إسرائيل وانهيار المتروبول الأمريكي

إسرائيل وانهيار المتروبول الأمريكي
نور الدين ثنيو
إسرائيل، كيان أرادته الدول الاستعمارية المُتَقادمة من عصر الإمبراطوريات، أن يواصل الوضع الاستعمار في غير وقته وسياقه.
في التاريخ المعاصر حيث اللحظة تلاحق اللحظة وتريد أن تسبقها. تحاول إسرائيل، هذا الكيان الغريب والشاذ عن التاريخ في حركيَّته المعقولة والمفهومة ويمكن الوقوف على معناه، بالقدر الذي نفهم تقدم العالم وليس تراجعه. ففي كل الأحوال وكافة الوجوه، أن عالمنا المعاصر، لما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية هيئة الأمم المتحدة، يتقدم بشكل رائع على صعيد فهم العدالة والحق والحرية، ليس للإنسان فحسب، بل على صعيد الدولة على وجه الخصوص. ولعّل واحدة من أهم الشواهد على عدم قدرة إسرائيل، كوكيل غير شرعي في المنطقة العربية، في محاولتها اليائسة لتحريف الحق والشرعية الدولية هو رضوخها الأخير الى إبرام اتفاقية وقف إطلاق النار مع أوهن قوة وأضعفها في المنطقة حركة حماس، كيان بلا دولة.
تداعيات طوفان الأقصى تعيدنا إلى تاريخ الاستعمار في عصر الإمبراطوريات المتنفِّذة والماسكة باقتصاد العالم عبر الاستيلاء على أراضي الغير والآخر من غير أوروبيين وغربيين. فقد كان الاستعمار في مدلوله القائم في القرن التاسع عشر ثم القرن العشرين، يقتضي من جملة ما يقتضي وجود كيان المتروبول الذي يعد المرجع الأعلى والأساسي للوحدات الاستيطانية القائمة في الخارج أو ما كان يعرف بممتلكات لما وراء البحار. فقد كانت بريطانيا مثلا إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، كما كانت فرنسا إمبراطورية إسلامية بسبب احتلالها مقاطعات واسعة وشاسعة فيما وراء البحار خاصة في المنطقة العربية من المغرب الى المشرق. فالمتروبول كيان ملازم للحالة الاستعمارية، كان يضفي على الدولة الفرنسية أو البريطانية إمكانية تقديم الدليل على شرعية إنجاز المهمة الحضارية في قارات بعيدة، تعاني التخلف والتراجع المدني والثقافي.
وعليه، أو هكذا يجب أن نتجاوب ونتواصل مع تداعيات طوفان الأقصى، أن أمريكا التي تمثل المتروبول لم تعد بوسعها أن تقدم الدليل على قوتها أمام العالم، ولم تعد النموذج الذي يمكن أن يحتذى به بعد النكسة الكبيرة التي ألمت بالمؤسسات السياسية الأمريكية خاصة التصرف الطائش الذي أقدم عليه الرئيس دونالد ترامب يوم 6 يناير من عام 2021 ومحاولته لرفض نتائج الانتخابات التي أزاحته من السلطة وحرمته من العهدة الثانية مباشرة. هذا النوع من التصرفات السياسية الكبرى تأباه الحياة الدولية المعاصرة التي تضع الولايات المتحدة الأمريكية كقوة فائقة، لا يلبس أي تصرف منها أن ينعكس على أوضاع في بقية العالم خاصة في مستعمراتها في الخارج مثل الوضع في إسرائيل، آخر الكيانات التي تمتلكها أمريكا في منطقة الشرق الأوسط وتحرص على أن لا تضيع منها، لكن انهيار نموذج الديمقراطية والحضارة والمدنية في المتروبول يفضي حالا الى انهيار المستوطنات في إسرائيل، كما حدث في العهد الاستعماري طوال القرن العشرين..
عندما تكون الحاجة تقتضي ضرورة التكفل بالمتروبول، يصبح من الصعب على المستوطنات والمستعمرات البعيدة أن تؤمن حياتها وتواصل وجودها حتى بصورة غير شرعية
فعندما يخبو ويبهت الوهج الديمقراطي والأخلاقي والإنساني في المتروبول تسقط الأطراف بالتداعي، كما فعل طوفان الأقصى بتداعياته، برهن فيها من صلب قوة العصر الفائق، على عدم إمكانية الاحتلال والاستعمار مهما كانت قوة الغطرسة الصهيونية وبهيمية التعنت الغربي على ما يجري في أمريكا، حيث طفا الى السطح التنافس الكبير بين الصهيونية المسيحية واليهودية لفائدة الأولى، والآيلة بأن تسحب البساط من الصهاينة اليهود أو الذين يزعمون بأنهم يهود. ولعلّ نية إدارة دونالد ترامب في الاستيلاء المباشر والصريح لقطاع غزة، يفصح بقوة عن بداية انهيار المتروبول والسعي الى الإدارة المباشرة لاحتلال، لم يعد هناك ما يسوّغه على صعيد العلاقات الدولية والقانون الإنساني والدولي.
وضع مصير إسرائيل في سياق إشكالية دولة المتروبول وعاصمتها العالمية هو الذي يحدد لنا الطريق الى إعادة الاعتبار الى كفاح الشعوب في مجالاتها وفوق أراضيها، دفاعا عن تراثها ومقوماتها وقَسَمَاتها التي عرفت بها ويَعْرَفها غيرها بها. فقد تبيّن بكثير من الأدلة والشواهد التي صارت عادية جدّا في عصرنا الفائق، أن ما يحصِّن المستعمرات هي الكيانات نفسها الممتدة في التاريخ وليس في الجغرافية فحسب.. فالاستيلاء على الأراضي شيء واحتلالها بالقوة الدائمة شيء آخر، لأن الكيان كله هو الذي يحارب وليس عِبَاده فقط. وقد أفرزت الوضعية الاستعمارية زمن الإمبراطوريات وجود قوة داخلية تاريخية ونفسية وبكل ما ينطوي عليه البلد من عدم قدرة معايشة المستعمِر في البلد الذي احتله، إذا هو لم يراعِ مشروع نقل ما يجري في المتروبول الى المنطقة التي يريد أن يحتلها. فالقوة، في نهاية التجربة الاستعمارية، لا تحل المسألة بقدر ما تساهم في ظهور عدم إمكانيات المُحْتل في التمكن من مشروعه. فإسرائيل ليست بحال من الأحوال فلسطين، وأن هذه الأخيرة، ليست بأي وجه من الوجوه كيانا عبريا، ليس فقط لأن الفلسطينيين يرفضون ذلك بل لأن اليهود أنفسهم يرفضون ذلك أيضا.
ومن هنا، يظهر المأزق الذي آلت اليه العجرفة السياسية عندما تداولتها أمريكا، خاصة من قبل الحزب الجمهوري، مع مستوطناتها المتقدمة في منطقة الشرق الأوسط، وآلت إلى وضع، لم تنتبه إليه أمريكا في لحظة تاريخية مكثفة، فقدت فيه أمريكا دورها كجهة متروبول لإسرائيل لأن العالم كله صار حالة إمبراطورية على رأي المفكر الإيطالي الراحل طوني نيغري في كتابه الرائع الذي يحمل عنوان «الإمبراطورية» و قصد به أن العالم لم يعد يستند الى مركز، وفق نظرية المركز والأطراف، بل فقد المركز الذي يحدد ويقرر مصير العالم، و صارت الوحدات السياسية التي تمثل النظام الدولي ومع المجتمع الدولي هي التي تساهم بقدر ما تظهر وتَقْدَر عليه، على ما تفعل اليوم الصين وأوروبا، وغدا روسيا و الهند..
الحقيقة التي لا تلبث أن تتأكد مع الوقت وفي هذا الزمن الفائق، هو أن إدارة دونالد ترامب العائدة الى الحكم مرة أخرى سوف تواتيها فرصة جديدة من أجل الاستحواذ على كل شيء لصالح أمريكا ومصالح أكبر عصابات المال والأعمال، وبالقدر أن تستأثر الدولة المتروبولية لوحدها بما يمكن أن تصل إليه سياسة الاستحواذ والاستئثار لصناع قرار دونالد ترامب. فعندما تكون الحاجة تقتضي ضرورة التكفل بالمتروبول أولا وأخيرا، يصبح من الصعب على المستوطنات والمستعمرات البعيدة أن تؤمن حياتها وتواصل وجودها حتى بصورة غير شرعية على ما نرى ونلحظ في الحالة الإسرائيلية، تحت ضربات طوفان الأقصى وتداعياته.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، نشير إلى أن خروج فرنسا من الجزائر، كان بسبب سقوط الجمهورية الفرنسية الرابعة وتولي الجنرال ديغول الحكم وبداية ما عرف بالجمهورية الخامسة التي آلت الى الترنح والاهتزاز في اللحظة السياسية الأخيرة التي يعيشها حكم إيمانويل ماكرون. ما نوضحه في هذا المثال أن نظام تصفية الاستعمار كان يلعب أيضا في ديار المتروبول. فالصمود والمقاومة والكفاح المسلح والنضال السياسي الداخلي والأممي، كله كان يمور ويثور ضد وجه الاستعمار البشع ويرفضه. ومن هنا، وعند التحليل الأخير يجب متابعة احتضار إسرائيل في المستشفى الأمريكي لأن المتروبول هو البؤرة والمركز والنواة الأولى.
كاتب جزائري