
جان دارك… حياة قصيرة أوسع من الزمان

سلافة الماغوط
من هذه الفتاة النحيلة المراهقة التي ترتدي ملابس الرجال وشعرها قصير؟ من هذه راعية الغنم التي لا تملك أدنى خبرة في الجيش والقتال، ومع ذلك حررت مدينة أورلين في أربعة أيام، في الوقت الذي عجز فيه الجيش الفرنسي عن تحقيق ذلك خلال ستة أشهر؟ من هذه الفتاة التي جاءت مثل النيزك لتحط على أرض الصراع الفرنسي – الفرنسي والفرنسي -الإنكليزي؟
إنها جان دارك البنت البسيطة التي حررت فرنسا، الفتاة التي رآها بعض الفرنسيين قديسة ووصفها الإنكليز بالشيطان. وصفها الفرنسيون بالعذراء والإنكليز رأوا فيها امرأة ساقطة مهرطقة. إنها الثائرة جان دارك، طفلة من منطقة دومرومي التي كانت وهي بنت الثالثة عشرة تحلم بتحرير فرنسا، وتنصيب الملك تشارلز السابع ملكا شرعيا للبلاد، معمدا لمملكة أوروبا المسيحية، الأرض المقدسة التي تم نشر المسيحية فيها منذ أكثر من ألف عام من هذه الأحداث زمن حكم روما، وعلى يد مبشرين استشهدوا فداء لقضيتهم، التي كانت نشر المسيحية، وأصبحوا قديسين مع مرور الزمن. مع ذلك ورغم حلمها النبيل والشجاع ماتت حرقا وهي في عمر التاسعة عشرة ، والأفظع لم يتأسف على موتها أحد من أبناء جلدتها. مع ذلك أيقظت باللاوعي صحوة جعلت الحرب الفرنسية التي كانت مشتعلة في ذلك الوقت تنتهي بالمصالحة، وطرد الإنكليز بعد أن أصبح جثمان جان دارك رمادا تناثرته رياح النسيان.
لكن في الأساس ما سبب الحرب الأهلية في فرنسا، التي أوقعت البلاد تحت أطماع خارجية، مستغلة انشغال مملكة فرنسا بالصراعات الدامية. وحتى نفهم دور جان دارك جيدا في سياق تلك الأحداث، لا بد من تلخيص طبيعة النزاع وقتذاك، الذي نشأت في ظله وأثر في تكوين شخصيتها. كان النزاع بين أولاد عم الملك تشارلز السادس، الذي كان مصابا بالذهان لدرجة أنه لا يعرف أنه ملك ولا حتى زوجته وأولاده، وكان يعتقد أنه من الزجاج ويمكن ان يتحطم في أي لحظة، لذلك وجوده كان رمزيا فقط. ويلاحظ أن هيكلية توزيع الحكم في فرنسا تختلف عن بلادنا مثلا، عندهم ألقاب مثل الدوق والكونت وطبقة النبلاء والأمراء، كل واحد من هؤلاء يحكم مقاطعة فرنسية، وهؤلاء عادة بينهم مصاهرة، لكن الخلافات الداخلية في هذه المرحلة نهشت صدورهم، وفتكت بأمن وسلامة البلاد وكانت محصورة بين دوق منطقة بورغاندي، ودوق منطقة أورليان وهما أولاد عم، وعندما مات الدوق فيليب أخ الملك شعر دوق بورغاندي بأن من حقه تولي منصب عمه الذي حجبه عنه أخ الملك لويس دوق أورليان.
قتل دوق بورغاندي دوق أورليان، عندما كان عائدا من زيارة لقصر الملكة زوجة تشارلز، نصب له كميناً وقتله، اعتقد جون دوق بورغاندي أنه تخلص من خصمه بهذه الطريقة ببساطة، لكن لم يتوقع أن تنشب حرب أهلية طويلة الأمد، وأن زوجته وأولاده سينتقمون له.
في جو هذه الصراعات المشحونة استغل ملك إنكلترا هنري الخامس هذه الأحداث ليخطط لاحتلال فرنسا، لكن لا بد له من سبب مقنع حتى يبرر هذا الاحتلال، وأيضا حتى يحصل على تمويل كاف لتسديد نفقات حملته العسكرية من الكنيسة، فعزف على وتر الدين، وأعلن أن الله اختاره ليكون ملك فرنسا، إضافة إلى نسبه من طرف أمه الفرنسية، هنا لم تحصل ذريعته على قبول من قبل إنكلترا، كون نسب المرأة في العصور الوسطى لم يكن معترفا به، مع ذلك غزو الملك هنري كان موفقا، لدرجة أنه أقنع من حوله بشرعية ضمه مملكة فرنسا لمملكة إنكلترا، وأنه سيكون متوجا على هاتين المملكتين، نتيجة انتصاره الكاسح في معارك متفرقة على الأراضي الفرنسية مع قلة عدد رجاله مقارنة بالجنود الفرنسيين، ما جعل البعض يعتقد أنه فعلا رسولا من السماء، خصوصا أن عقلية الناس في تلك الفترة ـ فترة العصور الوسطى ـ كانت بدائية وتربط حتى الطقس بأنه إشارة من السماء، من هذا الباب رأوا في انتصارات الملك المتكررة علامات سماوية. وتزوج الملك هنري من ابنة الملك تشارلز، التي وقفت مع زوجها ضد أخيها الذي طالبت بمحاكمته، وأن لا شرعية له بالحكم، وحسمت في معركة أجينكورت النزاع، إنها المعركة التي تبادل فيها بعض النبلاء الفرنسيين قبلة السلام، وتعانقوا بموقف مؤثر قبل بدء القتال، قاتلوا من دون قيادة الملك، رغم مشاركة عدد كبير من شخصيات فرنسا الحربية، وحاربوا بشراسة وشجاعة، مع ذلك خسروا المعركة مع الإنكليز الذين كانوا بقيادة الملك هنري الخامس، استمرّت الخسارات حتى جاءت جان دارك لتدير دفة القتال وتحول الأقدار، وترسم ببراءتها وعزمها مسارا جديدا حفر اسمها في ذاكرة الأجيال، وعبر اسمها القارات وأصبحت مثلها مثل أي ثائر لا يعترف بالعقبات، ويتجاوز المستحيل ويكبر اسمه بعد رحيله لأنه أكبر من الرحيل نفسه.
كيف يمكن للبورغانديين الفرنسيين أن يقفوا مع الإنكليز ضد أبناء جلدتهم الأرميناك؟
بعد نصر معركة الجينكورت، قال الملك هنري للشعب الفرنسي، إنهم إذا استسلموا من دون مقاومة، فلن يستعمل العنف معهم لفرض سلطته، كما أنهم اقتنعوا بأن الملك هنري مكلف بمهمة من الله، والأهم أنهم اقتنعوا بأن نسبه من جهة والدته يعطيه الحق بأن يضم مملكة فرنسا لمملكة إنكلترا، ما يعني أنه حق شرعي من أكثر من جهة ولأكثر من سبب.
أهميةً جان دارك أنها جاءت في مرحلة من حياة فرنسا السياسية معقدة جدا، الملك مصاب بمرض عقلي، ووجوده شكلي ورمزي، صراع بين أبناء العم على أحقية السلطة، حرمان الوريث الشرعي الملك تشارلز السابع، ابن الملك تشارلز السادس لأنه من سلالة الملك تشارليمين أول إمبراطور غربي بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، وأسس فرنسا الإفرنجية وجعل من فرنسا قبلة المسيحية في أوروبا شأنها شأن روما، ومن طقوس الملكية تعميد الملك الوريث بزيت مقدس محفوظ في قارورة مقدسة في مدينة ريمن شرق البلاد، لكن عندما غزا البورغانديون باريس لأسر الملك الطفل، ساعد على هربه أحد معاونيه وهو ما زال في ملابس النوم، وهكذا اصبح الملك تشارلز الوريث الشرعي خارج العاصمة، لكن عندما تزوج من ابنة سيدة تتمتع بالدهاء السياسي اسمها يولندا، عملت على تشكيل مملكة موقتة عاصمتها بورجيه، فجأة ترى خريطة فرنسا مقسمة بين ثلاث ممالك، واحدة النورماندي في الشمال عاصمتها رين يحكمها الإنكليز، وأخرى في الشرق عاصمتها بورجيه يحكمها الملك الشرعي، وثالثة عاصمتها باريس بيد البورغانديين، لكن الملك الأب توفي، وكذلك الملك هنري وهو في الـ27من عمره، مع ذلك الحروب استمرّت، بل أصبح هناك صراع داخلي بين البورغانديين، وصراع داخلي بين الأرميناك، وصراع بين صفوف الإنكليز، عمت الفوضى وحتى المهازل عندما انحرفت المعارك عن مسارها القديم المرسوم لها، إلى أن قرر الجيش الإنكليزي فرض الحصار على مدينة أورلين بسبب موقعها الاستراتيجي على وادي اللوار، فرض سياسة التجويع حتى يستسلم الفرنسيون، وبعد خسارة فادحة، هنا جاءت فتاة على حصان مع رفاقها تريد أن توصل رسالة إلى الملك تشارلز تقول فيها، إنها تريد تحرير أورلين وتنصيب الملك وتعميده حسب طقوس الكنيسة في مدينة رينم. في أول محاولة تم طردها من القصر، في المرة الثانية وبعد تفكير طويل وتردد، كون الفرنسيين مشهورين بسمعة سرعة التصديق من دون أسس متينة، لكن لأن الملك تشارلز غارق في سلسلة من المعارك الخاسرة رغم كل الاستعدادات العسكرية، ودعم المؤيدين له واعتماده على الأسكوتلنديين حليفهم الدائم في المعارك.
رغم ذلك خسر ثلاث معارك حاسمة واستراتيجية لاسترجاع حقه المسلوب، بالإضافة إلى أن أم زوجته يولندا كانت قد مرت بتجارب مماثلة من قبل، حيث التقت بنساء اعلنّ أنهن يسمعن أصواتاً من وحي من السماء، وكانت يولندا هي من قامت بتبني تلك الحالات وتأييدها، ولرغبة منها لتوطيد حكم زوج ابنتها وإنهاء الصراع الفرنسي – الفرنسي، رأت في فكرة التحقيق بصحة كلام جان دارك بدقة وإمعان. من هنا بدأت رحلة جان دارك من دون ترتيبات، بل اعتمدت على حدسها في قيادة المعارك وتعلمت حمل السلاح، واتخاذ القرارات الجريئة التي كانت تصيب، رغم استحالة تصديق ذلك، يجب أن لا ننسى أننا نتكلم عن طفلة لا خبرة عسكرية لها ولا بيئة ثقافية معينة أسهمت في تكوين شخصيتها، على النحو الذي يتوقع منه هذه البطولات، ويعود السؤال من أين جاءت هذه الأفكار؟ ومن أين جاءت هذه الشجاعة؟ ومن أين جاءت هذه القرارات؟ بقيت انتصاراتها تتوالى حتى وصلت الى أبواب باريس، هناك نصب لها الإنكليز كمينا عندما باغتوها من الخلف على أبواب المدينة. كان الغضب على جاندارك مضاعفا، اتهمتها الكنيسة بالزندقة، لأنها لو فعلا كانت قديسة فما كان تخلى عنها الله، لذلك تم اتهامها بأن ادعاءاتها كاذبة، ومن جهة أخرى أغضبت الإنكليز لأنها حررت أراضي كانت تحت سيطرتهم وكلفتهم ثمنا باهظا من سلاح وأرواح.
طلبت الكنيسة تسليم الإنكليز لها لكنهم لم يوافقوا إلا بشرط واحد وهو أنه لو حكمت الكنيسة عليها بالبراءة يجب إعادتها لهم لتتم محاكمتها من قبلهم، واجهت المحاكمة بشجاعة وعناد، وكان كلامها مختصرا وبسيطا أي لا يثير الدهشة أو الاهتمام، لاحظت هيئة الكنيسة المؤلفة من الكهنة وعلماء اللاهوت، عنادها وحاولوا إقناعها بالاعتذار تجنبا للعقاب، كانت تقتنع ثم تصمت مع تناقض في كلامها وتصرفاتها، ما يؤكد ان المحاكمة لم تكن عادلة، وأن المحاكمة كانت تقوم تحت إشراف الإنكليز، وبتأثير واضح منهم على محاكمتها التي انتهت بالحكم عليها بالحرق. لكن بعد 25 عاما استفاق ضمير الملك تشارلز الذي طالب بإعادة محاكمة جان دارك، في ضوء هذا التوجه، تم تشكيل محكمة واستدعاء شهود من أيام طفولتها ورفاقها، كانت النتيجة، أنها كانت بنت ريفية لطيفة ورعة تذهب للكنيسة باستمرار، بسيطة ومؤمنة وبعد 500 عام أعلنت الكنيسة الكاثوليكية أنها ليست فقط بطلة بل قديسة.
ايضاً جاءت مبادرة الملك تشارلز حتى يثبت لشعبه أن الفتاة التي نصبته ملكا عليهم بأمر من الله لم تكن زنديقة، بل العكس تماما كانت كما ادعت أنها مبعوثة من السماء وأن منصبه بمباركة إلهية، وهكذا تحولت جان دارك من طفلة بسيطة راعية غنم، إلى قديسة وأيقونة حققت ما عجزت عنه جيوش وأساطيل ومع الوقت ورغم عمرها القصير، أصبحت أسطورة أكبر من الحياة نفسها تجاوزت حدود بلدها لتعبر القارات وتصبح رمزا للحرية.
يقع الكتاب في 328 صفحة من القطع الوسط- صادر عن دار Faber & Faber
تأليف الكاتبة البريطانية Helen Castor.
كاتب سوري