«الميت في صورة فوتوغرافية» للشاعر تشارلز سيميك
«الميت في صورة فوتوغرافية» للشاعر تشارلز سيميك
ترجمة وتقديم: هاشم شفيق
يتحدّر الشاعر الأمريكي تشارلز سيميك من أصول صربية، وتحديداً من بلغراد التي ولد فيها عام 1938 ـ 2023 لعائلة متوسطة الحال، ولوالد هاجر إلى إيطاليا لغرض العمل، مما حالت الأوضاع الدراماتيكية الجارية في إيطاليا آنذاك، أي إبّان الحرب العالمية الثانية دون اجتماع العائلة، لقد عايش الفتى الطفل تشارلز مصائب الحرب وخطوبها الجلّى، فبلغراد كانت ترزح وقتذاك تحت الاحتلال النازي، إذ عاش الصرب في محن لا يمكن وصفها، حرب مُدمّرة واحتلال نازي، وخراب سارٍ وجوّال، يدور بين البلدات والمدائن والقرى، ليوزع المآسي والآلام والدمار على سكان يوغوسلافيا السابقة، وصربيا من ضمنها، وكذلك البوسنة والهرسك. من هنا تظهر في قصائده ذكريات الطفولة الحربية، حيث الطائرات التي تقصف البلدات والقرى والبيوت العزلاء، لترى مشاهد الناس الهائمين على وجوههم في البراري، والسفوح الجبلية، بحثاً عن مأوى يقيهم النار التي تقذف بها السماء إليهم، حيثما ولّوا الأدبار. ثمة الآلاف من المشرّدين والضائعين والجوعى، الباحثين عن الخبز والدفء والأمان. وثمة القطارت التي تحمل الجنود في جو من البرد والصقيع والرياح التي تحيط المعسكرات، وتلفّ بعباءاتها الثلجية طوابير ممن لاقوا الهوان، والذل، والفقر، والجوع، في سلسلة من الهجرات المتوالية خلال سِني الحرب العالمية الثانية.
لكنّ الأم هنا، وكعادة النساء والأمهات أثناء الحروب والبلايا والشدائد، لم يُثنها عزمها في مواصلة البحث عن سبيل للهجرة، وهذه المرّة إلى باريس، لتكون قريبة من زوجها المهاجر قبلها. حينئذ دخل الفتى سيميك مدرسة لتعلّم الفرنسية، ثمّ تلقّى دروساً بالإنكليزية، وحين سنحت الفرصة هاجرت العائلة بحراً إلى أمريكا، لتهبط في مرفأ نيويورك، ومن هناك إلى شيكاغو، ليتم في ما بعد لم شمل العائلة المشتتة.
أنهى سيميك الخدمة العسكرية، كمواطن أمريكي، ومن ثمّ نال شهادة البكالوريوس في عام 1966 في الأدب الذي تقدّم فيه، بعد أن كان طالباً كسولاً في مطالع حياته. لم تكن حياته تشي بالتعلّم المنتظم، ومواصلة الدراسة، لولا دراسته للأدب، ما أهّله ذلك بعد عام من نيل الشهادة الدراسية.
نشر سيميك مجموعته الشعرية الأولى «ماذا تقول الأعشاب؟» وهو في الثامنة والعشرين من عمره، لتكر بعد ذلك مجاميعه الشعرية، اللافتة للأنظار، في عالم يُعدّ واسعاً وكبيراً مثل أمريكا، وعندما سُلّطت الأضواء على أشعاره، ذات الشكل المبهر والنفس الغريب، والنكهة المغايرة، حصدت هذه الأشعار بعض الجوائز الرفيعة، التي وضعته في دائرة الضوء والشهرة، إذ سرعان ما توّج بعد حصوله عليها، أميراً للشعراء الأمريكيين.
الشاعر الصربي سيميك، كان يحنّ كثيراً إلى بلده، وهو في مكانه الأمريكي الجديد، ولهذا كان يستحضر في شعره وطنه الأم، حيث المنبت الأول، مسترجعاً صوراً، وأخيلة، وأطيافاً لمواقع الطفولة والصبا، والمرابع التي لا تنسى، في تلك البلاد الجميلة، والأخاذة، في سحر طبيعتها، وسحر موقعها المتميّز، وغناها الجمالي المبثوث في شتى الأمكنة. من هنا جاء غنى شعره، هذا الذي أهّله لنيل جائزة البولتزر الشهيرة، عبر ديوانه الموسوم « عالم بلا نهاية « عام 1990 ما وسّع هذا الحدث الثقافي من دائرة قرائه، وفسح في المجال لدور النشر في طلب أشعاره، وكتبه، وبقية مؤلفاته، فأصبح أحد أكثر الشعراء الحاليين مبيعاً، وأكثرهم تأثيراً، وأكثرهم شهرة، ما أدى هذا الأمر في النهاية إلى اختياره أميراً للشعراء.
درّس وعمل تشارلز سيميك محاضرا، ومدرّس المادة الإبداعية، والنقد، في جامعة نيوهامشير في نيو إنكلاند، في مكان أحبّه وأحب طلبته الأذكياء والنابغين، على حد قوله. إذن في تلك البلدات النائية والفقيرة إلى حدّ ما، علّم سيميك طلابه الفقراء فن الرؤى عبر كتابة الموتيفات الشعرية والنقدية، هناك وهم بعيدون ومعزولون في قراهم، إذ ليس ثمة سوى الشعر، والأفكار، والتأمّل، في المكان البعيد، البارد والقصيّ.
تطريز
مدنٌ عُلّقتْ
بين السماء والأرض
في داخلها أنهرٌ
وشَجراتٌ
وأقمارٌ ….
في إحدى الزوايا
يتساقط الثلجُ على الخيّالة،
وتُرى امرأة تزرعُ الرزَّ،
وتستطيعُ أنْ ترى دجاجةً
انتهبها ثعلبٌ
وشخصين تعرّيا
في ليلة عرسهما،
وماذا خلف الأكمة؟
أمكنة كثيرة
لفضاء فارغ،
ومَن يتكلم هناك الآن؟
إنه الرجلُ الغافي
تحت قبَّعتهِ،
وماذا يحدثُ الآنَ
عندما يستفيق؟
يذهبُ إلى دكّان الحلاق،
كي يحلق لحيته
وشَعرَهُ الذي غطى
أنفَهُ وآذانَهُ،
لكي يبدو عادياً
مثل أيِّ شخص.
قصيدة
كلُّ صباحٍ
أنسى ماذا أفعل….
أراقبُ دخانَ الهضبة،
يتقدَّمُ مسرعاً فوق المدينة،
أنا لم أنتسب لأحد،
آنئذٍ
أتذكرُ حذائي،
كم من مرةٍ احتذيته
وكم من مرةٍ انحنيتُ فوقه،
لأربطه
ومن ثَمَّ
أُلقي نظرةً على الأرض.
حجر
فلأذهب عميقاً
في الحجر،
أنّ ذلك سيغدو طريقي،
ولن أدعَ أيَّ شخصٍ آخرَ
أنْ يُصبحَ حمامة،
يصرُّ على أسنانه مثل نَمِرٍ،
إنني مسرورٌ
كوني غدوتُ حجراً،
فمن الخارجِ
يبدو الحجرُ لُغزاً،
ليس بإمكانِ أحَدٍ،
أنْ يستجوبَه،
فهو مرَّةً باردٌ
وأُخرى هادئٌ،
فحتى البقرة
بكلِّ ثِقَلها
تقفُ عليهِ،
حتى الطفلُ
يُسارعُ ليرميهِ
في النهر،
ليغوصَ الحجرُ
ببطءٍ إلى عمقِ النهرِ،
آنذاك
تأتي أسماكٌ تصدمُه
وتُصغي….
إني رأيتُ الشرارَ يتطايرُ
عندما يحتكُّ حجرانِ،
ربما لن يكون ظلامٌ
بعدَ ذاكَ،
ربما القمرُ
سيكونُ هناكَ ليضيءَ،
من أيِّ مكانٍ
إلى ما وراء الهضبة،
إنّه الضوءُ يكفي
لكي يكتبَ الغريبُ،
إنها النجمةُ
تخربشُ فوق الجدران.
مكان
كانوا يتحدَّثون
عن الحربِ،
وما زالت على الطاولة بقاياهم…
عبر الشارعِ النافذة الأولى
في ذلك المساءِ أُضيئتْ،
ثمة شخصٌ
جلسَ محنيَّ الظهرِ،
لأنَّ الخوفَ القديمَ
قد دَهَمَهُ،
الظلامُ تعمَّقَ،
سيِّدةٌ نهضتْ
لتأخذَ صحناً..
الآنَ
العداوةُ بيضاءُ..
عبر المطبخِ
في الخارجِ
في الحقولِ والغاباتِ،
الطيرُ نطقَ بالحكمةِ،
البابا ذهبَ خارج البلادِ،
ليلتقي أتيلا،
بينما الخندقُ
كان مزوّداً بفرقة.
عزلة
الآن
عندما تسقط فُتاتُ الخبزِ
من الطاولة،
لا تظنَّنَّ أنّ أحداً
لا يسمعُ ذلكَ
حين ترتطمُ بالأرضِ،
ثمة في مكانٍ ما
جاهزةٌ هي النمالُ،
تلك التي اعتمرت القبّعات
لتقومَ بزيارتكَ.
الميت في صورة فوتوغرافية
لم يكونوا
سوى مجرد مبتدئين
واقفينَ أمام الكاميرا،
القليلُ منهم تحرَّكَ
ليشوِّشَ الصورة في اللحظة المناسبة،
بعضهم صنع ابتساماتٍ
بدتْ كأنَّها للأبد،
كان يومٍ عُرس،
والجمعُ ظهر
على الجانب الآخر من الطريق،
في أحد شوارع كاليفورنيا،
العريسُ بدا بربطة عنق عريضة،
زُيِّنتْ ببغاء أخضر،
العروسُ ارتدت قبَّعةً من قش،
فيها عقدة على شكل حبَّة فريز،
إنه صباحُ الأحد
في لوس أنجلس..
حين أخذ المصوّر الصورة
بالقرب من دكّان الحلاق،
ثمّة في الصورة
قطةٌ تعبرُ الشارع
ونخلة طويلة في الريح..
في الصورة
يظهر الميِّتُ ثانيةً.
كاتب عراقي