
«أبجدية الصمت» لدلفين مينوي : كأن السجون أكثر فظاعة مما قرأنا!

حسن داوود
«أبجدية الصمت» رواية باردة. رغم سعيها إلى أن تكون شهادة تدين الدولة وقانونها وقسوتها تجاه مواطنيها. حتى لقارئ غربي، وقد صدرت الرواية أولا باللغة الفرنسية، ربما تكون أقل فضحا وإدانة مما كان ينتظره. فهي لا تعرّض سجين الرأي غوكتاي إلى ما يزيد عن إطالة أمد حبسه من دون محاكمة. لم يرتكب فعلا جرميا من أي نوع.. لا أكثر من توقيعه على بيان سبق أن وقّعه عدد من زملائه في التعليم الجامعي.
وعلى غرار ما ينبغي أن تبدأ رواية الاعتقال، تسمع الزوجة، بعد انتصاف الليل، قرعا وخبطا على باب المنزل الآمن، ثم صوت انخلاع الباب وهجوم العسكريين إلى الداخل، لاعتقال الزوج. هي مقدّمة عادية، بل نمطية، لما شاهده الجميع في أفلام أنتجت في أغلب بلدان العالم. ثم ستعقب ذلك وقائع روتينية مثل معاناة الرجل في سجنه، وسعي زوجته المضني للعيش، هي وابنتها، بعد غيابه عنهما.
منذ الصفحات الأولى لقراءة الرواية يخطر في الذهن فيلم «قطار منتصف الليل» Midnight Express لكون السجن التركي هو موضوعهما معا. الفيلم، الذي مرت عقود كثيرة على عرضه، أظهر الاعتقال وحشيا ومدمّرا للشاب الذي ضبطته شرطة الحدود التركية مهرّبا للمخدّرات. مُخرجه وكاتب نصّه كانا قد أدركا أن الزمن تعدّى إنتاج عمل سينمائي عن حالة اعتقال عادية، فلجآ إلى تحطيم بطلهما جسديا ونفسيا، ووضعه على حافة الجنون العقلي. كان الفيلم قاسيا على مشاهديه إلى حدّ بقاء بطله ماثلا في ذاكرتهم وهو يدور في تلك الحلقة من الرجال المغيبين عن وعيهم. أما غوكتاي، بطل الرواية الجديدة، فلم تتجاوز كاتبته حد التأخّر المفرط في وصف معاناته في غرفته إلى حد توقّفه الإرادي عن تناول الطعام.
أما للقراء العرب، وقد نُقلت الرواية إلى لغتهم، فربما يخفضون مرتبة السجون والعدالة في تركيا عما يسمعونه عن كيف هي السجون في الدول المتحضرة. تبدو رواية، دلفين مينوي الصحافية الفرنسية، أقرب إلى سرد عادي ليوميات معتقل رأي في سجنه وعيش عائلته الصغيرة من دون وجوده معها، خصوصا بالمقارنة مع كتاب مصطفى خليفة المروّع في وصفه لعالم السجن السوري. هناك كتب عربية أخرى كتبها سجناء عرب مثل فرج بيرقدار في سوريا أيضا، وإلهام سيف النصر في مصر وغيرهما الكثير. رواية «أبجدية الصمت» ستحل باردة على قرائها العرب، بعد أن نُقلت الآن إلى لغتهم.
هي تحقيق صحافي مطول لم تشأ كاتبته أن تتعدى خطّ السير العادي للعقاب الظالم، المعروفة تفاصيله، فبإزاء الشخصيات المرسومة بحسب التصورات عن ذلك، يظل كل شيء تحت السيطرة الكابحة للرواية. زوجة السجين هي الزوجة الفاضلة التي لن تُهمل الإهتمام به والعمل على إطلاق سراحه. جارتها فاطمة، المحجّبة المؤيدة لما يقوم به «الرئيس السطان أردوغان» من اعتقالات وإفراغ المؤسسات من العاملين فيها، لن تلبث أن تقتنع وتقف إلى جانب الزوجة. الابنة الصغيرة تتفهم، والطالب آزاد الذي تضامن مع محنة أستاذته، زوجة السجين، ظل مساندا لها. كانت تزوره في الجامعة وهو كان يوزّع المناشير ويلقي كلمات أمام جموع الطلاب غير خائف من الاعتقال. للحظات، فيما كنت أقرأ، خطر لي أن العلاقة بينه وبين معلّمته تكاد تجنح عن مجرد الإعجاب العادي لكل منهما بالآخر. كان ذلك سيفجر تلك البركة الساكنة التي تجري على سطحها الأحداث العاقلة للرواية. كان كل ما تقدّم منها سينقلب رأسا على عقب وسيتحول ما نقرأه إلى غوص في أعماق أبعد غورا.
أحسب أن قارئ الرواية قد وُعد بأن يخوض مع الروائية تلك التجربة، لكنه، ومن تلقاء نفسه، رأى في ذلك مغامرة، شخصيات الرواية غير مؤهلّة لها. لذلك، فيما كان القارئ يتوق إلى أن يحصل ذلك الانحراف، يميل إلى إعفاء الكاتبة من وجع الرأس وفتح ملفّات لن يتوقّف التفكير فيها عند حدّ.
لم يمكث أستاذ الفلسفة غوكتاي أكثر من سنتين في السجن. في ذهاب الرواية نحو خاتمتها قرأنا كيف راح القضاة يماطلون في إخراج الرجل من زنزانته، لكنهم، هم والسلطة التي تديرهم، خضعوا أخيرا للاحتجاج المدني، وأرجعوا الرجل إلى بيته وعائلته. نهاية سعيدة طبعأ، لكنها غير متناسبة مع رواية كانت تعد بأنها تكشف عن الظلم غير المحتمل في العالم.
*رواية دلفين مينوي «أبجدية الصمت» نقلها إلى العربية أدونيس سالم وصدرت عن دار نوفل في233 صفحة، أواخر 2024.
كاتب لبناني