مقالات

غزة: ثلاثة خطوط للدبلوماسية الأمريكية

غزة: ثلاثة خطوط للدبلوماسية الأمريكية

بلال التليدي

خلال هذا الأسبوع، وضمن زخم ترتيبات ما بعد وقف إطلاق النار بغزة، تم تسجيل أربعة تطورات كبيرة، أولها تمنع تل أبيب عن الانخراط في إتمام المرحلة الثانية من الحرب، وقرارها بوقف إدخال المساعدات الإنسانية لغزة. وثانيها عقد القمة العربية بالقاهرة، والاتفاق على المبادرة المصرية لإعمار غزة. والثالث، هو قرار المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف تأجيل زيارته للمنطقة، ودعوته إسرائيل الحفاظ على وقف إطلاق النار حتى وصوله المرتقب هذه الأيام. والرابع دخول واشنطن في مفاوضات مباشرة مع حماس.
قد تبدو هذه التطورات متنافرة، تعبر عن أزمة ما بعد اتفاق وقف إطلاق النار بغزة، بعد أن قررت إسرائيل عدم الانخراط في مفاوضات المرحلة الثانية دون أن تقدم أي جواب عن سؤال «اليوم التالي».
قد تفهم تأجيل زيارة ستيف ويتكوف، ثم دعوته تل أبيب إلى الالتزام بوقف إطلاق النار كأنه نوع من الضغط على إسرائيل، لأنها بسبب عدم التزامها بالاتفاق أدخلت المفاوضات إلى نقطة النهاية، لاسيما وأن تصريحات سابقة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تشير إلى أن واشنطن ستنتظر ما ستفعل تل أبيب، بما يفهم منه، أن الإدارة الأمريكية، تعلم أن حليفتها تذهب بمواقفها إلى النفق المسدود.
تحليل المبادرة المصرية في سياقها ومضمونها، يشير إلى ثلاث رسائل، أولاها، أن الدول العربية، تريد أن تثبت للرئيس الأمريكي أن لها خيارا، تواجه به خطة التهجير التي تستهدف الأمن القومي العربي. وثانيتها، أنها، تملك جوابا لما بعد حرب غزة، لا تملكه تل أبيب ولا حتى واشنطن. الثالثة، أنها تلعب من خلال العموميات التي وردت فيها (لا شيء محددا، سواء هوية الهيئة التي ستدير غزة، ولا قوات حفظ السلام ودورها، ولا قضية سلاح المقاومة) على عنصر الوقت، لأنها تدرك أن خيارات تل أبيب، محدودة ومعقدة، فالوضع الإسرائيلي الداخلي محكوم من جهة بصراع المؤسسات(المؤسسة السياسية مع المؤسسات الأمنية ثم مع المؤسسة العسكرية) وأن مسارعة كل جهة (الجيش، الشاباك)لإصدار نتائج تحقيقها لأحداث السابع من أكتوبر، يزكي رغبة في إنهاء حكومة بنيامين نتنياهو في أقرب وقت، ثم هو محكوم من جهة ثانية، بغياب الجواب عن «السؤال التالي» فاليمين المتطرف يطرح خيار احتلال غزة، ورئيس الوزراء الإسرائيلي يمني نفسه بسيطرة أمنية على غزة، والمشترك الذي يجمع النخب السياسية الإسرائيلية، هي خروج حماس من المشهد السياسي والحكومي، والقضاء على قدراتها العسكرية، أي إعادة سيناريو لبنان بدولة تحتكر حمل السلاح دون حزب الله، وفي حالة غزة، إدارة من غير حماس ولا السلطة الفلسطينية تدير غزة من غير سلاح. ينضاف إلى ذلك زخم عائلات الأسرى والاحتقان الاجتماعي الذي نشأ على خلفية رغبة رئيس الوزراء التضحية بأمن إسرائيل ومصالحها ومواطنيها في سبيل بقائه في السلطة.
حوار واشنطن المباشر مع حماس، قدم لها قراءات متعددة، أبرزها محاولة الضغط على إسرائيل لحفزها على العودة لمفاوضات المرحلة الثانية، والإيحاء بأن لواشنطن خيارها الخاص للإفراج عن المواطنين الأمريكيين المحتجزين في قطاع غزة بمعزل عن الاتفاق الذي رفضت تل أبيب أن تلتزم بمقتضياته، لاسيما الانخراط في جولة المفاوضات لإتمام المرحلة الثانية منه.

واشنطن وضعت تل أبيب بين ثلاثة خيارات، إما خطة عربية تقودها مصر للإعمار، وإما الاستمرار على خط ستيف ويتكوف، في تنفيذ كل مراحل الاتفاق وإما مباشرة واشنطن الحوار مع حماس، لإنهاء الحرب

في تقديري هذه التفسيرات التي تقرأ التطورات بمعزل عن بعضها البعض، لا تسمح بقراءة النسق الذي ينتظمها، والذي يخص أسلوب واشنطن في إدارة العملية التفاوضية حول ترتيب وضع غزة ما بعد الحرب، فهذه التطورات الأربعة، تكشف عن ثلاثة خطوط تفاوضية، تديرها واشنطن بشكل متزامن حتى تحقق هدفها في إنهاء الحرب، وتحقيق مكاسب حتى في غزة نفسها.
بيان ذلك، أن خط التهديد بخطة التهجير، كان الهدف منه ابتداء هو ملء فراغ عدم وجود أي جواب عن سؤال «اليوم التالي» فقد بينت مسارات التفاوض المختلفة التي أجريت خلال مدة الحرب، أن تل أبيب لا تملك أي رؤية لما بعد حرب غزة، وأنها لا تزال تتمسك بأهداف فشلت في تحقيقها بالحرب، أي «القضاء على حماس، وعدم حكمها وتدمير قدراتها العسكرية» وما يظهر اضطرابها أكثر، هو موقفها من السلطة الفلسطينية، وموقفها حتى من منظمة الأونروا. وفي مقابل ذلك، أثبتت المرحلة الأولى التي تم في جولاتها السبع تبادل الأسرى والمحتجزين أن حماس تسيطر بشكل كامل على غزة، سياسيا، وعسكريا وشعبيا.
في الواقع، كان قصد هذا الخط الضغط على العرب من أجل أن يسارعوا إلى إعداد الحل بديلا عن تل أبيب، فخطة التهجير تضعهم في معادلة ضيقة، فإما أن تسارعوا إلى تخليص غزة من وجع حماس، وإما أن تكون الدائرة عليهم. وهذا ما يفسر الخطة المصرية، التي وإن كانت في الجوهر استجابة لضغط دونالد ترامب، فقد تم حقنها بجزء مهم من المناورة العربية التي تلعب بالوقت لتلافي السيناريو الأسوأ.
الخط الثاني، الذي يمسك به مبعوث الرئيس الأمريكي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف، هدفه إنهاء الحرب، والمرور بسرعة إلى السؤال الأساسي، أي انسحاب إسرائيل من غزة، وإعمارها، ومن يحكم غزة؟
هذا الخط، قدرت إسرائيل عند تنفيذ مقتضيات المرحلة الأولى من الاتفاق، أنها تسير في الاتجاه الذي يعاكس أهدافها، وأن نهايته ستكون هي وضع الحبل في عنق حكومة بنيامين نتنياهو، ولذلك، ناورت في أكثر من جهة للتحلل منه. ولأنها لم تستطع أن تلتزم به، ولا أن تعود للحرب، فقد اختارت خيارا وسطا هو وقف المساعدات الإنسانية للضغط على حماس، أي أنها اختارت اللعب بالوقت.
تأجيل زيارة ستيف ويتكوف، ودعوته إسرائيل الحفاظ على وقف إطلاق النار قبل حلوله بالمنطقة، كان ردا مكافئا لخيار إسرائيل، أي أن ويتكوف نفسه اختار اللعب بالوقت، فإذا كانت تل أبيب تضغط لوقف المساعدات الإنسانية لوقت محدد حتى تلزم حماس للخضوع، فإن ما قام به ويتكوف، يعتبر بمثابة إبطال لمفعول الوقت الذي تستعمله تل أبيب، وأنه ما دام أن تل أبيب ستلتزم بوقف إطلاق النار إلى وقت زيارته، فمعنى ذلك أنه لا مناص لها من الانخراط في المفاوضات، وأن خيارات تل أبيب لما بعد وقف المساعدات أصبحت بدون مفعول.
نأتي إلى الخط الثالث، وهو الجديد، إذ لم يكن معهودا في السابق أن تجري مفاوضات مباشرة بين واشنطن وحماس، لا من جهة الإدارة الأمريكية التي تصنف حماس بأنها منظمة إرهابية، ولا من جهة حماس، التي تعتبر واشنطن حليفا داعما لإسرائيل.
في الواقع، لم يرشح شيء عن مضمون هذا التفاوض، لكن، التسريبات التي تتحدث عما أبلغه الموفد الأمريكي لحماس، من كون واشنطن تضغط على تل أبيب للعودة للمفاوضات، تؤكد بأن هذا الخط يصب في نفس أهداف الخط السابق.
لكن، في تقديري، يمكن أن نعتبر هذا الخط الذي صوحب بإعادة تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بخطة التهجير، بأنه خط مستقل، يمكن أن نصطلح عليه بالسيناريو (ب) أو خط تدبير المخاطر.
بيان ذلك، أن واشنطن وضعت تل أبيب بين خيارات جد ضيقة، إما خطة عربية تقودها مصر للإعمار، وقد عبرت واشنطن عن رفضها لها، وإما الاستمرار على خط ستيف ويتكوف، أي تنفيذ مترتبات المرحلة الثانية والثالثة، وإما، خيار ثالث، وهو أن واشنطن، ستباشر الحوار مع حماس، لوضع سيناريو الجواب عما بعد حرب غزة، تحقق فيه هدف إسرائيل في هدنة طويلة، وتحقق جزءا من أحلام دونالد ترامب في مشاريع عقارية بغزة، ولو كان الثمن أن تذهب حكومة نتنياهو ويمينه المتطرف إلى الجحيم.

كاتب وسياسي من المغرب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب