تحقيقات وتقارير

جرح في قلب الاقتصاد.. إسرائيل أبادت مصانع غزة

جرح في قلب الاقتصاد.. إسرائيل أبادت مصانع غزة

بهاء طباسي

غزة –

عندما دوت أصوات الانفجارات إبان حرب السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لم يكن طلب طلال بلبل، صاحب شركة «بلبل للتجارة والصناعة»، يدرك أن جيش الاحتلال سيتعمد وعن طريق القصف المكثف، تحويل مصنعه المدني لإنتاج أجهزة البوتاغاز إلى كومة كبيرة الرماد، ماحيا أعواما من الكد والاجتهاد في لحظة واحدة.

منذ سنوات طويلة، وقف هذا الرجل شامخا في وجه الصعاب، يؤمن أن الصناعة هي سلاح الفلسطيني في مواجهة التبعية. كان مصنعه الوحيد في حي الزيتون، الذي يوفر أجهزة البوتاغاز محلية الصنع رخيصة الثمن للفلسطينيين، ويشغل آلاف الشباب، مساهمًا بقوة في اقتصاد البلاد، الذي يعاني وطأة الحصار الإسرائيلي.

أصبح رمادًا..

ولكن في أحد أيام الحرب الأولى، وعندما كانت طائرات ومدفعيات الاحتلال تدك بيوت ومنشآت غزة بلا رحمة، استيقظ طلال على صوت القصف المدوي، فهرع نحو مصنعه، ليشاهد رجل الأعمال ما يفوق قدرته كمسن ستيني على الوصف.

كتلة من اللهب والدخان، وآلات محطمة، وحديد ملتو، وركام يغطي كل زاوية. عجزت قدماه عن التقدم أكثر، وكأن المصنع الذي بناه بيديه يأبى أن يراه في هذا المشهد المروع. وقف يتأمل الدمار، وعبارات القهر تخرج من فمه: «هذا المصنع لم يكن ينتج سلاحًا، لم يكن مصنع ذخيرة، فلماذا استهدفوه؟”.

لم تكن هذه المرة الأولى التي يُستهدف فيها مصنع بلبل للبوتاغاز. في حرب 2008/2009، أزال الاحتلال الإسرائيلي منشأته بالكامل، مكبدا إياه خسائر تتخطى 5 ملايين دولار، لكنه لم يستسلم حينها. أعاد البناء، متحديًا الحصار وشح الموارد.

وزير الاقتصاد الفلسطيني لـ”القدس العربي”: عملية منظمة للقضاء على قدرة القطاع الصناعية

يقول طلال بصوت يملأه الفخر لـ”القدس العربي”: «في هذا الوقت، زارتني مديرة الاتحاد الأوروبي، لم تصدق كيف استطعنا إعادة البناء وسط كل هذه العقبات. لقد صنعناه بأيادٍ فلسطينية خالصة، ونجحنا رغم كل التحديات”.

كان مصنعه ينتج 26 ألف جهاز بوتاغاز شهريًا، ويوفر فرص عمل لآلاف الشباب بين خطوط التصنيع، والإنتاج، والتعبئة والتوزيع. لم يكن مجرد مصنع، بل قصة نجاح تُروى للأجيال المقبلة. لكن الاحتلال أبى إلا أن يطفئ هذا النور، ويقضي على مصدر رزق مئات العائلات. لم يكن الهدف تدمير مصنع فحسب، بل كسر إرادة الفلسطينيين، وحرمانهم من أي بارقة أمل في الاكتفاء الذاتي.

يؤكد طلال أن استهداف المصانع ليس مجرد ضرر اقتصادي، بل هو جزء من حرب الاحتلال على صمود الفلسطينيين: «هم لا يريدون لنا أن نتقدم، يريدون أن نبقى رهائن للمساعدات، مجرد مستهلكين لا منتجين. لكننا لن نستسلم»، يقول بحزم، وهو يقف وسط أنقاض مصنعه، مصممًا على إعادة البناء من جديد.

تدمير ممنهج

خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، استهدف جيش الاحتلال القطاع الصناعي في غزة بشكل ممنهج، مدمرًا ما تتجاوز نسبته 70% من المصانع والمنشآت الصناعية في القطاع، ما كبد الاقتصاد الفلسطيني خسائر تفوق مليار دولار، وفقًا لعرفات عصفور، وزير الاقتصاد الوطني الفلسطيني.

يقول عصفور لـ”القدس العربي”: «ما شهدناه ليس مجرد استهداف لمبانٍ أو معدات، بل هو عملية منظمة للقضاء على قدرة غزة الصناعية بالكامل”.

