين العسكريين «القصف البساطي» بأنه مصطلح عاطفي لا يصف أي استراتيجية عسكرية فعلية. ومع ذلك، تحظر المادة 51 من بروتوكول جنيف الأول للعام 1977 القصف الذي يتعامل مع عدد من الأهداف العسكرية المنفصلة والمتميزة بوضوح والواقعة داخل مدينة كهدف عسكري واحد ويعتبر جريمة حرب. ونجم عن ذلك مقتل الآلاف من البشر لأنه تدمير يأتي على الأخضر واليابس. وقد نفّذت القاذفات «بي 52» «القصف البساطي» خلال حرب فييتنام وحرب الكويت عام1991، وكانت تطير أحيانا من الولايات المتحدة وتقصف أهدافاً في العراق ثم تهبط في قاعدة دييغو غارسيا الأمريكية في المحيط الهندي. كما استخدمت بكثافة أثناء الغزو الأمريكي لأفغانستان عام 2001. مع ذلك لم تحقق أمريكا من خلال تلك الاستراتيجية التي تقوم على العنف المفرط والقسوة اللامتناهية أهدافا تذكر. فعلى مدى 46 عاما لم تُخف واشنطن رغبتها في إسقاط نظام الحكم في إيران، ولكن ذلك لم يتحقق برغم استخدام القوة العسكرية التي بدأت بالتدخل العسكري للإفراج عن الرهائن الأمريكيين في العام 1981، في عملية فاشلة أدت لمقتل ثمانية جنود أمريكيين في صحراء طبس الإيرانية. وبعد ذلك جاء إسقاط طائرة أيرباص الإيرانية في مايو 1988 التي لقي فيها 270 راكبا مصرعهم. وكان القصف الإسرائيلي لمواقع استراتيجية إيرانية عديدة في شهر اكتوبر الماضي ذروة الاستخدام للقوّة المفرطة خارج القانون الدولي. فالقوّة العسكرية الأمريكية فشلت في إسقاط نظام طهران. كذلك فشلت «إسرائيل» في مشروع إخلاء غزّة من الفلسطينيين، ومعها أمريكا التي عبّر رئيسها عن رغبته في تحويلها إلى منتجع سياحي واقتصادي. ولم تتوقف التهديدات الإسرائيلية باستئصال كل من منظمة حماس وحزب الله في الحرب التي شنتها في إثر حادثة 7 أكتوبر. ولكنها وافقت على وقف إطلاق النار بدون تحقيق ذلك الهدف. وكان الأحرى بالإسرائيليين الاستفادة من تجربة الاستهداف الذي طال اليهود من قبل النازيين في ألمانيا، فقد تعهّد هتلر بالقضاء على اليهود ولكنه فشل في تحقيق ذلك. إن محاولات اقتلاع جاليات أو مجموعات بشرية من هذا الوجود ليس أمرا سهلا. فالحكومات التي تستهدف مجموعات المعارضة تفشل دائما في تحقيق ذلك. فكما فشلت أمريكا في القضاء على ثوّار فيتنام بقيادة «فييتكونغ» لم تستطع حكومات الاستبداد اجتثاث معارضيها تماما برغم الاعتقالات الواسعة والتعذيب والتنكيل والقتل.
كاتب بحريني