مقالات

النصر السوري آمال وهواجس

النصر السوري آمال وهواجس

عبد الباسط سيدا

مرت ثلاثة أشهر على سقوط سلطة آل الأسد (8-12-2024)، وهروب بشار بما خف وزنه وغلا ثمنه. هذه السلطة التي تحكّمت بالبلاد والعباد على مدى 54 عاماً. ورغم قصر هذه المدة في حسابات إعادة تأهيل المجتمعات التي انهكتها عقود من الاستبداد والفساد، وإعادة بناء العمران وتدوير عجلة الاقتصاد، وإصلاح مؤسسات الدولة وإعادة هيكلة أجهزتها لتكون موائمة لتطلعات السوريين الذين ضحوا بما يتمرد على أي توصيف؛ لاسيما منذ انطلاقة الثورة السورية في ربيع عام 2011، إلا أنها مع ذلك كافية لأخذ فكرة عن طريقة تفكير الإدارة الجديدة التي شكلتها هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها، وتوجهاتها المستقبلية، ولو بصورة أولية غير متكاملة.
فما يلاحظ قبل غيره هو انشغال الإدارة بملف العلاقات الخارجية، وحرصها على اكتساب الشرعية من خلال مد الجسور مع دول الجوار والدول الخليجية ومصر؛ هذا إلى جانب الدول الأجنبية، خاصة الأوروبية التي كانت حريصة على إرسال وفودها الاستطلاعية إلى دمشق للتعرف عن قرب على القيادة الجديدة فيها. ولم يقتصر هذا الأمر على أوروبا وحدها، بل شملت الولايات المتحدة أيضاً التي أرسلت هي الأخرى وفداً بيروقراطياً، إذا صح التعبير، حرص على عدم إضفاء الطابع الرسمي على زيارته.
وقد أجمعت الوفود الغربية بصورة عامة على ضرورة انتظار أفعال مسؤولي الإدارة للتأكد من مطابقتها للكلام المريح الذي سمعته في دمشق. ورغم الوعود، بل والإجراءات الأوروبية الخاصة بتخفيف العقوبات التي كانت قد فرضتها على سلطة بشار، إلا أن تلك الإجراءات تبقى محدودة التأثير ما دامت العقوبات الأمريكية الأساسية سارية المفعول رغم الإعلان عن رفع بعض القيود.
وبالتناغم مع هذا التوجه، تم الإعلان عن تنصيب أحمد الشرع ليكون رئيساً خلال المرحلة الانتقالية التي من المفروض أن تتوج بكتابة الدستور الدائم، وعرضه للاستفتاء الشعبي العام، ومن ثم إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية (إذا ما تم اعتماد النظام الرئاسي في الدستور). وجاء هذا الإعلان من قبل اجتماع عام لقادة معظم الفصائل العسكرية، سمي بمؤتمر النصر.
وكان من اللافت عدم دعوة أي من المدنيين سواء من الشخصيات الوطنية والمجتمعية أو من قادة الأحزاب السياسية إلى الاجتماع المذكور. وهذه الخطوة كان في مقدور الإدارة الجديدة أن تقدم عليها بمفردها من دون أن تخاطر بمواجهة أي اعتراض، وذلك لقناعة غالبية السوريين بأن ما أنجزته يخولها للقيام بمهام إدارة الأمور في البلاد خلال المرحلة الانتقالية. ولكن يبدو أن الإدارة المعنية ارتأت في سياق جهودها الرامية إلى الحصول على الشرعية، اعطاء انطباع للخارج في المقام الأول مفاده أنها اشركت الفصائل في اتخاذ القرار، حتى لا تتهم بأنها سلطة أمر واقع.
وفي السياق ذاته كان انعقاد «مؤتمر الحوار الوطني» الذي جرى الحديث عنه في البداية تحت مسمى «المؤتمر الوطني»، ولكنه استبدل بمؤتمر الحوار، واعلن في الوقت ذاته أن قرارته لن تكون ملزمة، بل مجرد توصيات تستأنس بها القيادة. وبقيت التفصيلات الخاصة بالمؤتمر المذكور غامضة، وكانت قرارات اللجنة التحضيرية لا تراعي المدة الزمنية الكافية التي لا بد من توفيرها حتى تكون الحوارات مجدية، والنتائج مفيدة. ويُشار هنا إلى الاجتماعات التي عقدتها اللجنة المذكورة في المحافظات، وفي دمشق نفسها مع من تم الإعلان عنهم بأنهم يمثلون المحافظات التي لم تتمكن اللجنة من الوصول إليها؛ هذا مع غياب معايير محددة لاختيار الأشخاص الذين شاركوا في الاجتماعات المعنية.
ومرة أخرى فهم من الخطوة بأنها محاولة لاقناع المجتمع الدولي، عبر إضفاء قسط من الشرعية الوطنية، أو حتى القانونية على الإدارة الجديدة وحلفائها. وهو الأمر الذي فهمه السوريون على الفور وسكتوا عنه رغبة منهم في إعطاء الفرصة للإدارة التي تواجه تحديات كبرى على صعيد الداخل والخارج. ويُشار في هذا السياق إلى الأحداث الدامية التي شهدتها مؤخراً مدن عدة في منطقة الساحل، وهي أحداث تسببت فيها فلول سلطة آل الأسد، التي تحركت على الأغلب بتوجيهات وأوامر قوى خارجية متضررة من استعادة السوريين لدولتهم ووطنهم. هذا إلى جانب الصورة المتداخلة غير الواضحة في السويداء، وعدم التوصل إلى اتفاق مع قسد، وتحرك خلايا فلول النظام في بعض مناطق محافظة درعا؛ بالإضافة إلى التهديدات الإسرائيلية والإيرانية العلنية.
واليوم يتابع السوريون التصريحات والتسريبات الخاصة بموضوع الإعلان الدستوري، وذلك بعد أن شكّل رئيس الجمهورية لجنة لكتابته؛ هذا مع العلم أن العرف السائد في منطقتنا، هو أن يقوم رئيس السلطة الجديدة، أو مجلس يتحدث باسمها، بإصدار مثل هذا البيان، وذلك لسحب الثقة من السلطة السابقة، واضفاء قسط من الشرعنة على قرارات وإجراءات السلطة الجديدة. وعادة ما يتضمن مثل هذا الإعلان تصوراً، ولو أولياَ، لخريطة الطريق، تلقي الضوء على الخطوات والإجراءات التي ستتخذ خلال المرحلة الانتقالية، ريثما يتم الوصول إلى الوضع الدستوري المستقر.
إلى جانب ذلك، يتناول الإعلان الدستوري موضوع توزيع الصلاحيات بين مؤسسات الحكم الأساسية (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، وذلك لقطع الطريق على التفرد بالحكم وسوء استغلال السلطة التي عادة تغري غير المحصن بامتيازاتها وبهرجتها. ولكن الرئيس الشرع آثر تكليف لجنة بهذا الأمر، ليقرر هو لاحقاً اختيار ما يراه مناسبا للمرحلة، لا سيما من جهة طمأنة المجتمع الدولي؛ وهذا كله يدخل في إطار المفهوم، ولكن الملاحظ مرة أخرى هنا هو تغييب التنوع السوري المجتمعي والسياسي في اللجنة، وهو الأمر الذي كان سيضفي، في حال وجوده، طابعا وطنياً عليها، ويسد المنافذ أمام القيل والقال، خاصة من جانب المتربصين في الداخل والخارج الذي لا يريدون أي خير للشعب السوري؛ بل يعملون في السر والعلن من أجل إعادة السوريين إلى حظيرة العبودية، بغض النظر عمّا فعلته وأنجزته الإدارة الجديدة لمصلحة السوريين في مرحلة انتقالية على غاية التعقيد من جهة المخاطر والتحديات وقلة الامكانيات.
ولعله من الأهمية بمكان في هذا السياق تأكيد ضرورة التمييز بين المحاصصة وبين اشراك السوريين بكل خلفياتهم المجتمعية والسياسية في صياغة إعلان دستوري، ومن ثم دستور دائم، يطمئن الجميع عبر تأمين الحقوق وعلى قاعدة وحدة الوطن والشعب. أما الخلط بين الأمرين فهو أمر يثير الكثير من التساؤلات التي تنم عن مشاعر غير مشجعة تجاه المستقبل.
ونحن لا نذيع سراً أن أحداث الساحل، والقلاقل المشار إليها تنذر بالمزيد والأخطر والتوسع، ما لم تكن هناك رؤية وطنية سياسية واضحة على الصعيد الداخلي تتكامل مع الجهود الأمنية، رؤية تتجاوز الخلافات الشاقولية التي تحاول الجهات المستفيدة الاستثمار فيها. فالمكونات السورية، بصرف النظر عن الأحجام والتسميات، ليست كتلاً متجانسة، وإنما تمثل ميداناً لتوجهات واتجاهات فكرية وسياسية مختلفة متبانية، وهي تباينات لا يمكن حصرها أو تقزيمها ضمن نطاق التسميات الطائفية أو العنصرية.
الموضوع السوري برمته في حاجة إلى مشروع سياسي يطمئن الجميع، مشروع لا يقفز فوق ضرورة تطبيق مبدأ العدالة الانتقالية، ولكنه في المقابل يشدد على المصالحة الأهلية الوطنية، وكل ذلك بإشراف حكومة وحدة وطنية تجمع طاقات سائر السوريين الذين ناهضوا سلطة آل الأسد المستبدة الفاسدة المفسدة، ودفعوا أثمانا باهظة لقاء المواقف المبدئية التي اتخذوها، وما زالوا محافظين على روحية تلك المواقف، وعلى اخلاصهم لسوريا وشعبها. وهذا يستوجب فتح المجال أمام القوى والأحزاب السياسية، ورفع القيود عن فعاليات واجتماعات الناشطين السوريين في المجالين السياسي والمدني، وتسليم أمر البت في شؤون النقابات ومنظمات المجتمع المدني لأصحاب الخبرة والتجربة والمواقف الوطنية المشهود لها.
بقي أن نقول: إن انجاز النصر كان رائعاً، أثلج قلوب السوريين؛ ولكن التحديات جسيمة، والهواجس مشروعة، لذلك لا بد من بذل كل الطاقات على الصعيد الداخلي من أجل المحافظة على النصر السوري ليصبح مستداماً، يؤسس لسوريا المستقبل التي ترتقي إلى مستوى تضحيات السوريين وتطلعاتهم.
*كاتب وأكاديمي سوري

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب