مقالات

حرب التهجير: ماذا يقول العرب وماذا تفعل إسرائيل

حرب التهجير: ماذا يقول العرب وماذا تفعل إسرائيل

إبراهيم نوار

قلت في مقالي السابق أن “سيناء هي الجائزة التي تبحث عنها إسرائيل، لتهجير الفلسطينيين إليها، وتصفية قضيتهم تماما”. ووراء غبار المفاوضات تحاك المؤامرات من أجل تحقيق هذه الغاية. ورغم أن الدول العربية تكلمت في القمة الأخيرة التي انعقدت في القاهرة، حول تأييد الخطة المصرية، لإعادة بناء غزة، فإن إسرائيل تقيم حاليا حقائق جديدة على الأرض، لتسريع تهجير الفلسطينيين تحت لافتة مزعومة هي “التهجير الطوعي”! وفي الوقت نفسه فإنها تزيد من ضغوطها على القاهرة من خلال استمالة عاصمتين عربيتين، بهدف تهميش دور مصر الإقليمي، ليس في غزة وحدها، ولكن أيضا في سوريا ولبنان والسودان وليبيا. وكما قلت في مقالي السابق بأن “مصرية سيناء = فلسطينية غزة”، فإن تهميش دور مصر يمثل قناة مساعدة في حرب إبادة الشعب الفلسطيني واغتيال هويته، بعد أن أثبت بصموده ومقاومته فشل الحرب العسكرية وحرب التجويع. الآن بدأت الحرب الثالثة وهي “حرب التهجير”.

آليات حرب التهجير
تمثل حرب التهجير مرحلة جديدة من مراحل حرب الإبادة؛ فالتهجير ينطوي على قطع العلاقة بين الشعب والأرض، ويسهل على لصوص أحلام الشعوب السيطرة على الأرض بتكلفة أقل، وتشويه هوية المهجرين الذين تنقطع علاقتهم بالوطن. ذلك أن كلمة “الوطن” تفقد معناها بلا “أرض”. وقد غادر قطاع غزة بالفعل خلال فترتي وقف إطلاق النار اللتين تخللتا الحرب حتى الآن عشرات الآلاف من الفلسطينيين، بمن في ذلك الجرحى، إلى دول عربية مثل الأردن والإمارات ومصر. وطبقا لمعلومات متداولة في الولايات المتحدة وإسرائيل، فإن عدد الفلسطينيين الذين غادروا قطاع غزة إلى مصر يصل إلى 100 ألف شخص. لكن خروج الفلسطينيين من غزة توقف مع إغلاق معبر رفح واستمرار الحصار الإسرائيلي. ونظرا لأن الحرب العسكرية لم تحقق نتائجها، فإن حكومة نتنياهو قررت استخدام حرب التهجير بطريقة منظمة للتخلص من الوجود الفلسطيني في غزة. ويساعد على ذلك الآن وجود تأييد أمريكي رسمي لتفريغ قطاع غزة من أصحابه الفلسطينيين، لتحويل أحلام نتنياهو وترامب إلى حقائق.
وتتضمن استراتيجية حرب التهجير إنشاء إدارة لتهجير الفلسطينيين داخل وزارة الدفاع تختص بكل ترتيبات تلك الحرب وإدارتها، والتنسيق مع الجهات الخارجية كافة بما فيها الوكالات اليهودية الصهيونية من أجل توفير مواطن بديلة للمهجرين، وتقديم عملية التهجير للرأي العام العالمي على أنها “هجرة طوعية” للفلسطينيين إلى أماكن أخرى في العالم من اختيارهم.
من المقرر أن تضم إدارة “التهجير” في وزارة الدفاع الإسرائيلية ممثلين عن إدارات حكومية أخرى تشمل وزارات الشؤون الاستراتيجية، والخارجية، والداخلية، والمالية، والعدل، والمواصلات، بالإضافة إلى ممثلين عن الجيش، ومكتب منسق أنشطة الحكومة في المناطق المحتلة، وجهاز الأمن العام، ومجلس الأمن القومي، والشرطة، بالإضافة إلى ذلك، ستتمكن تلك الإدارة من تنسيق عملياتها مع المنظمات الدولية وغيرها من الأطراف التي تعمل في الخارج. وكان وزير الدفاع يسرائيل كاتس قد أعلن في 17 من الشهر الماضي، أنه يعتزم إنشاء إدارة جديدة داخل وزارته تكون مهمتها إدارة شؤون “المغادرة الطوعية للفلسطينيين من غزة”. وطبقا للاقتراح الذي ناقشته الحكومة يوم الأحد الماضي، فإن هذه الإدارة ستسهل للفلسطينيين “الحركة تحت الرقابة داخل إسرائيل لسفرهم إلى دول ثالثة، وتتولى توفير الترتيبات الأمنية المرافقة لحركتهم، وتنشئ مسار سفر محدد، وتقوم بتنظيم إجراءات التدقيق عند معابر غزة الحدودية، كما تتولى إنشاء البنية التحتية للسماح بالمرور البري والبحري والجوي إلى دول المقصد”. كما أن إدارة التهجير التابعة لوزارة الدفاع الإسرائيلية ستتولى مسؤولية الدعاية والاتصال والتحفيز وتقديم الإغراءات وتسجيل الأسماء وإقامة معسكرات تجميع المهجرين، وتنظيم السفر في أفواج من قطاع غزة إلى الخارج عن طريق إسرائيل، وليس عن طريق معبر رفح، الأمر الذي يكرس مبدأ سيادة إسرائيل على القطاع. ومن المقترح أن يتم التهجير بعد الانتقال برا إلى إسرائيل عن طريق ميناء أشدود بحرا، وعن طريق مطار رامون جوا. ومن المرجح أن تشارك الولايات المتحدة في تمويل نفقات التهجير والتنسيق مع دول أخرى لاستقبال أعداد كبيرة من المهجرين. وطبقا لتصريحات أدلى بها وزير المالية بتسلئيل سموتريتش فإن “الولايات المتحدة تعمل بشكل مكثف للعثور على دول ثالثة توافق على استقبال الفلسطينيين من غزة”.

دعم أمريكي لحرب التهجير
وقد بدأت بعد زيارة نتنياهو الأخيرة إلى واشنطن حملة سياسية مدروسة بعناية تشارك فيها مؤسسات ومراكز أبحاث، لترويج فكرة “التهجير الطوعي” للفلسطينيين. ولهذا فإنه من الضروري إقامة معادل سياسي وفكري مضاد لهذه الحملة من الجانب العربي والدبلوماسية الدولية المناصرة للحق الفلسطيني. ومن السذاجة قبول فرضية أن يكون هناك ” التهجير الطوعي” تحت الاحتلال والحصار والقتل والتجويع الإسرائيلي للفلسطينيين. إسرائيل في حقيقة الأمر تبذل أقصى ما يمكن، مستعينة بغطاء أمريكي، لخلق كل الظروف التي تجعل الحياة مستحيلة للفلسطينيين في غزة وفي الضفة الغربية. وفي هذا السياق قررت الحكومة وقف تزويد قطاع غزة بالكهرباء، ما يعني توقف محطة تحلية المياه الرئيسية، وانقطاع مياه الشرب. ويقدر دينيس روس الدبلوماسي الامريكي المخضرم في شؤون الشرق الأوسط، أن تهجير الفلسطينيين من غزة قائم فعلا بوجود 100 ألف في مصر. لكن روس آثار في مقاله (موقع مجلة ناشيونال إنترست في 28 من الشهر الماضي) بالاشتراك مع خبير الشؤون العسكرية الإسرائيلي عساف أوريون الزميل في معهد واشنطن، سؤالا عما إذا كان من حق المهجرين العودة إلى قطاع غزة مرة أخرى. ويبين حرمان الفلسطينيين من حق العودة طبقا للترتيبات التي يقترحها وزير الدفاع الإسرائيلي حقيقة خطة التهجير اللاقانونية وطابعها القسري. وقد حذر روس من أنه إذا استمر الموقف الحالي بمعطياته السياسية فلن يتم إطلاق سراح الرهائن، وسوف يستمر سكان غزة في المعاناة، وستستمر الحرب.

صبري صيدمإسرائيل في حقيقة الأمر تبذل أقصى ما يمكن، مستعينة بغطاء أمريكي، لخلق كل الظروف التي تجعل الحياة مستحيلة للفلسطينيين في غزة وفي الضفة الغربية

وفي إطار الحملة التي تنظمها المؤسسات الصهيونية العالمية من أجل الترويج لفكرة “التهجير الطوعي” للفلسطينيين من غزة، كتب البروفيسور روبرت ساتلوف مدير معهد واشنطن مقالا نشره على موقع المعهد (7 من الشهر الحالي) عنوانه: “إعادة توطين اللاجئين طوعاً: حل محتمل للرؤى المتضاربة لإعادة إعمار غزة”، استنتج فيه أن إعادة التركيز على خطط ما بعد الحرب على أساس المفهوم الذي تطرحه إسرائيل بتهجير الفلسطينيين، يمكن أن يؤدي لترحيل 40 في المئة أو أكثر من سكان غزة (من تلقاء أنفسهم!) – وهو احتمال من شأنه أن يحفز القادة الأمريكيين والعرب، حسب قوله – على التوفيق بين مقترحاتهم المختلفة وتسريع استعداداتهم لإعادة الإعمار. وكان يقصد بذلك محاولة إقامة جسر عملي يكون حلقة وصل بين الخلافات القائمة بعد طرح المبادرة المصرية، التي أثبتت إمكان إعمار غزة وبقاء الفلسطينيين على أرضهم، وأنه لا تعارض بين الأمرين في مواجهة اقتراح ترامب. وتقوم الخطة المصرية على البدء في إعمار قطاع غزة من الجنوب إلى الشمال، مع بقاء السكان في الأماكن التي لا يبدأ فيها العمل أولا، ثم ينتقلون تدريجيا إلى الأماكن الجاهزة للسكن والعمل بعد الإعمار. ويجادل ساتلوف بأن الاختلافات بين هذين النهجين، التهجير أو البقاء، تبدو غير قابلة للتجسير، نظرا، من وجهة نظره، لأن ثلاثة أرباع سكان غزة مسجلون رسمياً لدى وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) باعتبارهم “لاجئين فلسطينيين”، نزحوا من مناطق أخرى بسبب حرب 1947-1949 (أو على الأرجح ينحدرون من هؤلاء اللاجئين في تلك المرحلة). وهو يعتقد أن هذه الحقيقة تعني أن ثلاثة أرباع سكان غزة لا تربطهم أي صلات قانونية أو وطنية بالقطاع نفسه! وأنهم قبلوا مزايا اللاجئين التي تقدمها الأمم المتحدة في انتظار الحل النهائي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. واتهم ساتلوف موقف الدول العربية بالتناقض، لأنها من ناحية تقول إن سكان غزة لديهم ارتباط قوي بالأرض لدرجة أن قِلة قليلة منهم فقط قد تغادر طوعاً؛ بينما هي من ناحية أخرى، ترفض فكرة الانتقال الطوعي لهم (بما في ذلك استضافتهم)، وهو ما يفوق قدرة مجتمعاتهم على استيعابه. وطبقا له: “ينبغي لواشنطن أن لا تقبل هذا الموقف المتناقض”. وترتيبا على وجهة نظره فإن كلا من إسرائيل والولايات المتحدة يمكن أن تجدا المبررات الكافية للضغط على الدول العربية لاستقبال النسبة الأكبر من المهجرين الفلسطينيين. لقد أثبتت الخطة المصرية أن إعمار غزة ممكن من دون التهجير، ومن دون انتهاك القانون الدولي الإنساني، وهو ما يثير سخط إسرائيل التي تبدو ماضية في خطة التهجير ومواصلة الحصار والاعتداءات العسكرية، وقطع المياه والكهرباء والغذاء والمعونات الإنسانية، ما يضع خطة إعمار غزة نفسها تحت الحصار، ويقلل احتمال تنفيذها، إذا لم تشتد الضغوط لإنهاء الاحتلال أو إعلان هدنة طويلة الأمد.
كاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب