فيلم «أحلام»: حين يكون الحب رواية تبحث عن كاتبها

فيلم «أحلام»: حين يكون الحب رواية تبحث عن كاتبها
نسرين سيد أحمد
كاتبة مصرية
برلين – في بداية فيلم «أحلام» للمخرج والروائي النرويجي داغ يوهان هاوغيرود، الذي حصد جائزة الدب الذهبي، أرفع جوائز مهرجان برلين السينمائي في دورته الخامسة والسبعين (13 إلى 23 فبراير/شباط الجاري) تجلس الصبية يوهانا (إلا أوفربي، في أداء مرهف) في بيت جدتها الريفي المترع بالدفء والمكتبة العامرة تحمل رواية فرنسية تقرأها باهتمام شديد. الرواية عن فتاة في عمرها، 17 عاما، تلتقي أحد أقارب صديقتها المقربة مرارا، وهو رجل يكبرها بأعوام كثيرة، فتشغف به حبا، وتفتن به جسدا، ويبقى الأمر محض سر تكتمه في قلبها إلى أن تسنح الفرصة لهما ليتبادلا العشق جسدا.
تحدثنا يوهانا، التي تلعب دور الراوي في الفيلم أيضا، إن هذا الرجل كان في نهاية كل لقاء عشق مع تلك الصبية، يحرص على أن يدثر رقبتها بشال صوفي حتى لا تصاب بالبرد، وهي في طريقها للعودة إلى المنزل، فأصبح مفهوم يوهانا عن الحب هو أن يدثرها من تحب بوشاح صوفي يقيها برد الشتاء.
هذا المشهد الافتتاحي للفيلم هو مفتاحنا لفهم شخصية يوهانا، ولفهم الفيلم بأكمله. الفيلم عن العشق والرغبة، عن فهم فتاة في مقتبل العمر لذاتها ولرغباتها الجسدية، الفيلم أيضا عن تأثير الأدب، الرواية بشكل خاص، على القارئ، خاصة في سنوات تكوين الشخصية وفهمها. والفيلم أيضا عن تحويل مخزون المشاعر التي يعيشها الإنسان إلى عمل أدبي، وعن الحد الملتبس بين الخيال والحقيقة في العمل الأدبي.
يناقش الفيلم أيضا تلك العلاقة الملتبسة بين الطالب والأستاذ، وأقصد هنا المعلم في المدرسة. في سنوات الطفولة والمراهقة يكون للمعلمين والمعلمات تأثير كبير علينا، وقد يكون بعضهم الحب الأول أو الإعجاب الأول في حياتنا. قد نرى في بعضهم قدوة لنا حين نكبر، وقد نفتن ببعضهم ونتمنى لو يبادلوننا الحب والإعجاب. حين تقع عين يوهانا على يوهانا الأًخرى، معلمتها الجديدة للغة الفرنسية في المدرسة، يصيبها سهم الإعجاب من النظرة الأولى. يوهانا الصبية لم تكتشف بعد ميولها الجنسية، ولم تقع في الحب قط، ولكنها تشعر بانجذاب شديد لمعلمتها التي تحمل الاسم نفسه. ويزداد الإعجاب حين تقدم يوهانا نفسها لطلبتها، فهي دارسة للأزياء والنسيج، وسافرت إلى فرنسا لإتمام دراستها، ثم سافرت إلى نيويورك للعمل، ثم عادت إلى النرويج. يوهانا المعلمة، إذن، تحمل الكثير من الصفات المبهرة ليوهانا الصبية، فهي امرأة جميلة واسعة التجربة تتقن الفرنسية التي تعشقها يوهانا وتتفوق فيها، وهي أيضا ذات ذوق مميز في الثياب، لا تقلد أحدا، وتنسج ملابسها الصوفية المميزة بنفسها.
يصور هاوغيرود بصدق كبير هذه المشاعر المتدفقة في حياة يوهانا، فهي مفتونة حتى الارتباك بمعلمتها الشابة، ولكنها وسط إعجابها وافتتانها الروحي والجسدي بمعلمتها، تسعى أيضا إلى فهم ذاتها. وتجد أن خير سبيل للبوح ولفهم ذاتها ومشاعرها هو أن تخط تلك المشاعر في صورة رواية تكون سرها، تحتفظ بها دون أن يقرأها سواها. في «أحلام» يتناول هاوغيرود قضايا كبيرة مثل العلاقة بين الأدب والواقع، وتجارب الحب الأولى وتأثيرها على بناء الشخصية وتكونها برهافة شديدة، والفيلم هو تتمة لثلاثية للمخرج كانت أجزاؤها السابقة بعناوين «الحب» و»الجنس» ثم يأتي «أحلام» لتتم الثلاثية. ربما يدرك المخرج، وهو مؤلف الثلاثية أيضا، أن السبيل لفهم الذات هو التجربة، تجربة الوقوع في الحب، ولهذا يبتعد الفيلم كلية عن الوعظ أو النصح، ويدعونا إلى تفهم افتتان يوهانا بمعلمتها، فلولا هذه التجربة لما نضجت ونضج مفهومها عن الحب.
تنحدر يوهانا من أسرة أدبية، فجدتها شاعرة ذائعة الصيت، ولذا فلا غرابة أن يأتي تعبيرها عن الحب في صورة نص أدبي. هي تود الاحتفاظ بمشاعرها وفهمها ولهذا تقرر تدوينها، ولكنها في الوقت ذاته تود البوح والمشاركة، فتطلب من جدتها قراءة النص الذي كتبته. تعيش يوهانا حبها الأول، وترغب في الصمت والخصوصية، ولكنها أيضا تود المشاركة في عيش هذه التجربة. يلامس الفيلم برفق ذلك الخط الفاصل بين مشاعر الحب وما قد يعتبر التحرش بفتاة قاصر. الكثير مما تكتبه يوهانا في نصها محض خيال، ورغبة منها في فهم ذاتها والتعبير عنها. أما يوهانا المعلمة فهي شخصية مرحبة بالطلبة، خاصة وهي ترى في يوهانا تميزا في اللغة الفرنسية. لا نرى الأحداث قط من وجهة نظر المعلمة، فلا نعلم على وجه اليقين ما إذا كانت تخص يوهانا بود زائد، أو ما إذا كان هذا هو إحدى رغبات يوهانا وأحلامها. وعلى الرغم من أن رواية يوهانا عن عشقها لمعلمتها يحفل بالوصف الحسي والرغبة، إلا أن ما حدث بينهما حقا لم يتجاوز اللمس الذي لا نعلم إن كان عفويا أم متعمدا. ورغم أن يوهانا تكتب عن معلمتها بحسية شديدة، إلا أنها لا تصنف نفسها مثلية، فهي ما زالت بصدد اكتشاف رغباتها وميولها. ولكن إن كنا متأكدين من عدم حدوث استغلال جسدي ليوهانا من قبل معلمتها، فماذا عن الشق العاطفي للقصة. يبدو الأمر لنا ملتبسا بعض الشيء بعد رؤية الأمر من زوايا مختلفة، فيوهانا الصبية اليافعة تؤكد وجود انجذاب عاطفي وحسي متبادل من معلمتها معا، خاصة بعد أن استقبلت يوهانا في منزلها، ووافقت على منحها دروسا لتعلم نسج الصوف. ولكن ماذا عن رؤية المعلمة للأمر: ترى هل فوجئت بقدوم يوهانا باكية إلى باب منزلها فلم يكن في وسعها إلا أن تواسيها؟ هل كانت تعلم بإعجاب يوهانا بها؟ هي أسئلة لم يجب عليها هاوغيرود في سيناريو الفيلم، الذي كتبه بإحساس مرهف، ولكن دون أن يجيب على بعض الأسئلة التي تبادرت إلى أذهاننا.
يدور جزء كبير مما يشغل الفيلم عن الكتابة الأدبية، سواء كانت رواية أم شعرا. جدة يوهانا شاعرة شهيرة صاحبة رؤية متفتحة للحياة، وهي من رأت في نص يوهانا لغة أدبية تستحق الإشادة والنشر. وحتى يوهانا أصبح نصها الذي كتبته مهما ليس لأنه فقط يحمل تعبيرا عن مشاعرها، بل لأنه عمل أدبي يحظى بالإشادة والتقدير. يوهانا تروي لنا في الفيلم قصة حبها الأول بكل بهجاته الصغيرة، وبكل لقاءاته، وبكل رغباته، وبكل ألمه أيضا. ولكن بعد أن مرت هذه القصة وخلفت أثرها في شخصية وحياة يوهانا، أتراها تحب مجددا؟ أتراها تتغلب على الذكريات وتفتح قلبها مجددا؟ يتركنا الفيلم، ويترك يوهانا مع هذا الأمل.
«القدس العربي» :