ويوضح أن القطاعات الأكثر تضررا شملت الصناعات الغذائية، وورش الحدادة، والمصانع الهندسية، وصناعة الملابس، التي كانت تُشغل آلاف العمال.

أكثر من 650 منشأة دمرت و35 ألف عامل فقدوا رزقهم

وفقًا لوزارة الاقتصاد، فإن الدمار طال أكثر من 650 منشأة صناعية، بعضها أزيل بالكامل عن وجه الأرض. أكثر من 35 ألف عامل وجدوا أنفسهم بلا مصدر دخل بين ليلة وضحاها، لترتفع معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة.

ويبين وزير الاقتصاد الفلسطيني: «لم يعد في غزة بيئة اقتصادية قادرة على التعافي سريعا. حتى المصانع التي لم تدمر بالكامل، تعاني من انقطاع الكهرباء وشح المواد الخام. الوضع يزداد سوءا، ونحن بحاجة إلى تدخل دولي عاجل لإعادة الحياة لهذا القطاع المنهار”.

المنشآت الاقتصادية

ويصف يحيى السراج، رئيس بلدية غزة، المشهد في أحياء المدينة المنكوبة، قائلًا: “مرت آلة الدمار والخراب من هنا، فلم تبقِ حجرًا على حجر. شوارع بأكملها محيت، منشآت اقتصادية تحولت إلى ركام، وأحلام كثيرة سُحقت تحت أنقاض المصانع والمتاجر”.

يروي خلال حديثه لـ«القدس العربي» كيف حاولت البلدية، رغم ضعف الإمكانيات، إزالة الركام وفتح الطرقات، لكن التحديات كانت أكبر من أن تواجهها وحدها: «إمكاناتنا محدودة، والأضرار هائلة. نحن بحاجة إلى إدخال معدات ثقيلة، ومواد بناء، وأدوات صيانة، ومواد خام، لإعادة ترميم ما يمكن إنقاذه”.

وفي حي الزيتون، أحد أكثر المناطق تضررًا في مدينة غزة، يؤكد الدكتور أسامة الأيوبي، عضو لجنة الحي، أن البنية التحتية دُمرت بالكامل، وأن السكان يعيشون ظروفًا كارثية: «لا كهرباء، لا ماء، لا غذاء كافٍ. الناس هنا ينامون على الأنقاض، في ظل برد قارس، بلا غطاء يحميهم”.

ويوضح لـ«القدس العربي» أن أكثر من 80% من معدات بلدية غزة دُمرت، مما جعل حتى محاولة إعادة الحياة إلى الشوارع بعد وقف إطلاق النار تحديًا ضخمًا.

ويواصل حديثه: «الأطفال يصابون أثناء سيرهم فوق الركام، طفلة صغيرة جُرحت وكادت أن تُبتر قدمها بسبب ذلك. لا طرق ممهدة، ولا خدمات طبية كافية. هذه ليست لم تكن حربًا فقط، بل إبادة بطيئة لشعب بأكمله”.

وسط كل هذا الدمار، تبقى الحقيقة الوحيدة الثابتة أن غزة لا تموت. كل مصنع يُهدم، يُبنى من جديد. كل حلم يُسحق، ينبعث من تحت الرماد. ربما يستهدف الاحتلال قوت الفلسطينيين، لكنه لن يتمكن من انتزاع عزيمتهم. في وجه هذا الحصار المزدوج، بين القصف والتجويع، تظل غزة واقفة، تقاوم بعرق أبنائها، وتصنع من بين الركام طريقًا نحو الحياة.

لكن هذه الطريق ليست سهلة، فهي مرصوفة بالمعاناة والتحديات التي تتجدد كل يوم. ورغم ذلك، لا يستسلم الغزيون لليأس، بل يحولونه إلى دافع لإعادة البناء، ولو بإمكانات شحيحة. فالمصانع التي دُمرت، سيعاد بناؤها، والأيدي العاملة التي فقدت عملها، ستجد طريقها نحو فرص جديدة، مهما كانت العوائق.

وربما يكون المستقبل قاتمًا في ظل الحصار المستمر والعدوان المتكرر، لكن غزة أثبتت مرارًا أن النور ينبثق حتى من أشد اللحظات ظلمة. وما بين الركام والدخان، لا يزال الأمل متقدًا، يسطع في عيون الأطفال الذين يحلمون بغدٍ أفضل، وفي سواعد العمال الذين يصرون على إعادة البناء، وفي قلوب الأمهات اللواتي يربين جيلًا جديدًا لا يعرف الاستسلام.

“القدس العربي”:

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب