منوعات

«أربعون حجراً من ركام الضاحية» عرض مسرحي وتشارك الزعل والفقد والحداد والأمل هاشم هاشم: أسطورة الخلق تعيد ولادة الكون من الدمار الشامل…وعناصر الطبيعة تشكّل جزءاً من الصمود

«أربعون حجراً من ركام الضاحية» عرض مسرحي وتشارك الزعل والفقد والحداد والأمل هاشم هاشم: أسطورة الخلق تعيد ولادة الكون من الدمار الشامل…وعناصر الطبيعة تشكّل جزءاً من الصمود

زهرة مرعي

بيروت ـ حين بلغت سردية هاشم هاشم بيت عمته في الليلكي وتجاوزها الزمن ليقفز إلى الحاضر، ظهر أحمد «إبن عمته» ببطولاته. للتو حضر محمود درويش يخاطبه «يا أحمدُ العربيُّ.. قاوِمْ! قاوم أحمد الليلكي بتر المحلقة ليده.. ومن ثمّ ساقه، ورفض إسعافه، فجروح رفاق الخطوط الأمامية، أولى، قال للمسعفين. ومضى أحمد «المولود من حجر وزعتر» مردداً لا..لا..لا.
العرض المسرحي «أربعون حجراً من ركام الضاحية» تدلّت في مسرح زقاق، محاطة بجمهور يُنصت ليكتشف التعبير المسرحي السريع لحالة ما تزال حية ومتكررة. فالكاتب والمخرج هاشم هاشم وجد اللحظة مناسبة للإفراج عن رؤيته المسرحية. نحن الذين نعاني العدوان الصهيوني منذ بدء مشروعه الاستعماري، وصار الانتقال والتهجير سمة شعوبنا.
بحثاً عن معنى الأرض وأهميتها في حياة البشر راح المخرج إلى أسطورة «الخلق» البابلية وآلهة الأرض والماء العذبة، فشدّ عصب عرضه. ومعها عشبة الطيون ودوراً مميزاً للساحرة. وإن هي أفتت «ما فيش رجعة.. الطريق مجروفة» كان لمردوخ حفيد الإلهة تيمات أن يصنع من جسدها الأمل، وكأنه يضع نقطة على السطر ليفتح صفحة ما بعد الأربعين وانفكاك الحداد.
«أربعون حجراً من ركام الضاحية» عرض يستحوذ على الحواس، وأثره لا يمحى سريعاً. مرثية أبعد من شخصية، وأوسع من مكان، تخطى الضاحية وجنوب لبنان، إلى أمة منكوبة بكاملها نظراً بوحش استعماري صهيوني.
مع الكاتب والممثل والمخرج هاشم هاشم هذا الحوار:
○ ركام الضاحية وصل إلى الكرنتينا وتدلّى كثريات حديثة. تعبيرك سريع. كان الأذى الصهيوني بليغاً؟
• جرحنا من الأذى الصهيوني لم يبدأ من لبنان، بل من حرب الإبادة على غزّة. تراكم التكوين العاطفي والفكري للعرض من حينها. بدأت صياغة النص وإنضاج الفكرة قبل وقف النار في شهر تشرين الثاني/نوفمبر. كنت ما أزال احتفظ بداخلي بمخزون كبير من الغضب والألم انطلاقاً من غزّة ووصولاً إلى الضاحية الجنوبية، والبقاع وجنوب لبنان، وكل مكان استهدفته الغارات وتكوّم فيه الركام.
○ استرجعت محطات من حياتك بدءاً من الطفولة كأننا نبحث عن الأمان في خرم الإبرة. إنها تراكمات سنوات عمرك الفتي؟
• في جزء كبير من العرض هو تراكم القهر، ركزت على دائرية الزمن في منطقتنا. تتوالى الأجيال، والمأساة نفسها، سواء كانت داخلية في بلداننا مع حكوماتنا الفاسدة، العنيفة والقمعية، أو ما تخلفه الاعتداءات الصهيونية واحتلالها لأراضينا. وفي الوقت عينه أردت خلق مساحة لنتشارك معاً هذا الزعل، خاصة وأننا في مجتمعات تحدُّ من عيش مشاعر الحداد كاملة وبحرّية. يُقمع التعبير الصادق لصالح إظهار القوة والصمود، الصمود لن يمحو مشاعر الزعل وعيش الحداد، بل أن نكون معاً، وأن نستعيد الحدث المؤلم، أن نترك لمشاعرنا حريتها، وأن نعزّي بعضنا ونتضامن، هذا شكلٌ أساسي من أشكال الصمود.
○ جمعت بين الملح والماء والأعشاب في إطار أسطوري. هل في ذلك اتكاء على قوة ما نستعين بها كبشر على القوة الغاشمة؟
• تتميز منطقتنا بطبيعة أحد عناصر الصمود والمقاومة، من تعاملنا مع الشجر وعناصر الطبيعة من ماء وملح ونار، إلى الصخر والركام والطيون، وكل عنصر استخدمته في العرض هو جزء من طبيعتنا الجمالية والعضوية، وهي جزء من صمودنا وطبيعتنا، سواء في لبنان أو فلسطين. نعرف كراهية الاحتلال الصهيوني للشجر والطبيعة، ودائما يخلّف التجريف والخراب، والمواد الكيميائية والفوسفور الأبيض. لدى الصهيوني رغبة جامحة بالحرق والتدمير. وبالمقابل نزداد تمسكاً بعناصر الطبيعة ونثابر على استخدامها، ليس في حياتنا فقط بل في الفن، وبإعادة الإعمار وبأي عمل نقوم به. لهذا استخدمت تلك العناصر، فكانت مصدر قوة، وأكدت أهميتها في حياتنا.
○ الإله «إبسو» ردد مراراً «كيف ندمّر من وهبناهم نحن الحياة». ماذا قصدت باللجوء إلى الآلهة؟
• أسطورة الخلق البابلية من أرضنا ومنطقتنا، ولم أكن أرغب بغيرها، مع تقديري الكبير للأساطير العالمية. الهدف من أسطورة الخلق من بلاد الرافدين، إعادة تأكيد مخزوننا التاريخي من دمار وإعادة للحياة، بل وتأكيد لدور الأمل أيضًا. فأسطورة الخلق هي إعادة ولادة الكون من الدمار الشامل. بعد حرب طويلة بين الآلهة كنّا حيال دمار فظيع، ورغم ذلك عاد إله الشمس «مردوخ» وخلق العالم من جسد جدته «تيامات» بعد موتها، وهذا ما نحتاجه وسط هذا الخراب والدمار واليأس.
○ استعادتك لمحطات من الألم والأسى والجرائم المرافقة لكل حضور صهيوني على أرضنا أثّرت بالحضور. لنتحدّث عن تفاعل الجمهور مع طاقتك؟
• كممثلين على المسرح نؤمن بأن ما نشعر به ونحسه، سوف يشعر به الجمهور ويحسّه. إذاً كنت أعيش طاقة هذا الحداد بدون أن اتسبّب بالأذى أو الجراح للجمهور، هو الذي يعيش تروما الحرب وما خلّفته من خسارات بشرية ودمار، فليس لنا إيذاءه مجاناً، بل علينا أن نسير به ومعه برحلةٍ حسّاسةٍ وفي الوقت عينه مؤثرة وعميقة، وأن نعيش مشاعر الخسارة والحداد، ونتضامن معاً في هذا المكان الذي جمعنا. حرصنا على طاقة الإداء أنا وشريكتي فاطمة مروة، بالإضافة إلى السينوغرافيا والضوء. السينوغرافيا ركام، وفيها ما يجذب العين، وجلوس الجمهور دائرياً أشعره بالأمان والإلفة. طاقتنا تضمنت الأمان والطمأنينة حيث تعمّدت الابتسام في بعض اللحظات. المؤدي الذي يشعر بالسلام الداخلي، سيعكسه على الجمهور، إلى جانب الإضاءة الرائعة لأنطونيلا رزق، والسينوغرافيا التي نفذتها بنفسي، كل ذلك أثمر هدوءاً عميقاً، وأبعد الحضور عن التوتر رغم المصاب الجلل الذي كنّا بصدده.
○ فاطمة مروة قرأت الغيب. هل هو جزء من إيماننا ومعتقداتنا في هذه المنطقة؟
• لعبت فاطمة أكثر من دور ليس فقط الساحرة بل أيضاً الكاهنة الكبرى الآتية من معبد بابلي لتخبرنا بأسطورة الخلق البابلية، ولتطمئننا بأنه بعد كل هذا الموت والدمار سيُخلق الكون من جديد. فمن شخصية الكاهنة الكبرى، تخيلنا بأنها كذلك تقرأ الغيب، وتعرف التاريخ، واختبارات كل منّا، لهذا حضرت كساحرة وكاهنة. أداء الكاهنة الكبرى متأثر بتقاليدنا، لدينا البصّارة والبرّاجة التي تتكلم البلدي، وتقرأ الفنجان والكف، وترتل وتغني الأناشيد الشعبية. استخدمنا العناصر المحلية للبصّارة والبرّاجة لتكون شخصية الكاهنة الكبرى قريبة من حاضرنا وليس مجرّد طيفٍ متخيّلٍ من زمنٍ سحيق.
○ البصّارة كانت حديثة لحدود صار فنجان القهوة شفّافا؟
• صحيح. أردناه زجاجياً يتماشى مع تقاليد شرب الشاي في الجنوب اللبناني. كسّرت الركام في بداية العرض وأذبته بالماء في هذا الكوب وشربته. أردتُ أن يرى الجمهور فعل شرب الركام بشفافيةٍ تامة، عوامل عدّة دفعت لهذا الاختيار.
○ كيف تمكّنت من الإحاطة بكافة تلك التفاصيل التي تترك أسئلة بدون شك لدى المتلقي؟ هل هو شغل فرد؟
• بالتأكيد يستغرق العرض المسرحي وقتاً لينضُج. تُكتب المسودة الأولى وتناقش مع الفريق، نقاشاتنا على مدى أشهر تُثمر نصاً يرضينا بعد الاقتراحات والتعديلات على المشاهد التمثيلية.
○ عرضك فيه رثاء حتى أغنية «ع الليلكي» المترافقة من الدبكة وضحكة صباح المجلجلة صارت موجعة. ماذا يقول لك هذا الاحساس؟
• بمكانه. هو تكنيك المفارقات. نقدّم مشهدية حزينة، وفي الخلفية يظهر تصميم صوتي بهيج. المفارقة بين حركة الجسم وما نراه أو نسمعه يولّد شعوراً عميقاً بالانجذاب والاهتمام بما يحدث أمامي. الخسارات الإنسانية تولّد الحزن والأسى والندب، هذا ما أردتُه مترافقاً مع أغنيةٍ فرحة. اخترت رثاء الشهيد أحمد ابن عمتي على وقع أغنية «ع الليلكي» للراحلة صباح، لأنها أغنية ترتبط بي وبعمتي التي سكنت الحي. اخترتُها لأداء المرثية بمرافقتها. رثاء لم يكن لأحمد وحده، بل للمختفين قسراً في لبنان وسوريا وأسرانا لدى المحتل، ولأجل الاختفاء كان الإطار فارغاً.
○ الأربعون عدٌ مفصلي في حياة البشر من الولادة إلى الجراحات المختلفة وكذلك الحداد. هل تعني بتمسية عرضك «أربعون حجراً من ركام الضاحية» انفكاك الحداد؟
• نعم وبالتحديد كما ذكرت، رقم تحكيه كافة الحضارات. أظهرت أبحاثي أنه تقليد فرعوني. تقول «فاطمة» خلال العرض بأن تحنيط الميت ينتهي في اليوم الأربعين، ومن ثمّ يصار لتكفينه. بإعتقادي أن الحضارة الفرعونية هي التي نشرته لدى سواها. أردت استعمال الرقم في تعداد الحجارة التي أتيت بها من ركام الضاحية الجنوبية، والهدف تسليط الضوء على معنى الأربعين المفصلي كما ذكرت، فكان هو عنوان العرض المسرحي.
○ وأنت تُعلن انتصار الفتى»مردوخ» هل قصدت الأمل أم الإصرار على المواجهة؟
• الأمل مرتبط بالإصرار على المواجهة، والإصرار على المواجهة مرتبط بالأمل. من يفقد الأمل يفقد جهوزية المواجهة. والعكس صحيح. إنها إحدى رسائل العرض الكامنة. فمهما كان العرض ثقيلاً، والدمار والظلام حالكاً، فإن إله الشمس يؤكد امكانية أن نخلق من العدم كوناً وعالماً جديداً. وكل خلق جديد يستدعي الصمود والأمل للمواجهة، وفقدان الأمل يصحّ وصفه بقول المفكر اللبناني الراحل مهدي عامل «اليأس خيانة». في معاركهم ضدنا يحاول الصهاينة أن نخسر الأمل، لن نمنحهم ما يريدون، ومن العدم سنخلق واقعاً أفضل لنا.
○ عندما يغادر المتفرج عرضك المسرحي ويسأل نفسه لماذا نحن هكذا؟ فماذا تكون قد زرعت بداخله؟
• سؤال مطروح على ناس منطقتنا منذ زمن بعيد، ولا يحتاجون لعرض مسرحي ليبادروا إليه. منذ الطفولة نسأل لماذا حياتنا صعبة بهذا المقدار؟ وهل بسبب الاستعمار الصهيوني، أم لوجود الحكومات والأنظمة المستبدة والفاشلة في منطقتنا؟ أجيال تتالي وتطرح السؤال نفسه نظراً لظروفها الصعبة. ولأن السؤال موجود منذ عقود تركني العرض المسرحي أفكر مع الجمهور ماذا نفعل بتلك الخسارات؟ عقدنا العزم على الأمل وعلى المواجهة. إنما السؤال عن شكل ذاك الأمل وتلك المواجهة؟ شخصياً اخترت الأمل والمواجهة بالفن والكتابة وكل ما أقوم به في حياتي. وكل من يطرح السؤال على نفسه سيجد جواباً، هو سؤال مطروح، بعرض مسرحي أم من دونه.
○ ماذا عن شريكتيك في العرض؟
• شاركتني في العرض الفنانة والمخرجة بترا سرحال، بالإخراج، وأنجزت دراماتوجيا العرض. وفاطمة مروة الممثلة والفنانة والمؤدية شاركتني بطولة الأداء. بعد إنجازي النص، بدأت التفكير في شكل فريق العمل، وكانت رغبة العمل مع بترا قائمة لكونها عملت على العطر والروائح والأعشاب، وعلاقتها مع الطبيعة وثيقة، ونحن متشابهان في التفكير والنظرة لما يدور حولنا. إذاً كنت أرغب بفريق متجانس ليحقق النجاح. بدأت قراءة النص والتحضير مع بترا، وفكّرت بمن ستتولى دور الكاهنة الكبرى، وللصدفة شاهدت عرضاً كانت فيه فاطمة مروة، جذبني تعبيرها وطاقتها وحضورها، وشعرت فورًا بأنها ستؤدي الدور. قرأَت النص ووافقت، وبدأنا العمل كثلاثي. ومشكور مسرح زقاق لإيجاده مساحة يومين للعرض في مدى زمني قصير. أصريت على تقديمه سريعًا، فالأسئلة مطروحة راهناً وليس لي الانتظار. ونفذت انطونيلاّ رزق إضاءة رائعة أظهرَت جماليّة السينوغرافيا وأضافت إليها، وشاركتنا في هندسة الصوت كارول أبي غانم.
○ وهل تسعى لعروض في مسارح أخرى؟
• بالطبع. وسأبحث في المشاركة بمهرجانات داخلية وخارجية، وفي مسارح لبنانية أخرى. والتمويل سيبقى سؤالاً. أنتجت بنفسي عرضي زقاق بالتعاون مع صديقة. نحن أمام انطلاقة عروض «أربعون حجراً من ركام الضاحية»، وليس في نهايته.
○ بطاقة تعريف بهاشم هاشم. قرأت بأنك تكتب الشعر؟
• أنا كاتب ومخرج مسرحيّ ومؤدّي مقيم في لبنان، الشعر هوايتي. سبق وقدّمت مسرحية «سارق الشمس» مع الفنان ألكسندر بوليكفيتش في مسرح زقاق العام الماضي. وقبلها عرض صولو من إخراج باتريسيا نمور «كم أني الشخص ذاته، كم أني شخص آخر» عام 2021. درست الإعلام في الجامعة اللبنانية، وأنجزتُ الماجستير في العلوم الاجتماعية والجندر في لندن.

تصوير: فيفيان جورج مطر.

«القدس العربي»:

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب