مقالات

تجدّد الحرب على «حزب الله»: التشاؤم أولى

تجدّد الحرب على «حزب الله»: التشاؤم أولى

وسام سعادة

انهار وقف إطلاق النار في قطاع غزة قبل شهر، من بعد شهرين على دخوله حيز التنفيذ. توخّت صيغة الاتفاق تصوراً من ثلاث مراحل. لم يجر تخطي المرحلة الأولى، إذ انفجر الوضع مجدّدا قبيل إتمامها. ذلك على خلفية «خطة ويتكوف» التي تطالب حماس بإطلاق نصف الرهائن مقابل تمديد الهدنة 50 يوماً، إنما دون التزام بإنهاء الحرب، الأمر الذي رفضته حركة حماس، فتجددت الحرب، ولاقى دونالد ترامب أعمال التدمير والتهجير المتواصل مرة في اتجاه شمال القطاع ومرة في اتجاه جنوبه بتجديد الحديث عن خطته لاقتلاع السكان من غزة واعتبارها بمثابة مآل حتمي لا رادّ له أو إفلات منه.
مصير وقف إطلاق النار الذي على أساسه «علّقت» حرب التدمير الإسرائيلية ضد لبنان، المتخذة بشكل أساسي آلية تطهير إثني ضد المناطق الشيعية منه، جاء أكثر التباساً.
بخلاف الاتفاق المنهار في غزة، والذي لم يتضمن آليات رقابية دولية، شمل الاتفاق المتعلق بلبنان آلية ثلاثية، بين اليونيفيل والجانبين اللبناني والإسرائيلي، مع إشراف أمريكي وفرنسي. لكن، سريعاً، ظهر خطل كل هذه الآلية، واعتمدت إسرائيل، بموافقة أمريكية، على قراءة مبتسرة للاتفاق بحيث تتحرك على الفور لضرب أي خرق من جانب «حزب الله» له، وفقاً لما ترتئيه، وشيئاً فشيئاً توسعت في الأمر بحيث أعطت لنفسها حق التدخل ليس فقط الفوري، بل أيضاً الاستباقي، ضد احتمال الخرق، وليس ضد الخرق العيني فحسب. بعد سقوط النظام الأسدي في سوريا، وتدمير إسرائيل لقطاعات الجيش السوري النظامي، وتوغلها في جبل الشيخ والجنوب السوري وصولا إلى ريف درعا، زادت عملية «حشو» اتفاق النار ما لم يتضمنه في الأساس، وضربت إسرائيل عرض الحائط الالتزام بالانسحاب من الجنوب.
في المقابل، الاتفاق في غزة اعتبر انتكاسة قوية لحكومة بنيامين نتنياهو، فزاد الضغط من على يمينها لمعاودة الحرب. كان هدف إسرائيل المعلن منذ اليوم التالي لهجمات 7 أكتوبر هو القضاء على الواقع العسكري والسلطوي لحركة حماس، وإذ بالاتفاق يظهر أن حماس استطاعت الاحتفاظ بحد أدنى من الوجود ومن القدرة على التفاوض والرفض والقبول. إنما كل هذا عزز لاحقاً من عملية الإطاحة الإسرائيلية بالاتفاق، وكان الهدف من خطة ويتكوف الى حد كبير تسويغ هذا الأمر، ليس إلا. ستحاول إسرائيل من الآن فصاعدا فرض واقع يستبعد أي هدنة جديدة في غزة لا ترتبط بتفكيك كامل لحركة حماس. ليس معنى هذا أن نجاحها حتمي على هذا الصعيد. إنما الكارثة الإنسانية في القطاع بعد عام ونصف على انطلاق الحرب ذات المنحى الإبادي هي العنصر المهيمن على كل المشهد.

هل يسع اللبنانيون اليوم الإفلات من هذا التخيير الجهنمي لهم، بين الحرب عليهم جميعاً، وبين حربهم مع بعضهم البعض للاحتماء من الحرب عليهم جميعاً؟ هل هو فعلا خيار بين شرّين؟

في المقابل، الاتفاق في نوفمبر الماضي جاء بطعم الهزيمة الواضحة بالنسبة إلى «حزب الله». وزاد الطين بلة مع اعتماد التفسير الإسرائيلي له، بما يجيز التحرك الفوري، ثم الاستباقي، ثم المتوسع جغرافيا، في اتجاه الضرب في العمق اللبناني مجددا. ومعه الضغط، بالتوازي، من الداخل اللبناني، لتحريك موضوع الحل النهائي لمسألة «سلاح» حزب الله. واليوم، لا تزال تلال جنوبية تحت الاحتلال الإسرائيلي، ولبنان ليس له من سبيل لاستعادة هذه الأراضي لا بالديبلوماسية ولا بالكفاح المسلح، وفي الوقت نفسه يصرّ المتحدثون على لسان الحزب على أنهم لن يسلموا السلاح، هذا في وقت يجري بالفعل تسليمه في منطقة جنوبي الليطاني، ويجري إتلافه من بعد تسليمه!
بالتوازي، إسرائيل كررت في الآونة الأخيرة التحذير من أن أي مواجهة شاملة جديدة مع لبنان ستقوم على قاعدة عدم التمييز بين مرافق ومؤسسات الدولة وبين «حزب الله».
يسير اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وبين حزب الله / لبنان بشكل مترنح منذ البداية. لكنه ما زال يتحاشى الانهيار الشامل على طريقة الاتفاق المتعلق بغزة. لا يعني ذلك أن الترنح يضمن نفسه من عدم التهاوي بالمحصلة وبشكل دراماتيكي في حرب جديدة. إسرائيل تضغط على الداخل اللبناني بقوة. لا داعي لركن موقفها في خانة الحرب النفسية فقط. هي فعلا تستعد لحرب جديدة إن لم يسلّم «حزب الله» بقية سلاحه. بالنسبة لها، الاتفاق يبدأ من جنوب الليطاني ويستكمل بالتصفية الشاملة لسلاح الحزب. «حزب الله» يعتبر أن كل مطالبة بنزع السلاح هي صدى لما تقوله إسرائيل. وهو ليس مخطئا في هذا. بالفعل هذا ما تقوله إسرائيل. هذا ما يقوله المسؤولون الأمريكيون. وهذا ما يمكنه بالفعل أن يؤدي إلى حرب جديدة في الأشهر القادمة، إن لم تكن المدة تحسب بالأسابيع. يبقى أن السؤال عما يمكن أن يفعله الحزب في المواجهة العتيدة ولم يفعله في التي سبقت هو سؤال وجيه، ومشروع، وضروري. على أي أساس أداء «حزب الله» في حرب جديدة، وفي ظل الظروف الحالية، وقد زادت تكبيله وإرهاقه، سيكون أكثر فعالية من دوره في الحرب السابقة؟ في المقابل، إسرائيل تريد أن يقوم اللبنانيون بما لم تفلح هي بالقيام به، من تفكيك نهائي وشامل لسلاح «حزب الله». وهذا مطلب كبير. كما لو أنها تخير اللبنانيين بين حرب شاملة تشملهم جميعاً هذه المرة، أي تضرب في البنية التحتية ومؤسسات ومرافق الدولة، وتراهن على تنامي التناقضات الإثنو-مجتمعية اللبنانية بعد الحرب الأخيرة ونتائجها، وبعد التحول السوري وانعكاساته، وبين أن يسبقها إلى كل هذا التصادم اللبناني الداخلي، فلا تضطر حينها، هي وأمريكا، لأكثر من التدخل المحدود، لمساعدة فريق ضد آخر، في سياق احترابي ليس من الممكن تقدير رقعته ومتى ينتهي حين يبدأ.
في الأساس سارع «حزب الله» أواخر نوفمبر الماضي لقبول الاتفاق، طمعاً في شراء الوقت، ولم يكن في باله وقتها أن النظام السوري سوف ينهار، ومعه خط الإمداد. لكن الحزب ما زال يدافع عن حقه في شراء الوقت، وطالما أن الحرب لم تندلع مجددا فليس هناك من بمستطاعه، من خارج حاضنته، أن يقنعه، بأن الوقت انتهى.
هل يسع اللبنانيون اليوم الإفلات من هذا التخيير الجهنمي لهم، بين الحرب عليهم جميعاً، وبين حربهم مع بعضهم البعض للاحتماء من الحرب عليهم جميعاً؟ هل هو فعلا خيار بين شرّين؟ أم أن هذا الشر يستدعي ذاك والعكس بالعكس؟ سحابة من التشاؤم قد تكون أصدق جواب حيال هذين السؤالين، رغم أن التسخين على الجبهة اللبنانية لا يخضع لكل هذه الاعتبارات الثنائية بين إسرائيل وحزب الله فقط، وإنما قبل كل شيء لمسار الأمور بين كل من أمريكا وإسرائيل من جهة، وإيران من جهة ثانية. ضمان «السكون التام» لجبهة لبنان عشية أي تصعيد محتمل مع إيران له، بشكل عام، الأولوية، على الاعتبارات المتعلقة بالعلاقة الصرف بين التأويلين المختلفين، لاتفاق وقف إطلاق النار، بين إسرائيل و«حزب الله». تجدد الحرب على لبنان بشكل شامل ليس حتمياً، هي التي لم تُعلّق من الأساس، لكن تجددها احتمال أخطر بكثير، وأكثر إلحاحاً بكثير، مما يروج له نفاته ومستبعدو حصوله.

كاتب وصحافي لبناني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب