العميد ميشال حروق في «أسرار وحقائق في خدمة وطني»: الرئيسان سركيس والهراوي حاولا بصعوبة التعامل مع نظام حافظ الأسد بالدبلوماسية

العميد ميشال حروق في «أسرار وحقائق في خدمة وطني»: الرئيسان سركيس والهراوي حاولا بصعوبة التعامل مع نظام حافظ الأسد بالدبلوماسية
سمير ناصيف
قد يتساءل البعض عن الأسباب التي قد تدفع مراجعي كتب المذكرات السياسية في مراحل ما نحو التركيز على مراجعة ما يكتبه قادة الصف الثاني على حساب مذكرات رؤساء الجمهوريات ورؤساء الحكومات وقادة الصف الأول، بحيث يتجهون لمراجعة مذكرات عسكريين أو سياسيين لعبوا أدواراً هامة غير رئاسية «وراء الكواليس» في أنظمة مختلفة وأثروا تأثيراً فعلياً في اتخاذ القرارات الرئاسية. ولعل أحد أسباب ذلك أن الرؤساء قد لا يذكرون تفاصيل ووقائع يتم ذكرها في مذكرات المسؤولين العاملين إلى جانبهم وورائهم والذين يخططون في كثير من الأحيان لاستراتيجيات وقرارات قادة الصف الأول المصيرية وفي حكمة تطبيقها. فإذا نجحت اقتراحاتهم ونصائحهم ينالون المكافأة من قادتهم أو تهمل كلياً وتتقلص أدوارهم.
العميد الركن في الجيش اللبناني ميشال حروق خدم الرئيس اللبناني الراحل الياس سركيس من خلال وجوده الفاعل في الشعبة الثانية الأمنية «دائرة الاستخبارات الوطنية» خلال رئاسة سركيس ثم قدم مشورته ودعمه للرئيس اللبناني الراحل الياس الهراوي من موقع قيادته «لواء الحرس الجمهوري»، وكان أحد أبرز المرشحين لأن يعيّن قائداً للجيش اللبناني ولكن سبقه إلى ذلك المنصب العماد اميل لحود الذي أصبح رئيساً للجمهورية لاحقاً لفترتين.
قرر العميد ميشال حروق مؤخراً نشر مذكراته في كتاب بعنوان «أسرار وحقائق في خدمة وطني» تضمن الكثير مما قد لا نجده في مذكرات كتبها الرئيس الهراوي أو كُتب عن الرئيس سركيس، وبالتالي تشكل مذكرات حروق أهمية كبيرة لمعرفة تاريخ لبنان السياسي الحديث في النصف الثاني من القرن العشرين والذي ما زالت انعكاساته تلعب دورها حتى الساعة.
كثيرون ممن تابعوا التغطية الإعلامية لمواقف الرئيس الياس سركيس ربما ظنوا أنه كان رئيساً ضعيفاً نسبياً بالمقارنة مع معلمه وعرابه الرئيس الراحل الجنرال فؤاد شهاب في اتخاذ المواقف الصلبة تجاه سياسات الدول الإقليمية والدولية التي حاولت الهيمنة على لبنان في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي وساهمت في انطلاق وتسعير واستمرار الحرب الأهلية اللبنانية في الفترة التي كان فيها سركيس رئيساً. كما كانوا يلومون سركيس على عدم تحلي شخصيته بالمميزات التي تواجدت في شخصية الرئيس كميل شمعون الذي حكم لبنان في فترة الخمسينيات 1952ـ 1958 ومن بعده شهاب.
في الفصل الثالث من الكتاب يذكر العميد حروق ما قاله له سركيس في لقاء خاص بعيد عن الأضواء. وملخص كلام سركيس آنذاك كان التالي: «هل يعقل تصديقنا لعجز أمريكا وجبروتها عن حل مشكلة بلد صغير مثل لبنان؟» (ص 87). ويضيف حروق ما قاله له سركيس في لقاء شخصي عن قصف الجيش السوري العسكري العنيف بأوامر الرئيس حافظ الأسد في حزيران (يونيو) 1978 الذي تعرضت له منطقة الأشرفية البيروتية ذات الأكثرية اللبنانية المسيحية. قال له سركيس آنذاك: «يطلب مني الشعب اللبناني أن أشتم السوريين وقادتهم لكي أُفرِح المسيحيين اللبنانيين ويصفقون لي، ولكن إذا فعلت ذلك فَمن سيستطيع بعد ذلك مناقشة القادة السوريين في الأمور المصيرية المتعلقة بهم وبلبنان؟ اؤكد لك أنني تكلمت مع الرئيس حافظ الأسد في هذا الأمر وسأذهب بعد غد لزيارة سوريا برفقة وزير الخارجية لترتيب الأمور» (ص 88 و89). وفي اليوم التالي، ذهب سركيس إلى دمشق برفقة وزير خارجيته فؤاد بطرس ومدير المخابرات جوني عبدو للتأثير على مواقف الأسد فيما كانت ميليشيات مسيحية تقصف مطار بيروت لدى اقلاع طائرة الرئيس سركيس باتجاه دمشق». (ص 89). وبالإضافة إلى ذلك، يشير حروق إلى أن الرئيس سركيس وزعماء مسلمين كانوا يفضلون ترؤس بشير الجميل للبلد على الاستمرار في الخضوع لسوريا المهيمنة على لبنان آنذاك، وقد نصحوا بشير الجميل بعدم التنقل المستمر غير الضروري في بيروت بعد انتخابه رئيسا والانتقال إلى قصر الرئاسة في بعبدا ونقل قيادته إلى هناك، فلم يستمع للنصيحة، وبالتالي، تم اغتياله في بيروت أثناء لقاء له مع مؤيديه في حي الأشرفية.
ويضيف حروق قائلاً إن وزير الخارجية الفرنسي في تلك الحقبة كلود شيسون جاء إلى بيروت بعد اغتيال بشير الجميل وحاول اقناع الرئيس سركيس بتمديد ولايته لسنتين إضافيتين لعدم حدوث فراغ رئاسي. ولكن سركيس رفض ذلك العرض مؤكداً أنه كمعلمه فؤاد شهاب كان ملتزماً ومتمسكاً بالمؤسسات الدستورية. وقد أشار إلى شيسون بوجود رجال أكفاء آخرين بامكانهم احتلال المنصب الرئاسي في تلك المرحلة. وبالتالي، اتفق مؤيدو سركيس على انتخاب الرئيس أمين الجميل شقيق بشير لذلك المنصب.
وهنا من المفيد ذكر واقعتين بارزتين أوردهما المؤلف، أولاهما أن الرئيس سركيس كان يمتعض كلما تلقى رسالة لطيفة ولكن فارغة المضمون، من الرئيس الأمريكي رونالد ريغان عند تأزم الأمور في لبنان، إلى أن أتته برقية مختلفة بان ريغان اتصل برئيس حكومة إسرائيل مناحيم بيغين وقال له بأن «علاقة أمريكا بإسرائيل ستتبدل إذا لم تتوقف إسرائيل عن قصف وحصار بيروت في عام 1982». كذلك أبلغه وجوب وضع حد للتدخل الإسرائيلي السلبي في لبنان، فانفرجت أسارير سركيس لدى تسلمه تلك البرقية (حسب قول المؤلف الذي سلمه إياها) (ص 99).
كذلك كانت هناك رسالة من بشير الجميل قبل انتخابه رئيساً إلى مؤتمر بيت الدين يذكرها المؤلف، يتعهد فيها بقطع علاقاته مع إسرائيل في مقابل انسحاب الجيش السوري في نطاق قوات الردع العربية من لبنان تاريخها مطلع صيف 1982.
«كما قرر بشير الجميل السفر إلى أمريكا عن طريق قبرص. وانتقل إلى لارنكا عبر طوافة بحرية، فرفضت السلطات القبرصية استقباله لأسباب أمنية فحطت طوافته بحراً في قاعدة أمريكية في المنطقة سافر منها إلى واشنطن حيث قابل أرباب القيادة الأمريكية، وعاد بنفس الطريق، ثم حط بواسطة طوافة في محطة الذوق للكهرباء في كسروان في مطلع صيف 1982» (ص 102). واللافت في الأمر (حسب الكاتب) أن بشير المتهم بالعلاقة الوثيقة بإسرائيل فضّل آنذاك عدم الذهاب إلى أمريكا عن طريق إسرائيل بل عن طريق قبرص.
ويضيف المؤلف «بعد زيارة بشير للولايات المتحدة ثم السعودية، وامتناع سركيس عن التمديد لسنتين، ترشح بشير للرئاسة وانتُخب رئيساً في المدرسة الحربية قرب المتحف في المنطقة التي تفصل بيروت الشرقية عن بيروت الغربية لإتاحة المجال للنواب من الجهتين المجيء والتصويت (قرار اختيار مكان التصويت اقترحه المؤلف) (ص105 ـ 104)». النصاب آنذاك كان مؤلفاً من 62 نائباً وقد أيد رئيس المجلس كامل الأسعد العملية برغم أن النظام السوري رفضها، وكان يفضل ترشيح العماد فيكتور خوري واختياره للرئاسة.
ويشير المؤلف إلى أن التنسيق بين مديرية المخابرات للجيش اللبناني والقوات اللبنانية لم ينجح في منع اغتيال بشير في 14 أيلول (سبتمبر) 1982. كما أنه بعد الاغتيال وخلال ساعات نفّذ جيش لبنان الجنوبي التابع لإسرائيل مجزرة صبرا وشاتيلا وأُلصقت التهمة بالقوات اللبنانية والكتائب كي لا تتحمل إسرائيل مسؤولية السماح لجيش لبنان الجنوبي بالدخول إلى مخيم صبرا وشاتيلا آنذاك مع أن قادة إسرائيل كانوا على معرفة بأدق الأمور بما يجري» (ص 108) وخصوصاً لوجود بعضهم في لبنان شارون وايتان، على مقربة من المخيمين الذين حدثت فيهما المجازر.
في الفصل الخامس من الكتاب، يوضح حروق الذي كان من قادة الجيش اللبناني الذين كانوا يتشاورون مع قيادات الجيش السوري، كيف كان يجب أن تكون علاقة نظام حافظ الأسد مع قيادات لبنان ولكنها فعلت عكسه وماشتها الجهات اللبنانية التي تعاملت معها.
يقول في هذا المجال: «برأيي إننا قد تمادينا كثيراً في العلاقة مع الأخوة السوريين الذين لم يهضموا يوماً أن يكون القطر اللبناني حسب ما يسمونه مستقلاً وان يكون فيه رجال لا ينفذون رغباتهم أو أوامرهم». ويضيف: «الأمور كان يجب أن تكون أفضل من ذلك. هل يعقل ان تُحجب مثلاً عن رئيس الجمهورية معلومات قد يستفيد منها لأخذ قرارات سياسية؟ هل يعقل أن يتم التنصت على فخامة الرئيس وعائلته وعلى المفتش العام في الجيش اللبناني؟ أنا من المسؤولين الذين عاصروا عهدي الرئيس الياس سركيس والرئيس الياس الهراوي. الرئيس الهراوي كان مقرباً جداً من السوريين، وكلا الرئيسيين لم يسيئا التعامل مع السوريين، لكن في عهد الهراوي استباح بداية السوريون كل أجهزة الدولة متكلين على بعض الضباط الأمنيين الذين حازوا على امتيازات أنستهم وطنيتهم وقسمهم… البلد حالياً بحاجة لرؤساء ينهضون بالوطن اللبناني، وعلى اللبنانيين أن يفهموا بأن الدولة هي الوحيدة التي يمكنها أن تحمي الجميع. العلاقة مع سوريا كان يجب أن تكون من الند إلى الند وليس على حساب الكرامة اللبنانية» (ص 188). وفي الفصل السابع، يشير الكاتب إلى أن رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري نقله مع ضابطين في الاستخبارات اللبنانية إلى مكان إقامة خاص له في مدينة دوردان الفرنسية ليعطوا مشورتهم حول نصوص اتفاق الطائف الذي كان يتم وضعه هناك لكونهم من العسكريين المقربين من الرئيس الهراوي. وكان بين المشاركين في هذه العملية المسؤول السياسي الراحل سمير فرنجية ومدير المخابرات السابق في لبنان جوني عبدو والرئيس رفيق الحريري، وأن التركيز كان على ضرورة إيجاد روحية جديدة متكاملة للدستور اللبناني والعلاقة بين الطوائف في لبنان.
ويشير المؤلف حروق قائلاً: «لم أكن لأوافق على ما اتُفِق عليه في مقر إقامة الرئيس رفيق الحريري في دوردان لو عرفت بان اللبنانيين الشيعة والسنّة سيصبحون خلال السنوات الأخيرة أول المستفيدين من اتفاق الطائف، وأن الموارنة والمسيحيين اللبنانيين سيصبحون أول الخاسرين بسببه، نجاح أي اتفاق مثل اتفاق الطائف يلزم وجود ما يشبه قادة كبشير الجميل أو كرفيق الحريري في قيادة الدولة، فريق دوردان راهن على تفاهم السلطات لمصلحة لبنان وليس اقتتالها طائفياً حول المناصب ضمن المحاصصة. ان سوء تطبيق اتفاق الطائف تم من قِبل الجميع وكان النظام السوري المستفيد الأول من الطائف (ص 242)».
العميد الركن ميشال حروق: «أسرار وحقائق في خدمة وطني»
دار سائر المشرق جديدة المتن / لبنان 2025
288 صفحة.