ثقافة وفنون

نور الدين أعراب الطريسي: النقد لا يساير الإبداع والمقابلة بين الشعراء والروائيين غير صحيحة

نور الدين أعراب الطريسي: النقد لا يساير الإبداع والمقابلة بين الشعراء والروائيين غير صحيحة

عبد العزيز بنعبو

الرباط ـ  يواصل الشاعر والناقد نور الدين أعراب الطريسي السير في طريق مزدوج يجمع بين الإبداع الشعري والنقد الأدبي. ففي الشعر صدر له: «قمر الغياب» و»يخون سيده الورد»، وفي النقد: «الصورة والإيقاع في شعر أمل دنقل» و»متخيل المنفى في الشعر العربي الحديث» و»الاستعارة في الخطاب الشعري الصوفي المعاصر بالمغرب»، و»المقارنة بين الصور البلاغية»، إلى جانب مشاركته في كتب جماعية أخرى متعددة منها «الأدب والأسطورة» و»جمالية التأويل» ومؤلف عن علوم التربية.
تخرّج من جامعة محمد الخامس كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط، وحصل على دكتوراه في النقد الأدبي الحديث في موضوع «تحليل الخطاب والسيميائيات المعاصرة»، وهو عضو اتحاد كتاب المغرب، وشارك في ملتقيات أدبية داخل وخارج المغرب، ونشر قصائده ودراساته أيضا في منابر وصحف مغربية وعربية مختلفة. يعيش الطريسي في مدينة الناظور، مسقط رأسه، مستمتعا بهدوء المكان ومبتعدا عن «لغو الحساسيات الذاتية» كما يسمّيها البعض، يمارس مهنة التدريس ويجسّد عشقه الخاص لنبض القصيدة.
التقته «القدس العربي»، فكان معه الحوار التالي:
*في البداية، لا بد من سؤالك عن حال الشعر في المغرب، وحاله معك أيضا؟
ـ الشعر في بلدنا المغرب بخير وعافية، رغم ما يعتريه من بعض الأمراض والمنغصات. فنحن ما زلنا نجد أصواتا شعرية ذات قدرة هائلة على اختراق الذائقة الفنية والجمالية للمتلقي المغربي، فتنفذ بذلك إلى أعماقه، بشرط أن يوجد هذا المتلقي المتفاعل، أو القارئ الخبير بتعبير نظرية التلقي الحديثة عند ياوس وايزر.
هذا باختصار شديد عن الجانب المضيء من واقعنا الشعري الراهن، أما الجانب الآخر السلبي، فنختصره في بعض الظواهر مثل، استعجال الكتابة وانعدام الشروط الفنية الضرورية عند بعض التجارب، وانتشار شعر المناسبات والمهرجانات والولاءات الشخصية، على حساب التجربة الحقيقية وشروطها الفنية من معجم وإيقاع وصور شعرية وأساليب. وعلى العموم، أؤمن إيمانا جازما بأن البقاء للأصلح والأجود.
أما الشق الثاني من هذا السؤال، فالشعر عندي وجود حقيقي يعادل الحياة التي نعيشها بكل تفاصيلها وجزئياتها. الشعر وجود حقيقي إذا ما استعرنا من الفيلسوف الألماني هيدغر توصيفه للشعر في علاقته بالوجود والسكن وعبور الأماكن المختلفة، الخ. ومن هنا، أيضا علاقة البيت الشعري بالبيت المرتبط بالسكن والمنزل. ولهذا، فإنني لا أقترف كتابة القصيدة إلا حينما تدعوني الضرورة لذلك، وبعبارة أخرى حينما تلح عليّ تجربة وجودية ما، ودون هذه التجربة الحية والحقيقية، أعتقد أن كل شعر يعد فارغا من محتواه، مجرد كلمات مصفوفة وملتصقة بطريقة غير منظمة، ولا أثر للحياة فيها.
نحن بحاجة إلى قصيدة حية، أو استعارات حية بتعبير الناقد السيميائي بول ريكور. لهذا لا تجد عندي مثلا زمنا منتظما ومتشابها في قصائدي، بل أكتب على أزمنة متباعدة، حسب ما ينزل بي من تجارب ومواقف شعرية حية ووجودية.
*بالنظر إلى تراجع التفات الرأي العام لما يعتمل داخل صدر القصيدة المغربية، يبقى السؤال الذي يقلق كل شاعر، هل ما زالت هناك حاجة للشعر، خاصة في ظل هجوم وسائط التواصل الحديثة الرقمية وغيرها؟
ــ صحيح، ما يعيشه الشعر حاليا هو جزء من حالة عامة يعيشها المشهد الثقافي عموما، بسبب الهجوم الشرس لمواقع التواصل المختلفة في حياتنا اليومية، وما نتكبده من خسائر فادحة جراء هذا الهجوم الكاسح، الذي يشبه سيلا عارما وقويا يجرف كل من يقف في طريقه. ولعل تراجع دور الكتاب والقراءة في حياتنا أبرز هذه الخسائر التي ندفعها يوميا كتكلفة باهظة، وضريبة لا مفر منها، نتيجة حالة الإدمان المفرط على هذه المواقع. ورغم كل ذلك، لا بد من مقاومة هذا التيار الجارف الذي بدت آثاره السلبية على الكائن البشري في العالم بأسره، والذي أصبح يفتقد الكثير من الروحانيات المكتسبة بالقراءة والشعر والأدب، لحساب الغزو المادي الجاف والقاسي. فالشعر خاصة والقراءة عامة، من عوامل حفظ حياتنا وأرواحنا من الجفاف والتصحر، لذلك أعتقد أن الشعر يبقى دائما فن النخبة، أو حتى نخبة النخبة. فلا ننتظر من الجمهور أن يلتفت كله للشعراء، في ظل واقع مزرٍ يختلط فيه الجهل بانتشار الأمية والفقر والتخلف و(هلم شرا).
*على الصعيد الشخصي، كيف تنظر إلى ما راكمته من إصدارات وتفاعل مع المشهد الثقافي طيلة سنوات الحفر في صخرة الكتابة والقلق الإبداعي؟
ــ الممتع في الكتابة الأدبية فعلا هو كونها مجالا غير نهائي ولا محدود، والشاعر أو الناقد لا يمكن له أن يستقر في حدود معينة، ولهذا السبب ترافقني دائما حالة من عدم الاستقرار المعرفي في كل ما أكتبه من مؤلفات وإصدارات سواء في مجال الشعر أو في مجال النقد الأدبي. فالشاعر يجدد أدوات وتقنيات كتابته باستمرار، تبعا لتجدد أفقه المعرفي ورصيده النقدي، وأنتم تعرفون أن أهم ما يميز المعرفة النقدية هو نسبيتها وتجددها المستمر، ولهذا على الشاعر ألا يرتاح إلى تجارب ماضية، بل عليه أن يسعى دائما إلى التجاوز والتجديد، إذا ما أراد الوصول إلى شكل فني أكثر نضجا وتأثيرا في القارئ. وهذا ما أسعى إليه دائما في كل ما أكتبه في الشعر مثلا، حينما أشتغل باستمرار على تجويد الصورة الشعرية وإتقانها وإبعادها عن التقريرية والمباشرة، وتغليفها بمسحة من الإيحاء والرمز.
*في سياق آخر، هل فعلا صار الشعراء أقلية أمام تنامي الاهتمام بأجناس إبداعية أخرى مثل الرواية والقصة القصيرة؟
ـ في رأيي المتواضع، لا تصح هذه المقابلة بين الشعراء من جهة، والروائيين من جهة ثانية، بل ينبغي اعتبار النمطين معا نوعين أدبيين يكمل بعضهما الآخر. فلا يمكن أن نفضّل الشعر على الرواية، أو العكس، لأن ما يجمعهما معا هو الجنس الأدبي، رغم ما يفرقهما من مميزات خاصة بالنوع الأدبي. فالشعر نوع أدبي ينفرد بعناصر فنية لا نجدها في الرواية، كالصورة والإيقاع. وكذلك الرواية تتميز بعناصر فنية لا نجدها في الشعر، كالسرد والحوار والشخصيات والأحداث إلخ. غير أن هذا لا ينفي وجود تجارب حداثية في كلا النوعين تتداخل فيها أساليبهما معا. وعموما، أرى أن النوعين الأدبيين معا يصبان في نهر واحد يسمى الكتابة الأدبية، أما ما يسميه البعض زمن الرواية.. وزمن الشعر، فلا أساس له من الواقع والتنظير العلمي الصحيح، بل يبقى مجرد تكهنات وانطباعات شخصية لا غير.
* وفي رأيك، هل صار الصوت الشعري المغربي مميزا، أم أنه يمتح من أصوات شعرية في بلدان أخرى ولا أقصد العربية بالضرورة؟
ـ بالنسبة لجيل الرواد المؤسسين ومن لحقهم، مثل الشعراء أحمد المجاطي ومحمد الخمارالكنوني وعبد الله راجع وعبد الكريم الطبال ومحمد بنطلحة وأحمد بلبداوي وغيرهم من الشعراء.. نجد هذا الصوت المغربي بكل وضوح، في مضمون القصيدة وشكلها الفني أيضا، خصوصا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تجربة الحداثة في هذا الشعر، لا من جهة كونها ظاهرة عروضية فقط، كما تقول نازك الملائكة، بل حتى من جهة كونها رؤيا جديدة للوجود والعالم والتجربة الذاتية والجماعية، بتعبير أحمد المجاطي. ومن هذه الناحية، كانت هذه التجارب المغربية المبكرة الخاصة تتناغم حتى مع نظيرتها في المشرق العربي، ولكن ما حصل بعد ذلك في نظري، هو نوع من تجريب لأشكال فنية لا تنتمي إلى تربتنا المغربية والعربية، حولت القصيدة إلى ومضات، أو مقاطع أو جمل قصيرة خالية من المعنى والإيقاع، بحجة التركيز على الومضة والصورة والإشارة، وغير ذلك من المسميات التي دخلت إلينا من ثقافات شعرية بعيدة ومختلفة. هذا لا يعني أنني ضد التجديد، ولكن كل تجديد للشعر ينبغي أن يحافظ على الجذور والأصول الفنية، ويجدد من داخلها مثلما فعل جيل الرواد.
* حسنا، وماذا عن النقد المغربي هل هو حاضر فعلا، أم غائب عن مواكبة الحركة الإبداعية بمختلف تصنيفاتها؟
ــ النقد المغربي لا يساير النصوص الإبداعية الأدبية، وهذا راجع لعدة أسباب، من بينها انحسار رقعة النقد الأدبي داخل مجالات وفضاءات مغلقة ومنغلقة على نفسها، ومنها الضعف المعرفي وتراجع النقد الأكاديمي، سواء على مستوى التنظير أو المتن الأدبي المدروس، وهذا الأمر فتح المجال لمجموعة من القراءات المستعجلة، ولا أقول الدراسات المبنية على أسس علمية، التي ساهمت في ظهورها أيضا مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة. فقد جعلت النقد أمرا متاحا للجميع، فاقتحم غماره أناس هم أبعد ما يكونون عن مجال الأدب وعلومه، فتحول النقد بذلك إلى فوضى (فيسبوكية ويوتيوبية)، إن صحت العبارة، وذلك باستغلال هامش حرية التعبير الواسع الموجود في هذه القنوات، وغياب الصرامة والمراقبة.

«القدس العربي» :

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب