ملف أفارقة جنوب الصحراء في تونس: مقاربة صعبة تقتضي المراوحة ما بين الحقوقي والأمني

ملف أفارقة جنوب الصحراء في تونس: مقاربة صعبة تقتضي المراوحة ما بين الحقوقي والأمني
روعة قاسم
تونس ـ :الحدث الأبرز في تونس هذه الأيام هو ملف مهاجري أفريقيا جنوب الصحراء، الذي خلق الكثير من الجدل والتجاذبات في المشهد السياسي والإعلامي، وخلق أيضا حالة من القلق في صفوف المواطنين. فالكثير من هؤلاء القادمين من وراء الصحراء الكبرى الأفريقية بطريقة غير نظامية تورطوا في جرائم حق عام استهدفت مواطنين وممتلكات وتسببت في حالة من الغضب والغليان على المستوى الشعبي وصدرت دعوات للسلطة للتعامل بحزم مع هذا الملف. في حين عبرت عديد المنظمات الحقوقية عن إدانتها للخطاب التحريضي والعنصري ضدّ المهاجرين الصادر عن بعض النواب، ودعت إلى وقف جميع أشكال العنف والتمييز ضد المهاجرين في تونس، معربة عن تضامنها معهم، بغض النظر عن أوضاعهم القانونية أو خلفياتهم الثقافية والاجتماعية.
تخفيف الضغط
وتقوم الدولة التونسية في الوقت الراهن بنقلهم من أماكن إلى أماكن أخرى لتخفيف الضغط على المواطنين في بعض المناطق وخصوصا منطقتي العامرة وجبنيانة التابعتين لولاية صفاقس أين تكثر غابات الزيتون، وأين يترصد المهاجرون الفرصة للركوب بحرا إلى جزيرة لامبيدوزا الإيطالية. وقامت السلطات مؤخرا بترحيلهم من أراض خاصة على ملك مواطنين إلى أراض على ملك الدولة وجهزت لهم مخيمات جديدة بدا أنها لائقة مقارنة بالمخيمات العشوائية التي نصبوها في أراضي الزياتين بمنطقتي العامرة وجبنيانة على وجه الخصوص.
وتتوجه أصابع الإتهام في هذا الملف بالأساس للدولة التي يتهمها البعض بتركيز جهودها على حماية الحدود البحرية مع إيطاليا لمنع تدفق الأفارقة من جنوب الصحراء على أوروبا تنفيذا لمذكرة تفاهم أبرمت مع إيطاليا والأوروبيين في سنة 2023، وعدم إيلاء الحدود البرية مع كل من الجزائر وليبيا، التي يتدفق منها العدد الأكبر لمهاجري جنوب الصحراء، الاهتمام اللازم. فكانت النتيجة، برأي هؤلاء، واعتبارا لهذه السياسة الخاطئة، تدفق الكثير من أفارقة جنوب الصحراء إلى تونس عبر الجزائر وليبيا وعدم تمكنهم من العبور إلى إيطاليا واضطرارهم للاستقرار بالأراضي التونسية في انتظار أن تسنح لهم الفرصة للعبور خلسة إلى القارة العجوز.
كما يحمّل الكثير من التونسيين جزءا من مسؤولية ما طال بلدهم من هذا التدفق غير المسبوق للمهاجرين من قارتهم السمراء إلى دولتي الجوار باعتبار أن تونس لا تمتلك حدودا مع بلدان جنوب الصحراء. وتم تداول مقاطع فيديو في مواقع التواصل تؤكد دخول المهاجرين من الحدود البرية لدول الجوار في حين تعاني الدولة الأخرى من عدم الاستقرار وليس بامكانها ضبط حدودها البرية.
قلق حقوقي
أعربت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في بيانيها الأخيرين، عن قلقها الذي وصف بـ«البالغ» إزاء التطورات التي وصفتها بـ«الخطيرة»، التي يشهدها ملف المهاجرين من دول أفريقيا جنوب الصحراء. وأكدت المنظمة الحقوقية التونسية على أن مهاجري جنوب الصحراء يتعرضون لاعتداءات وانتهاكات متزايدة تهدد حياتهم وكرامتهم على حد تعبيرها، ما يُفاقم برأيها من معاناتهم في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها البلاد.
وناشدت الرابطة السلطات التونسية بـ«تبني سياسات مسؤولة توازن بين حماية حقوق الإنسان والحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، بعيدًا عن أي حسابات سياسية أو خطاب شعبوي أو تحريض عنصري». كما دعت الرابطة إلى وضع سياسات هجرة عادلة وإنسانية تضمن سلامة المهاجرين وتضمن احترام حقوقهم، مع مراعاة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها البلاد، ومع وجوب قيام الدولة بتطوير آليات قانونية لتنظيم الهجرة وفقًا للالتزامات والمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان.
وطالبت الرابطة بوقف كافة أشكال العنف والإساءة والممارسات التمييزية ضد المهاجرين، محملة السلطات التونسية المسؤولية الكاملة عن تفاقم الأزمة بسبب خياراتها التي وصفتها بـ«الفاشلة» في التعاطي مع ملف الهجرة، وهو ما تسبب برأيها في انعكاسات سلبية على المهاجرين والمجتمع التونسي على حد سواء. كما أعربت الرابطة عن إدانتها الشديدة لما أسمته «العنصرية المؤسساتية» والخطاب الذي وصفته بأنه «تحريضي» والصادر عن بعض النواب، وأكدت على أن هذا الخطاب التحريضي يتنافى مع مبادئ الديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان.
وشددّت الرابطة في بيانها على أن «مقاربة أزمة الهجرة غير النظامية من منظور أمني قمعي أو خطاب تحريضي عنصري، لن تحل الأزمة، بل ستزيدها تعقيدا». وأشارت إلى أن بعض سكان المناطق المحلية، خاصة في منطقة العامرة من ولاية صفاقس، يعانون بدورهم من تدهور أوضاعهم وعدم قدرتهم على استغلال أراضيهم، ما يعكس برأيها فشل السياسات المتبعة في إدارة هذا الملف.
ودعت الرابطة التي عرفت فيما مضى بصدامها مع نظام بن علي إلى ضرورة تبني سياسات وطنية تونسية تتعلق بالهجرة تكون حسب تعبيرها شاملة وتحترم القوانين التونسية الضامنة لحقوق الإنسان. كما دعت إلى أن تحترم هذه السياسات المعاهدات الدولية التي صادقت عليها تونس وأن تكون حامية لحقوق الإنسان وضامنة للتوازن والسلم الاجتماعي، على حد تعبير بيانها.
جدل واسع
وأثار بيان الرابطة جدلا واسعا لدى البعض خاصة وأنها لم تتعرض لمسألة التونسيين الذين يتم ترحيلهم قسرا من البلدان الأوروبية. وهو ما جعلها تتدارك هذا الأمر في بيانها الموالي. حيث عبّرت الرابطة في البيان الأخير عن استيائها الشديد من المعاملة السيئة والاعتداءات بالعنف المادي والمعنوي على المهاجرين التونسيين غير النظاميين، من قبل قوات الأمن في عدد من الدول الأوروبية، وذلك أثناء احتجازهم غير القانوني أو ترحيلهم القسري، وذلك في انتهاك صارخ للاتفاقات الدولية لحقوق الإنسان، خاصة اتفاقية جنيف المتعلقة بوضع اللاجئين والاتفاقيةُ الأوروبية لحقوق الإنسان.
ودعت الرابطة إلى توفير الدعم القانوني والقضائي للمهاجرين التونسيين الذين يواجهون قرارات الترحيل القسري مع مراجعة الاتفاقات الثنائية ومتعددة الأطراف التي أبرمتها الدولة التونسية وذلك وفق مقتضيات السيادة الوطنية. وطالبت السلطات التونسية بالتحرك العاجل للدفاع عن حقوق المهاجرين التونسيين وحرياتهم ومنها حريةُ التنقل بالخارج، مع اتخاذ الإجراءات الدبلوماسية اللازمة لحمايتهم، وفتح قنوات حوار مع الدول الأوروبية المعنية، لحماية حقوقهم وفقا للقوانين والمعاهدات الدولية.
بين الحقوقي والأمني
أدت صدامات مسلحة بمخيمات العامرة حصلت بين أفارقة جنوب الصحراء فيما بينهم وسط الأسبوع المنقضي إلى حالة وفاة وإلى سقوط عدد من الجرحى. واعتبر البعض أن أعمال العنف تلك متوقعة وغير مفاجئة بل هي تأكيد لما تم التنبيه إليه سابقا. فالمخيمات بحسب مصطفى عبد الكبير رئيس المرصد التونسي لحقوق الإنسان في تصريحه لـ«القدس العربي»، تم نصبها بطريقة عشوائية تفتقد لأبسط مقومات السلامة والحماية وتوخي المخاطر ومع تأخر الدولة في وضع خطة استراتيجية للتصرف في الهجرة واللجوء وفي بعث هيئة وطنية للإشراف على إدارة الملف حصلت الكارثة.
واعتبر عبد الكبير أن هناك إصرارا على اعتماد حلول غير واقعية في ملف الهجرة واللجوء وأن المعالجة الحينية للملف بالطريقة التي حصلت بها هي تقدم على طريق مسدود مما أدام الفوضى وراكم المشكلات. فالإصرار على اعتماد مقاربة أمنية وعدم اعتماد مقاربات تشاركية تجعل من كل الأطراف من منظمات دولية ودول المنشأ (دول جنوب الصحراء وغيرها) ومجتمع دولي ومنظمات وطنية والمهاجرين وكل الوافدين المعنيين بهذا التدخل تتحمل مسؤولياتها، ما فاقم المشكلة.
ويرى رئيس مرصد حقوق الإنسان أن المقاربات الواقعية هي وحدها الكفيلة بوضع خطة عملية تكون بداية المعالجة الحقيقية لملف إنساني بامتياز في الأصل، وتداخلت فيه السياسة بسبب إرادة دولية تكون فيها الدول الفقيرة والضعيفة ضحية. ويعتقد عبد الكبير أننا لم نعد بحاجة لإضاعة مزيد من الوقت وأن ذلك لن يزيد قواتنا الأمنية والعسكرية إلا إنهاكا.
كما يؤكد عبد الكبير على أن عملية التدفق للمهاجرين على تونس من الجزائر وليبيا ما زالت متواصلة وهذه الوفاة التي تم تسجيلها ليست الأولى لمهاجر غير نظامي على الأراضي التونسية. ويرى أن تونس بحاجة إلى مقاربة واقعية قابلة للتطبيق يتم الإنطلاق فيها من الآن ومن دون إضاعة للوقت حتى وإن كانت أعداد المهاجرين غير كبيرة لأن من يجد حلا لفرد سيجد حلا لأفراد في المستقبل. ويرى أن الحل يكمن في وضع خطة وتصور واقعي يقوم على ضمان كرامة الإنسان على أراضيه والحفاظ على صورة تونس المعتادة لدى المجتمع الدولي والإنساني.
تنامي العنف
من جهته، يؤكد الكاتب والباحث في علم الاجتماع هشام الحاجي في حديثه لـ«القدس العربي» على أن تونس لم تضق ذرعا باللاجئين عبر تاريخها وكانت أرض لجوء وهجرة منذ أقدم العصور، ولم ينظر شعبها إلى ديانة أو إلى لون أو إلى جنسية عندما كان يستقبل المستجيرين به، وأحسن وفادة الجميع بما في ذلك جيرانه كلما مروا بأزمة عبر تاريخهم. لكن التونسيين اليوم، وبحسب الحاجي، يشعرون بحالة من القلق بسبب الأوضاع الاقتصادية والإجتماعية والسياسية الاستثنائية التي يعيشونها والتي تجعلهم غير قادرين على إيواء هذه الأعداد الكبيرة المتدفقة من أفريقيا جنوب الصحراء خاصة عبر التراب الجزائري.
ويضيف محدثنا قائلا: «ولعل ما يزيد من خشيتهم من أبناء قارتهم من سكان جنوب الصحراء هو تنامي العنف الصادر عن البعض من هؤلاء المهاجرين الذين احتلوا أراض فلاحية شيدوا فيها مساكن عشوائية وتورط الكثير منهم في سرقات واعتداءات بالعنف على مواطنين تونسيين بغاية سلب أموالهم وممتلكاتهم. وبالتالي فإن فكرة أن نسبة هامة من مهاجري جنوب الصحراء هم من الفارين من العدالة في بلدانهم ترسخت أكثر فأكثر مع تنامي النشاط الإجرامي لعدد لا بأس به من هؤلاء خصوصا بمنطقتي العامرة وجبنيانة من ولاية صفاقس جنوب شرقي البلاد.
كما أن سنوات الإرهاب الماضية التي ذاق فيها التونسيون ويلات هذه الآفة جعلت خشيتهم تتنامى وخوفهم على مصير بلدهم يتضاعف، ويتوجسون من فرضية أن يكون البعض من هؤلاء المهاجرين هم من المنتمين إلى جماعات تكفيرية تنشط في بلدان أفريقيا جنوب الصحراء».
ويعتبر محدثنا أنه رغم المخاوف المشروعة والمبالغ فيها أحيانا وجب احترام حقوق الإنسان في التعامل مع أفارقة جنوب الصحراء، ولا يمكن السماح بأي حال من الأحوال بأن تحصل انتهاكات بحقهم، فهم بالنهاية ضحايا الهيمنة الاستعمارية والحروب والنهب لثرواتهم من قبل حكام فاسدين خدم لأجندات المستعمرين السابقين. فمن ثبت ارتكابه لجرم مخالف لقوانين البلد وجب، بحسب الحاجي، أن يطبق عليه القانون، ومن لم يثبت ارتكابه لأي جرم لا يجب أخذه بذنب من ارتكبوا الجرائم وبالتالي وجب الامتناع عن وضع الجميع في سلة واحدة والنظر إليهم كمذنبين بحق تونس وشعبها.
احترام الحقوق وترسيخ الأمن
من جهتها ترى الناشطة الحقوقية آمنة الشابي أن أفضل الحلول لمعالجة هذه الأزمة في الوقت الراهن هو العمل على تأمين الحدود البرية مع دول الجوار. أما من هو متواجد اليوم على التراب التونسي من مواطني أفريقيا جنوب الصحراء، حسب الشابي، فيجب التعامل معه وفق الاتفاقيات والمعاهدات الدولية ذات الصلة التي صادقت عليها البلاد التونسية، ووجب أيضا احترام المواثيق المتعلقة بحقوق الإنسان.
وتضيف محدثتنا قائلة: «كما يمكن مساعدة كل من يرغب في العودة الطوعية إلى بلده في تحقيق مبتغاه وذلك بالتعاون مع المنظمات التي تُعنى بشؤون المهاجرين والتي لا تقوم فروعها الموجودة في تونس بواجبها على أكمل وجه. وبالتالي وجبت المراوحة بين حق المهاجرين في المعاملة الجيدة باعتبارهم بشرا قست عليهم الظروف في بلدانهم الأصلية ودفعتهم إلى الرحيل عن أوطانهم، وبين ضمان الأمن والاستقرار في البلاد وتطبيق القانون على المذنبين».
وتضيف: «فقد تم تسجيل شكايات في مناطق عديدة من مواطنين تونسيين تعرضوا لاعتداءات من أفارقة جنوب الصحراء وهو ما وضع الدولة أمام مسؤولياتها في تأمين حياة مواطنيها بدون المساس بالجانب الحقوقي المتمثل في حق المشتبه فيهم في محاكمة عادلة ومعاملة تحترم معايير حقوق الإنسان في كل مراحل التحقيق والبحث والاعتقال».
ملف شائك وحساس
أما الإعلامية لمياء الشريف فترى في حديثها لـ«القدس العربي» أن ملف مهاجري جنوب الصحراء شائك وحساس ومعقد ووجب تناوله من كل الجوانب مراعاة لمصالح الجميع وحتى لا يتم التعسف على أي طرف من الأطراف. فهناك حقوق وجب صونها لكل طرف، حسب محدثتنا، لكن أحيانا قد يمس صون حقوق هذا الطرف من حقوق ذاك الطرف، فنتحول من دون أن ندري إلى حماة للبعض ومتعسفين على البعض الآخر، ولذلك وجب الحذر في كل ما يقال وكل ما يتم القيام به.
وتضيف محدثتنا قائلة: «فالمعادلة صعبة وهناك خيط رفيع يفصل بين احترام حقوق الإنسان وبين فرض الانضباط والأمن، والدولة في تونس في موقف لا تحسد عليه ولا يوجد أي طرف يتمنى أن يتواجد في مكانها. فإذا تركت الدولة مهاجري جنوب الصحراء يعيشون بدون ضوابط احتراما لحقوق الإنسان والحريات واجهت انتقادات من المواطنين التونسيين وتم اتهامها بالتقصير في حمايتهم، وإذا تحركت وقامت بترحيل مهاجري جنوب الصحراء من مزارع وممتلكات المواطنين تعرضت لانتقادات شديدة من المنظمات الحقوقية التونسية والأجنبية على حد سواء».
«القدس العربي»