فيلم «الفستان الأبيض»… حين يتمزق الحلم على أرصفة المدينة

فيلم «الفستان الأبيض»… حين يتمزق الحلم على أرصفة المدينة
فايزة هنداوي
القاهرة ـ في أولى تجاربها الإخراجية الطويلة، تقدّم المخرجة جيلان عوف فيلم «الفستان الأبيض» عبر قصة تبدو بسيطة على السطح، لكنها تخفي في عمقها أسئلة وجودية حول الهوية والأنوثة والطبقية، في مدينة قاسية مثل القاهرة.
الفيلم يبدأ من واقعة عابرة – تمزق فستان الزفاف – لكنه سرعان ما يتحوّل إلى رحلة داخل الذات، تكشف هشاشة الحلم، وتعرّي الزيف الذي يحيط بصورة المرأة والمجتمع.
«وردة»، فتاة من حي شعبي، يتمزق فستان زفافها قبل ساعات من مراسم الزواج. تنطلق بصحبة ابنة خالتها «بسمة» في رحلة عبر شوارع القاهرة للبحث عن بديل. لكن هذه الرحلة تتجاوز كونها مادية، لتتحول إلى رحلة وجودية تتكشف فيها ذات وردة، وتتعرى فيها أحلامها أمام واقع لا يرحم.
وردة، في هذه اللحظة، لا تبحث عن قطعة قماش بيضاء، بل عن موقع لها في عالم لا يعترف بهشاشة من يحلم. الفستان الذي تمزق كان يمثل الحلم، والانتقال، والرمز؛ ولكن ما تكشفه الرحلة هو أن الفستان الأبيض قد لا يكون منقذًا، بل قيدًا طبقيًا مغلفًا بالساتان.
رمز لانكسار الطبقة والذات
الفستان الأبيض، يفرض حضوره الرمزي الطاغي، تكتشف وردة من خلاله أن المدينة لا تحتفل بالمناسبات، بل تسحق من يحلم خارج حدود طبقته.
كل محطة من محطات البحث عن الفستان تكشف عن قيد طبقي لا يُرى بالعين، لكنه ينهش الروح. لم يعد الفستان معيارًا للفرح، بل علامة على الانتماء الطبقي، رمزًا لإقصاء الفقراء وجرحهم نفسيًا.
القاهرة كشخصية: بين الأعلى والأسفل
تجوب الكاميرا شوارع القاهرة، متنقلة بين نقيضين: أحياء راقية مضاءة بمحال الماركات اللامعة، حيث الفستان الأبيض متاح بلا مجهود، وأحياء فقيرة تضيق بأهلها، حيث يتحول الفستان إلى حلم بعيد المنال.
القاهرة لا تقف هنا كخلفية، بل تتحول إلى شخصية في الفيلم، تقسّم الأجساد والأحلام، وتعاقب من يحلم خارج منطق طبقة الولادة. في شوارعها، تتقاطع الأنوثة مع القمع، ويُختزل الزواج إلى مشروع نجاة اقتصادي للفتيات المهمشات.
كل متجر تدخله، وكل نظرة ازدراء تتلقاها، وكل مقاس لا يناسبها، يكشف حقيقة اقتصادية قاسية: أن الحلم في مصر مُتاح على قدر المال. ففي الأحياء الراقية، حيث المحلات مضاءة والماركات تلمع والابتسامات باردة، يبدو الفستان الأبيض متاحًا لمن يملكه. أما في أحياء الفقراء، حيث الزحام والضيق والفقر، يصبح الفستان أمنية، أو ترفًا مستحيلًا.
واقعية مؤلمة بلا زينة
جيلان عوف، كمخرجة وكاتبة، تنطلق من حدث صغير لتفكك الصور النمطية الموروثة حول المرأة، والزواج، والحلم الأنثوي. لا تُدين شخصياتها، بل تراقبها بلطف، وتسمح لها بأن تُعرّي نفسها أمام المدينة وأمامنا.
تعتمد المخرجة على بساطة السرد بدون تعقيد، لكن كل تفصيلة محمّلة بالرمز: دمعة، نظرة، فستان، حوار عابر. تسير الأحداث في خط مستقيم ظاهريًا، لكنها داخليًا تكشف توترات وانكسارات عميقة.
الفيلم لا يلجأ إلى المؤثرات أو المبالغات. كل مشهد ينقل توترًا داخليًا واقعيًا، يعكس الصراع بين الشخصية وبيئتها. السيناريو كُتب بواقعية تستمد قوتها من صدق المشاعر وليس من تصعيد الأحداث. هذه الواقعية تفتح مساحة حقيقية للتفاعل بين الشخصية والمكان، وبين الذات والآخر.
عدسة عمر أبو دومة تُلاحق الشخصيات بكادرات ضيقة، تضعنا وجهًا لوجه مع ملامحهن المرتبكة وتعبيراتهن المترددة. الأزقة الضيقة، المواصلات العامة، الزوايا القريبة، كلها أدوات بصرية وظفها التصوير لتكثيف شعور المشاهد بالاختناق الذي تعيشه الشخصيات.
التصوير لا يُجمّل المدينة، بل يُظهرها كما هي: متعبة، مزدحمة، لا تمنح مساحة للحلم. المدينة هنا ليست خلفية لأحداث الفيلم، بل طرف فاعل في الصراع، تشارك في سحق التطلعات وتعرية المشاعر.
اعتمدت المخرجة ومدير التصوير على إضاءة طبيعية إلى حد بعيد، ما أضفى على الفيلم مسحة واقعية قاسية. مشاهد الليل لم تُغرق في الظلمة، بل عكست توتر اللحظة بهدوء، أما مشاهد النهار فبدت كأنها تفضح، لا تنير فقط. الفارق بين ضوء المتاجر المترف والمنازل الشعبية المكتظة بدا مقصودًا، كأنما المدينة نفسها تُصدر أحكامها بالفارق بين النور والظل.
أما المونتاج، فاختار إيقاعًا داخليًا متناغمًا مع توتر وردة، بدون استعجال أو قفزات درامية، ما سمح بنضج التجربة الدرامية كاملة.
الديكور في الفيلم ليس محايدًا، بل منحازا بوضوح إلى واقعية لا مجاملة فيها. فالمساحات المختارة بعناية – من بيوت شعبية ضيقة مكتظة بالأثاث البالي، إلى محلات فساتين مغلقة أو غير ملائمة، ثم صالونات تجميل بائسة تقاوم الاندثار، في المقابل هناك بيوت الأغنياء، والمجلات الكبرى، والأبراج العالية، كلها تضع المشاهد أمام طبقات اجتماعية متباينة، فوردة تختنق ببيئتها، بينما المولات الحديثة ترمز لأحلام معلبة لا تخصها. المدينة لا تعانق أحلام الشخصيات بل تسحقها، في ديكور يُجسد التفاوت الطبقي.
لم تكن الأزياء التي صممتها ريم العدل في «الفستان الأبيض» مجرد عناصر تجميلية أو مكملات بصرية، بل كانت لغة صامتة تحمل رموزًا اجتماعية ونفسية. اعتمدت تصميمات الملابس على البساطة الواقعية، فجاءت أزياء وردة (ياسمين رئيس) متقشفة، تعبّر عن انتمائها لبيئة شعبية، وتعكس محدودية اختياراتها وأحلامها. ملابسها بدت كأنها تحمل آثار الزمن والخجل، وافتقاد الألوان الصريحة يعكس خفوت الأمل بداخلها.
أما شخصية «بسمة»، فقد حملت بملابسها تمردًا صامتًا على ذات البيئة التي تنتمي إليها. ورغم أنها تشارك «وردة» في الانتماء إلى الطبقة الشعبية، فإن مظهرها الخارجي بدا مختلفًا: أزياؤها جريئة نسبيًا، أكثر تحررًا في اختيار الألوان، وتوحي بشخصية تسعى لتحدي القوالب المفروضة عليها اجتماعيًا وثقافيًا. البنطلون الضيق، والبلوزة المزركشة، كلها جاءت لتشير إلى فتاة تحاول فرض حضورها بطريقتها الخاصة، رافضة الامتثال لصورة الفتاة الشعبية التقليدية. بهذا التباين البصري، سلّط الفيلم الضوء على تعددية التجربة النسائية داخل الطبقة الواحدة، واستخدم الملابس كوسيلة دقيقة للتعبير عن هذا الفارق النفسي والاجتماعي بين شخصيتين خرجتا من السياق ذاته، لكنهما اتخذتا مسارين مختلفين في المقاومة أو الاستسلام.
الموسيقى: همس المدينة في أذن البطلة
جاءت موسيقى خالد حماد لترافق السرد بدون أن تطغي عليه، تهمس لا تصرخ، وتنسج خلفية صوتية ناعمة تتقاطع مع المشاعر بدون افتعال. في لحظات التوتر، تصدر نغمة خافتة تُحاكي نبضات قلب خائف، وفي لحظات الركض والهرب، تتسارع كأنها تركض مع البطلة من قدر لا يشبهها.
وكان الاقتصاد في استخدام الموسيقى التصويرية، واحدا من أذكى اختيارات الفيلم، فالسكون والضوضاء الطبيعية هما ما يصوغ الإيقاع. زحام المدينة، صراخ الباعة، ضجيج السيارات، كل هذا شكل خلفية موسيقية خفية تضيف توترًا داخليًا، وتؤكد على أن القاهرة ليست فقط مكانًا، بل عائقًا سمعيًا وبصريًا وروحيًا.
أداء تمثيلي صادق
في «الفستان الأبيض» لم تعتمد جيلان عوف على أسماء النجوم، بل راهنت على وجوه تبدو مألوفة، ومأخوذة من قلب الشارع، ما منح الفيلم مصداقيته البصرية والنفسية.
ياسمين رئيس التي أدت دور «وردة» جسّدت التوتر الداخلي والهشاشة والخضوع والانكسار، بدون مبالغة في التعبير أو افتعال انفعالات. عيناها كانتا بطلتي كل مشهد، فيما أدّت أسماء جلال التي لعبت دور «بسمة» – ابنة الخالة – دورها بتوازن بين التمرد والتعاطف. بدا التناقض بين الشخصيتين انعكاسًا لتناقض المدينة ذاته: الحلم المقهور والحلم الغاضب.
كما نجح أحمد خالد صالح في تجسيد شخصية الشاب المقهور الذي يشعر بالعجز وقلة الحيلة لدرجة التفكير في إلغاء الزفاف قبل موعده بساعات.
وجاء أداء سلوى محمد علي ولبنى ونس بسيطا معبرا عن بساطة أهل الحارات الشعبيةـ وقوتهم وقدرنهم على التحدي، وأضفى ظهور ميمي جمال دفئا وحميمية للفيلم.
بهذا الفيلم، تسجّل جيلان عوف حضورًا سينمائيًا ناضجًا، يُنذر بمخرجة تحمل مشروعًا لا يُشبه السائد. فيلمها هو تذكير قاسٍ بأن المدينة تقتل الحلم، وأن الفقر لا يكتفي بتجريد الجسد من الرفاهية، بل يطارد حتى خياله، وردة لا تملك حرية اختيار شكل الفستان ولا حتى شراءه، بل تبحث عن «ترقيع الحلم» بأي وسيلة، ليتحول فيلم جيلان عوف إلى مرآة لما يعنيه أن تكوني أنثى فقيرة في مدينة مثل القاهرة. مدينة قاسية، حافلة بالتناقضات، تنحاز للأقوى وتُقصي الحالمين. وبينما يُمزق الفستان، يتعرى الحلم، وتنكشف المدينة، ويبدأ سؤال أكبر: من الذي يملك الحق في أن يحلم؟
«القدس العربي»: