“اللهم أغثنا”… صرخة من تحت الركام: حين تسقط العدالة وتعلو لغة القوة

“اللهم أغثنا”… صرخة من تحت الركام: حين تسقط العدالة وتعلو لغة القوة
بقلم رئيس التحرير
في خطابٍ قصير لكنه بالغ التأثير، قال الرئيس الفلسطيني محمود عباس أمام مجلس الوزراء الفلسطيني، وهو يرفع يديه نحو السماء:
“اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا… شعبنا يموت جوعًا، لا دواء ولا غذاء، والعالم يتفرج، ولا من مجيب”.
لم يكن هذا مجرد دعاء عابر، بل صرخة مدوية تحمل معاني الهزيمة الأخلاقية للمنظومة الدولية. في لحظة تجرد من كل أدوات السلطة واللغة الدبلوماسية، اختار الرئيس أن يتحدث بلغة الإنسان، نيابة عن شعب يُذبح ويُجوّع ويُقصف على مرأى من العالم.
أولاً: الخطاب في مضمونه… انكسار السياسة أمام إنسانية الجوع
عبارة “اللهم أغثنا” لا تُقرأ فقط بوصفها دعاءً روحياً، بل كبيان سياسي عميق يلخص العجز الفلسطيني الرسمي والدولي أمام ماكينة الحرب الإسرائيلية، ويفضح التواطؤ الإقليمي والدولي، حيث:
المساعدات محتجزة، والمعابر مغلقة، والمجاعة تضرب شمال القطاع بقسوة.
المستشفيات بلا كهرباء، والمرضى يموتون بالعشرات يوميًا.
الأمم المتحدة تحذر من انهيار شامل، فيما يكتفي مجلس الأمن بـ”القلق العميق”.
في ذات الخطاب، قال الرئيس:
“هل يُعقل أن يبقى أكثر من مليوني إنسان محاصرين تحت القصف والتجويع؟! إلى متى هذا الصمت؟!”.
إنه تساؤل أخلاقي، لكنه في جوهره اتهامٌ صريح للمجتمع الدولي بالتقصير الممنهج والخذلان التاريخي.
ثانيًا: الانهيار الأخلاقي لمنظومة العدالة الدولية
يأتي الخطاب في ظل فشلٍ متكرر في تنفيذ قرارات مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية. وعلى سبيل المثال:
في 26 يناير 2024، أصدرت محكمة العدل الدولية قرارًا أوليًا في قضية الفصل العنصري والإبادة الجماعية، وطلبت من إسرائيل “اتخاذ كل الإجراءات لمنع الإبادة ضد سكان غزة”، لكنها لم تلتزم.
تنص اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948 على أنه:
“يجب على الدول اتخاذ التدابير لمنع الإبادة ومعاقبة مرتكبيها، سواء كانوا حكاماً أو موظفين عامين.”
ورغم ذلك، تستمر إسرائيل في قصف المدارس، وتدمير المخابز، وقصف المستشفيات، بما يمثل انتهاكًا صارخًا لاتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، وخاصة الاتفاقية الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب.
ثالثًا: الإفلات من العقاب وازدواجية المعايير
الرئيس عباس لم يسمِّ داعمي إسرائيل بشكل مباشر، لكنه أشار ضمناً في خطابه إلى:
“قوى كبرى تُمعن في الانحياز، تمنع عنّا العدالة، وتسلّح من يقتلنا.”
ويأتي ذلك في ظل تزويد إسرائيل بالسلاح والذخائر من دول مثل الولايات المتحدة، رغم تحذيرات خبراء حقوق الإنسان بأن:
“أي دولة تواصل تصدير السلاح لإسرائيل تُعتبر شريكًا قانونيًا محتملاً في ارتكاب جرائم حرب.” (بحسب آراء خبراء الأمم المتحدة في مارس 2024).
بل إن التقارير تؤكد أن:
إسرائيل أسقطت في غزة أكثر من 70 ألف طن من المتفجرات.
معدل القتلى من الأطفال تجاوز 15 ألفًا، بحسب تقارير اليونيسف.
رابعًا: من يستجيب للنداء؟ الشعب وحده في الميدان
خطاب “اللهم أغثنا” حمّل الجميع المسؤولية، من الحكومات العربية والإسلامية إلى المجتمع الدولي، وفي ذلك قال الرئيس:
“نحن لا نطلب سلاحاً، بل نطلب أن يُسمح لنا بإدخال الطحين، أن نُنقذ طفلًا من الموت جوعًا، هذا كل ما نريد.”
وهذا الخطاب يذكّرنا بالحق الإنساني الأساسي المنصوص عليه في:
المادة 11 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية:
“لكل فرد حق في مستوى معيشي كافٍ له ولأسرته، يشمل الغذاء، والملبس، والمسكن…”
ولكن، حين تُمنع شاحنات الإغاثة من الوصول، وتُستهدف طواقم الإسعاف، ويُفرض التجويع كسلاح، فإننا أمام نظام دولي فقد شرعيته الأخلاقية بالكامل.
ونختم بالقول حين تسقط العدالة، وتبقى الكلمة سلاحًا
في ظل هذا الواقع القاتم، لا تُصبح الكلمات ترفًا بل وسيلة بقاء. خطاب “اللهم أغثنا” هو بيان سياسي وإنساني، يُدين الصمت، ويُحاكم العالم، ويُذكّر الشعوب بأن شعب فلسطين لم يعد يطلب نصراً، بل إغاثة من المجاعة.
إننا اليوم في لحظة سقوط كبرى للعدالة، حيث يتحوّل مجلس الأمن إلى منصة للعجز، والمحاكم الدولية إلى أوراق مؤجلة، وتُصبح القوة لا القانون هي التي تكتب المصير.
لكن هذا الصوت، مهما كان محاطًا بالركام، يبقى شاهدًا على أن الحق لا يموت، وأن صرخة واحدة من تحت الرماد قد تفضح ألف مجرم على منصة القرار.