ثقافة وفنون

«عزيزي ثيو»… رسائل الألم والإبداع

«عزيزي ثيو»… رسائل الألم والإبداع

موسى إبراهيم أبو رياش

أدب الرسائل هو أحد الأجناس الأدبية التي تُعبّر عن مشاعر الكاتب وأفكاره بشكل مباشر وصادق، عندما كانت الرسائل، في الماضي، وسيلة التواصل الأساسية بين الناس، خاصة في فترات الانفصال الجغرافي أو العاطفي. ومع تطور تكنولوجيا الاتصالات، وانتشار الهواتف ووسائل التواصل الاجتماعي، لم تعد الرسائل الورقية تلعب الدور نفسه، وأصبح هذا الفن نادرا ومهملا. وما يُميّز الرسائل أنّها تتيح رؤية خاصة للحياة الشخصية والإبداعية لكُتّابها.
ويمثل كتاب «عزيزي ثيو» نموذجا مميزا لأدب الرسائل، حيث تقمصت الكاتبة الأردنية جميلة أبو غليون شخصية الفنان المبدع فينسنت فان غوخ، وكتبت باسمه رسائل إلى أخيه ثيو، وهي رسائل تخاطب القارئ بعمق، وتخلق حوارا حميميا معه، وتقدم تجربة إنسانية فريدة، تشكل إضافة جميلة لهذا الفن الذي يوشك على الزوال. خاضت الكاتبة هذه المغامرة بكتابة الرسائل على لسان فنان؛ كونها تتقاطع معه في حب الفن التشكيلي وممارسته، وهي مغامرة محفوفة بالمخاطر وتتطلب شجاعة كبيرة؛ لأنها تُكتب بلسان رجل، والأهم أنّها تتعلق بفنان إشكالي يعاني من اضطرابات نفسية وعصبية، وليس من السهل الغوص في دواخل شخصية كهذه. وأرى أنَّ أبو غليون نجحت وأبدعت في التعبير عن شخصية فان غوخ، وقدمت للقارئ رسائل مؤثرة، لم تكتبها من فراغ، وإنما تستند إلى رسائل كتبها فان غوخ إلى أخيه ثيو، وثيو إلى فان غوخ، وعددها 903 رسائل تقريبا.
يتضمن الكتاب إهداء جميلا ونبذة عن حياة فان غوخ ورسائله وأهميتها وجهود جمعها وتصنيفها ونشرها، ووجهت أولى رسائل الكتاب إلى فان غوخ من الكاتبة نفسها، ومن ثم رسائل فان غوخ إلى أخيه، وبلغ عددها اثنتين وسبعين رسالة بمعدل صفحتين لكل رسالة، وعنونت كل منها بعنوان معبر ولافت.
ومن الإهداء نقتطف: «إلى محبي فن الرسائل ومستشعري جماليات اللغة؛ مَنْ يقطنون في مصحة الحروف النفسية، ويبتكرون أساليب أجمل للتعافي بالأفكار الجريئة.. إلى مَنْ يقرأون لغة اللون وضربات الفرشاة وهي تعانق سطح اللوحة ببطء، ويعزفون على سلم المشاعر لحن الخلود الأبدي.. إلى مَنْ مرَّ على عتبة الجنون إلى عتبة التجلي والإبداع».

بين العبقرية والمعاناة

تكشف رسائل فان غوخ إلى أخيه ثيو، عن عمق تجربته الفنية والمعاناة النفسية التي رافقته طوال حياته. وتُعدُّ هذه الرسائل شهادة صادقة على صراع فنان مع ذاته ومع مجتمعه، حيث تعكس رحلته من العزلة إلى الجنون، ومن الإبداع إلى اليأس، وتكشف عن عالمه الداخلي المليء بالألم والشغف والإبداع والأمل، وهو ما يضيف إلى أعماله الفنية بُعدا نفسيا وإنسانيا عميقا. وتُعبّر هذه الرسائل عن العلاقة الوثيقة بين الشقيقين، وتشابكها بين الحاجة إلى الدعم العاطفي والمادي، والاعتراف المتأخر بموهبته. اعتمد فان غوخ – الذي عاش حياة قصيرة مليئة بالإبداع – على الرسائل لتفريغ مشاعره، والتعبير عن رؤيته الفنية والفلسفية وأفكاره العميقة، وكان الفن بالنسبة له وسيلة للهروب من الواقع القاسي، ومعاناته من صراعه الداخلي بين الجنون والإبداع.

بين الألم والجمال

تدور رسائل الكتاب حول حياة فان غوخ الداخلية، تتناول موضوعات متنوعة، تتراوح بين تأملاته في الطبيعة والفن، وانطباعاته عن الفنانين الآخرين، وتجربته في المصحة العقلية، ومعاناته مع المرض النفسي، وحتى لحظات الإحباط والانكسار. يناقش فان غوخ فلسفته الفنية، وتأثير الألوان في لوحاته، كما يعبر عن مشاعره المتقلبة بين النشوة والإحباط. يتحدث في الرسائل عن لوحاته، وعن رؤيته للفن كوسيلة للتعبير عن الروح، وعن معاناته مع الفقر والوحدة. كما يتحدث عن علاقته بأخيه ثيو، الذي كان الملاذ الآمن له في عالم مليء بالصراعات. وتكشف الرسائل أيضا عن رؤية فان غوخ الفلسفية للحياة، حيث يرى العالم مكانا قاسيا، لكنه مليء بالجمال الذي يمكن التقاطه من خلال الفن. وهي رسائل مليئة بالتفاصيل الحميمة التي تكشف عن شخصية فان غوخ المعقدة، التي كانت تتراوح بين العبقرية والجنون، ما يجعل هذه الرسائل وثيقة حيّة تسلط الضوء على الجانب الإنساني للفنان.

شاعرية نابعة من الألم

تتميز لغة الرسائل بتدفقها وانسيابيتها، وبمزيج من الشعرية والواقعية. تظهر اللغة الشعرية في وصف فان غوخ للطبيعة، وللألوان، وللحالات النفسية التي يمر بها. فهو يستخدم التشبيهات والاستعارات ليعبر عن مشاعره العميقة واضطراباته الداخلية، مستخدما تعابير مشحونة بالعاطفة والصور الحسية، التي تعكس حساسيته الفائقة وعلاقته العاطفية بالعالم من حوله، ما يجعل القارئ يشعر وكأنه يعيش داخل عالم فان غوخ الداخلي وحالته الشعورية بكل تفاصيلها. أما اللغة الواقعية فتظهر في حديثه عن تفاصيل حياته، مثل مشاكله المالية، وعلاقته مع الأصدقاء والفنانين الآخرين، ومعاناته مع الفقر والمرض النفسي.
ومن رسالته الأخيرة لأخيه ثيو بعنوان «الوداع»، نقتطف: «تذكرني كلما مررت بعبَّاد الشمس، وهي ترخي جفونها تحت الشّمْس، تذكرني كلما مررت ببطء على نبض النجوم في كبد السّماء، كلما رأيت الفلاحين يمسكون المنجل، ويغنون للصباح، للحقول، لمواسم الحصاد، لسنابل القمح.
لا أريد أن أعي شيئا، بينما مئات الغربان تحملني نحو الأفق، يدان كبيرتان تحملانني من كتفي، وتطيرانِ بي، بينما ما تزال الأغلال تسيطر على عقلي، أرى أبي ووجه أمي الـمُعتَّق، أرى الطيور الجميلة، أرى الأزهار الملونة تارة، وأرى غمامة بيضاء تنقض عليّ تارة أخرى، أشعر بأني في حالة دوار، أو حتى في حالة برد؛ أريد أن أتقيّأَ، وقشعريرة تجتاح عظامي».

العفوية والصدق العاطفي

تتميز رسائل الكتاب بأسلوب عفوي وتلقائي، بعيد عن التصنع أو التكلف، ما يمنحها طابعا شخصيا حميميا. تتدفق الأفكار بسلاسة، وتنتقل من موضوع لآخر دون ترتيب صارم، بل يتيح لأفكاره ومشاعره بالتدفق بسلاسة، ما يجعلها أشبه بمونولوج داخلي صادق. هذا الأسلوب يزيد من تأثير الرسائل على القارئ، حيث يشعر وكأنه ينصت إلى فان غوخ حقيقة وهو يبث همومه وأحلامه مباشرة، وتعكس طبيعته كفنان يعيش حالة من التدفق الإبداعي الدائم.
وبعد؛ فإنَّ «عزيزي ثيو» لجميلة أبو غليون، الصادر في عمّان عام 2024، عن دار جفرا بدعم من وزارة الثقافة الأردنية، يعيد إحياء أدب الرسائل، ويمثل شهادة على عبقرية فان غوخ ومعاناته، ويؤكد أنَّ الفن يتجاوز كونه ألوانا مرسومة على قماش، إذ يعكس تجربة إنسانية ثرية وعميقة. وتكشف هذه الرسائل عن نظرة فان غوخ للعالم، ومحاولته إيجاد الجمال وسط الألم. وتقدم لنا نظرة حميمة على حياة فنان عانى من المرض النفسي، واستطاع أن يخلق أعمالا فنية خالدة. ولذا؛ فإنَّ «عزيزي ثيو» كتاب يستحق القراءة، لعشاق الفن والأدب، ولأي شخص يبحث عن فهم أعمق للإنسان ومشاعره، وكيف يمكن للألم أن يتحول إلى إبداع خالد.

كاتب أردني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب