ثقافة وفنون

فن النحت في الأقصر… حرفة الأجداد يتوارثها الأحفاد

فن النحت في الأقصر… حرفة الأجداد يتوارثها الأحفاد

رامي فارس الهركي

تشتهر الأسواق المصرية القديمة بعرضها لنسخ مصغّرة من المنحوتات الفرعونية، التي تتسم بجمال لافت وتنوع لوني يعكس الحرفية العالية والدقة المتقنة التي اشتهر بها فنانو مصر القدماء. وتُعد هذه الأعمال انعكاساً للقطع الأصلية المعروضة في المتاحف والمعابد المصرية والعالمية المنتشرة على امتداد وادي النيل. ويُعتبر فن النحت الفرعوني من أعرق الفنون في التاريخ، إذ تعود جذوره إلى نحو 3000 عام قبل الميلاد. وتُعد تماثيل مثل تمثال أبو الهول في الجيزة، وتماثيل معابد أبو سمبل في أسوان، شواهد بارزة على تطور هذا الفن عبر العصور الفرعونية المختلفة وحتى يومنا هذا.

أسواق الأقصر

عندما تزور الأقصر تشاهد الفنانين والعمال وهم منكبون على عملهم في صنع ونحت التماثيل، ولا تسمع في الأسواق المحلية سوى أصوات المطارق وماكينات القص والتعديل، تماثيل ومجسمات حجرية لملوك الفراعنة، أو تماثيل ذات طابع فرعوني من وحي الخيال. وما نراه في الأسواق السياحية في مدن مصر من منحوتات ما هو إلا نتاج هؤلاء الذين تميزت بهم مدينة الأقصر رغم قلة المردود المادي، والعمل الذي يقتصر على المواسم السياحية فقط، إلا أنهم يواظبون على مسيرة وإدامة هذا الفن منذ أجيال.

عوائل النحت في الأقصر

الكثير من الأشخاص في الأقصر يمتهنون النحت الفرعوني، حيث أكدوا أنها من الحرف المتوارثة القديمة في الأقصر، إذ تجد أغلب العوائل المعروفة تمارس هذه الحرفة، ومنهم نذكر عائلة المطاعنة المعروفة والمشهورة بفن النحت الفرعوني في الأقصر خاصة، والمدن المصرية الأخرى عامة.
هنا لقاء مع فنان النحت الفرعوني وابن الأقصر عمر الطيب محمد علي المطعني، الذي بدأ رحلته مع فن النحت وهو صغير، هو أحد أفراد عائلة المطاعنة المشهورة بفن النحت في الأقصر والمدن المصرية الأخرى.
يقول عمر، «بدأت رحلتي مع هذا الفن وأنا صغير، حيث إن آبائي وأجدادي كانوا يعملون في هذه الحرفة، فأنا انتمي إلى أقدم عائلة مشهورة في فن النحت الفرعوني وكنت أعمل منذ التاسعة من عمري». ويضيف «أعمل على صناعة ونحت الأحجار وتحويلها إلى قطع فرعونية جميلة ليأخذها بدوره أصحاب البازارات والمحلات المنتشرة في المدن السياحية والأثرية في مصر، وأحيانا أقوم بصنع قطع حسب الطلب، يطلبها مني السياح، أو بعض أصحاب المحال والمعارض والمكاتب، ولم أشارك حتى الآن في أي معارض محلية أو عالمية».

قطع فرعونية في علبة كبريت

*في مدينة الأقصر هنالك عوائل مشهورة في مهنة النحت الفرعوني، يتوارثونها منذ أجيال وأجيال، بدأت قصة النحت الفرعوني مع عائلة المطاعنة؟
ـ يواصل عمر قائلا: نحن عائلة مشهورة بالنحت الفرعوني وأول شخص نحات في العائلة كان الفنان عمر المطعني، وهو من نحت الجعران الفرعوني أيام الملكية، ومن بعده والعائلة تتوارث هذه الحرفة منذ عقود، نشأنا منذ الصغر على حب هذا الفن، ومنا من صار فنانا وأبدع في هذا المجال. تضم عائلة المطعني أيضاً فنانين بارعين في النحت الفرعوني، أعمالهم غاية في الروعة والجمال منهم، عمي شقيق والدي المتوفى سنة 2000 أحمد المطعني، الملقب بـ»أحمد أبو كلام» الذي وهب حياته لفن النحت الفرعوني، حيث عمل على أحجار الجرانيت والبازلت، وجميع الخامات الأخرى لدرجة أن المنحوتات التي صنعها عمي باتت منحوتات فريدة من نوعها، وتباع بأثمان باهظة، بل إن البعض ممن يملكون منحوتات «أحمد ابو الكلام» لا يرضون أن يبيعوها، لأن عمله كان لا يقبل الخطأ إطلاقاً وجميع أعماله كان يوقعها باسمه وهو معروف في مصر، خان الخليلي وأسوان والغردقة والإسكندرية والقاهرة، وليس في الأقصر فحسب، وهو أيضاً مبتكر عملية صب المنحوتات الفرعونية المستعملة حالياً في الأسواق والمحال السياحية،. كذلك والدي له باع طويل في فن النحت ويعد أحد أساتذة النحت الفرعوني ويلقب «حندقها المطعني» ولكنه تقاعد عن عمل النحت، بسبب السن كما تعلم، ولدي ابن عم والدي هو الفنان حسان فؤاد علي المطعني، اختص بصنع المنحوتات الفرعونية بجميع أنواعها، ولكن بالحجم الصغير جدا لدرجة أن باستطاعته وضع 100 قطعة نحت فرعوني في علبة كبريت واحدة كذلك له أعمال بالحجم الكبير تشهد له. أما عالمياً فقد حصل ابن عم والدي الآخر الفنان سيد المطعني، على دكتوراه شرفية من جامعة سيدني في أستراليا للنحت، فكما ترى نحن عائلة وهبت عمرها لهذا الفن العريق، الذي ما يزال متماسكاً كما كان منذ آلاف السنين بفضل جهود الأجداد والآباء ومن بعدهم الأبناء.
*ما هي القطع المطلوبة أكثر من غيرها؟
ـ نحن ـ فناني النحت الفرعوني ـ نقوم بنحت الأعمال، حسب رغبة الزبون والتاجر الذي يطلب، على سبيل المثال أحدهم يطلب تمثال الملك رمسيس جالسا، أو واقفا أو أي تمثال ملك فرعوني، فإذا كان يطلب الملك رمسيس أقوم بالاطلاع على صور الملك رمسيس، سواء الموجودة على جدران المعابد، أو في الوسائل الأخرى المتاحة، كي أقوم بعدها بنقل كل تفصيل موجود إلى قطعة الحجر التي أقوم بالرسم عليها ومن ثم أبدأ نحتها، وممكن أن أقوم بعمل تمثال من دون الإشارة إلى اي تفصيل تاريخي، وهذا الشي يعتمد على الحجر وطوله وعرضه».
*ما الفرق بين القطع الأصلية والمنحوتة حاليا؟
ـ إذا نظرت إلى القطعة الأصلية والتقليدية ستكتشف فروقات كثيرة، رغم أنهما من الحجر نفسه، من أهم الفروقات، الدقة، أولا القطعة الأصلية، الفنان المصري القديم الذي كان يعمل على قطعة معينة، كان يعمل عليها بدقة عالية جدا، ويستغرق العمل عليها عدة شهور، ربما تصل عشرة أشهر، وأحيانا سنة أو سنة ونصف السنة على الأقل، أما حاليا فإن القطعة قد تستغرق من شهر إلى أربعة أشهر على الأكثر، وكان الفنان القديم يعمل على كل تفصيلة على حدة من حيث المساحة والقياس والأبعاد، ولأجل بقاء مثل هذه القطع مقاومة للزمن، كان يستعمل حجرا صلبا وشديدا يمتاز بالصلابة والمقاومة للعوامل الجوية، مثل الرطوبة وغيرها، لذلك ترى جميع المقابر المصرية ظلت محافظة على منحوتاتها آلاف السنين، وهذا أحد أسرار مصر القديمة، التي لم يكشفها العلم حتى اللحظة، رغم التكنولوجيا والبحوث المستمرة. أما الفروقات الأخرى فهي كثيرة، أنا عن نفسي لا أستطيع نحت جميع التفاصيل الموجودة في القطعة الأصلية، مهما بذلت من جهد في أدق التفاصيل، لذلك تبقى القطعة الأصلية ذات جوهر وعظمة، لأن الفنان المصري القديم، حسبما نقلته القصص القديمة، كان يعمل أمام الملك، أي أنه يعمل على نحت الحجر، والملك جالس على عرشه يذهب ليأخذ قياس الذراع ثم يعود للحجر، أو ملامح الوجه والجسد هناك نسبة وتناسب في كل شي، الفنان المصري كان يستعمل العلم في فن النحت، العلم كان سلاح المصريين في كل شيء من التحنيط حتى بناء الأهرامات.
*عندما ترى قطعة أصلية تبهرك الألوان الجميلة المتماسكة رغم مرور آلاف السنين ما هي نوعية الألوان التي يستعملها الفنان المصري اليوم؟
ـ الالوان التي نستعملها ممكن تتغير بعوامل الزمن أو العوامل الجوية وهي ليست الألوان نفسها التي كان يستعملها المصريون القدماء، لأنها ألوان ثابتة وما تزال نوعيتها سرا من الأسرار المصرية القديمة، التي لم يكشف عنها حتى اللحظة، أما الألوان التي نستعملها نحن فكما قلت هي قابلة للتغير، وتعتمد على نوعية الحجر والفنان الذي يعمل عليه.
*ما أصعب أنواع الحجر المستعمل في النحت؟
ـ أصعب أنواع الحجر المستعمل في النحت ويحتاج إلى تعب شديد هو الجرانيت والكوارتز، حيث يأخذ العمل على هذين النوعين من الأحجار شهرا ونصف الشهر أو أكثر من ذلك، لأنك تواجه صعوبة في التقطيع أو تعديل الملامح أو الحفر وبالأخص إن كنت تعمل على تمثال.
*وما مصادر الأحجار في مصر؟
ـ مصادر أحجار الجرانيت والكوارتز متعددة ومتنوعة في مصر، ولكن أنظف حجر تجده في أسوان وهي مشهورة به، هو حجر الكوارتز والجرانيت والدبل بلاك والجرانيت الوردي ومن مميزات حجر أسوان، هو تطابقه مع الحجر الفرعوني الذي كان يستعمله الفنان المصري القديم، وهناك مصادر أخرى للحجر مثل القاهرة والمدن الساحلية ولكن تبقى أسوان هي مصدر الحجر الذي يعتمده جميع فناني النحت الفرعوني في مصر.
أغلى وأصعب أنواع الأحجار ما هي؟
ـ الأحجار كثيرة ومتعددة، لكن الأغلى والأصعب من حيث العمل والثمن هو حجر الديوريت، وهذا الحجر نادر وصعب العثور عليه، يأتي في المرتبة الأولى حجر الكوارتز وهو حجر صلب جدا وصعب من حيث العمل ويستهلك كمية أدوات كبيرة، في المرتبة الثانية يأتي الجرانيت وأنواعه، الجرانيت الوردي، دبل بلاك، في الثالثة يأتي البازلت القديم والبازلت الجديد، وفي المرحلة الخامسة يأتي حجر الجير، وفي السادسة حجر الهمر، وهناك أحجار تعتبر أصعب من حجر الجير ومن الهمر هو حجر اللابستر وحجر المرمر. أما الأدوات المستعملة مع تلك الأنواع من الأحجار، حجر الكوارتز والجرانيت والبازلت، فيتم التعامل معها عن طريق الأدوات الكهربائية أما أحجار الهمر والجير فيتم التعامل معها عن طريق المبرد والريشة والإزميل أي الأدوات اليدوية.
*وكيف يتم تقدير ثمن القطع المنحوتة يدويا؟
ـ تقدير الثمن يعتمد على الأدوات المستعملة والخاصة بنوع الحجر، فمثلا حجر الجرانيت يحتاج إلى أدوات دائما ما تكون مكلفة وغالية الثمن، بالإضافة إلى الجهد البدني والذهني في نحت تفاصيل القطعة والوقت المبذول، ويعتمد أيضاً على الزبون أو التاجر، إذا كان يطلب قطعة ذات دقة عالية سيكون الثمن غاليا بالتأكيد، أما إن كانت قطعة عادية فسيكون السعر رخيصا، يعني بالمجمل سعر نحت قطعة فرعونية يعتمد على عدة أمور منها نوعية الحجر والأدوات المستعملة والجهد ورغبة الزبون.
*ما الذي يميز نحاتي الأقصر عن غيرهم من المدن الأخرى؟
ـ بالتأكيد هناك ما يميز فنان الأقصر عن بقية الفنانين في المدن المصرية الأخرى، هنا تجد طبيعة الأرض والمكان والحياة التي تساعد الفنان، أما في المدن المصرية الأخرى مثل الإسكندرية والفيوم والشرقية والقاهرة، حيث المصانع والمنشآت لا توجد المعابد ولا القبور ولا الجدران المنحوتة بطريقة عجيبة منذ آلاف السنين مثل الموجودة في الأقصر، أنت في الأقصر تمشي مسافة تجد أمامك معبدا أو مقبرة وهذا الشيء يخلق الإلهام لدى الفنان، بالإضافة إلى ذلك فإن الأقصر تعتمد في دخلها المعيشي على السياحة فقط».
*طموحك كفنان، إلى أي مدى ترغب في إيصال فن النحت الفرعوني؟
ـ طموحي أن أعمل على إيصال هذه الحرف للعالم أجمع، أن أعرّف العالم بمدى براعة الفنان المصري اليوم، كما كان بارعا منذ آلاف السنين، وأن أؤسس مدرسة كبيرة جداً للنحت الفرعوني، تكون موثقة في اليونسكو، مدرسة تجد فيها جميع أنواع الأحجار والأخشاب، وكل ما له علاقة بفن النحت الفرعوني، وأن تستقطب جميع فناني مصر والعالم، كما أتمنى إقامة معرض كبير لأعمال النحت الفرعوني، معرض يشارك فيه جميع فناني الأقصر ومصر وباقي البلدان.
*ما الفرق بين القطعة المنحوتة يدوياً والقطعة الصينية التي تباع لرخص ثمنها؟
ـ القطعة التي ينحتها الفنان المصري تكون من الحجر الصلب، أي خامتها من الحجر، سواء أكان حجر الكوارتز، أو الجرانيت أو الهامر، أو حجر الجير أو حجر البازلت، ويستخدم الفنان المصري أدواته الخاصة مثل المبرد والريشة والإزميل، حيث يعمل على النحت ليجسد على سبيل المثال، الجسم أو الذراع أو القدم أو الكتف أو الصدر، أما الوجه فيقوم تجسيده بأدوات صغيرة تكون حادة. أما المنحوتات الصينية التي تراها في الأسواق بكثرة فهي في الأساس ليست منحوتات معمولة يدوياً، بل هي عبارة عن خامات مثل، خامة «الكولة» وتكون صلبة بعد أن تجف أو خامة البروكسايد وغيرها من المواد، لتكون النتيجة عبارة عن عجينة لزجة مكونة من بعض الخامات يقوم بصبها على قالب مصنوع من الحجر لتأخذ الشكل الكامل، سواء ملامح الوجه أو الجسد أو الكتابات الهيروغليفية، يتركها فترة زمنية معينة ليصيرها تمثالا فرعونيا ويقوم بصبغها بمختلف الألوان وحسبما موجود في الصورة.

صحافي عراقي

صحافي عراقي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب