هدى درويش: لا يمكن لكاتب بالفطرة أن يتوقف عن الكتابة

هدى درويش: لا يمكن لكاتب بالفطرة أن يتوقف عن الكتابة
الحوار: كه يلان محمد
الكتابة هي اشتقاقُ لفرضيات متعددة بشأنِ الحيوات المُتخيلة التي توحي بها التجربةُ الشخصية، كما هي محاولةُ لرؤية الحياة من أبعاد تقومُ عليها البيئة النصيةُ. وما يكسبُ الكتابة الإبداعية أهمية أنَّ مُتطلباتها ليست وظيفية، بل هي انزياح عن الخط الذي يقودُ إلى التكرار والنفس التقليدي. وهذا ما طمحت إليه الجزائرية هدى درويش عندما غامرت بالانضمام إلى ملعب الكتابة، إذ لم تشأْ أن تكون حدود كلماتها مُنتهيةً عند مجالها الوظيفي بل تبحثُ عن معجم أوسع في أفق الإبداع الروائي والشعري، تناقشُ دوريش في هذه المساحة آراءً عن مثابات الإبداع وأمزجة الكتابة:
*هل توافقین إلیف شافاك في رأیها بأنَّ الرواية تعتمدُ على العزلة كما أنَّ الروائي كائن بطبعه يميل إلى الانعزال والانطواء؟
محمود درويش عن العزلة: «لقد كنتُ صامتا لكنني لم أكن أعمى»
ـ إليف شافاك كاتبة معاصرة مهمة، تستهويني جدا تماما كما تستهويني العزلة بمعانيها الكثيرة وطرائق ممارساتها وطقوس الكتّاب على مرّ التاريخ وقراراتهم الكبيرة في اللجوء إليها والاحتماء بها من قساوة العالم وبرودة الواقع أحيانا، ومن الخذلان والخيبات. بالنسبة لي العزلة هي أن تمتلك الشجاعة الكافية بأن تكتفي بذاتك، ولا يمكن لك ذلك إلا إن كنت حقا ترتقي لدرجة كبيرة في التوافق مع روحك وأفكارك ومعتقداتك. يقول نيتشه «أنت وطني أيتها العزلة وقد طال اغترابي في بلاد المتوحشين»، فالعزلة وصلت ربما لدرجة التوحد مع الذات وهوس الانطواء على النفس لدى بعضهم، ويمكن أن تكون قاتلة ومريرة ويمكن أن تكون اختيارية أو إجبارية كما عاشتها مي زيادة في آخر سنينها العجاف، وهو ما يجعلها فرارا ربما أكثر منها ميولا، العزلة تعبير حقيقي عن الوجع، تتداخل مع لغة الصمت وسيمفونيات الهروب والطريق إلى التشافي، وهي ملاذ العاشقين والصابرين والبوهيميين والعميقين.
*ما تعقيبك على نصيحة أرنست همنغواي للكاتب بأنَّ لا ينساق مع الأفكار الشائعة بين الناس، ولا يتأثر بكل ما يسودُ في عصره؟
ـ الكاتب مخلوق مختلف وخلق ليكون مختلفا وخلاقا ومبدعا ومعارضا وثائرا، لا يعرف معنى للخوف ولا للتردد ولا للكسل. أقول ضاحكة الكاتب ليس انفولنسر على وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا يعكس إلى حد كبير مستوى الإنسانية المتدني في هذا العصر الذي يمجد التفاهة، ويميل إلى السطحية وحب اللايكات والشير والتكبيس، والفضيحة العلنية وغيرها من أدوات التعبير الإلكترونية، التي تعتمد على الكم دون النوعية، ولوعدنا ربما للقاءاتي منذ أكثر من تسع سنين حين سألني أحدهم عن التفاعل ووسائل التواصل وإنها سلاح ذو حدين، ولكنني لطالما كنتُ متشائمة بهذا الخصوص، وكنتُ اكتفي وما زلت بالقراء المثقفين والعميقين والمطّلعين، الذين يعدون على الأصابع. وها نحن اليوم ندرك بعد مرور الوقت بأن هذه المنصات أصبحت سلاحا ذا حد واحد سلبي ومدمر، ولو أن أرنست همنغواي عايش عصرنا هذا، لكان قد صرح بالكثير حول الأفكار الشائعة، ومن ينساق نحوها ومن يركب موجاتها للوصول إلى الترند بفكرة فارغة غير بناءة. طريق الخلاص الأوحد لعودة القيم، هو الرجوع إلى المنصات الأكاديمية والالتفاف حول المدارس العريقة في الكتابة والأدب والفنون الجميلة الملتزمة، التي لا يمكن أن تكون جزءا منها إلا إذا تمتعت بمبادئ الولوج والالتزام والدفاع عن القضايا الإنسانية، وحينها فقط تكون كاتبا حقيقيا إلى حد كبير.
*ما رأيك بمقولة كافكا إنَّ الكاتب عندما يتوقف عن الكتابة يكون أشبه بالوحش؟
ـ لا يمكن لكاتب بالفطرة أن يتوقف عن الكتابة، وإن تمكن من ذلك فهو من الهواة فقط وعاش تجربة كتابية لا أكثر. لكن دعنا نقول إن الكتاب والروائيين والشعراء المعاصرين المتفرغين تماما للكتابة، دون ممارسة شيء آخر يعدون على الأصابع. في الجزائر مثلا لا أرى ولم أسمع عن غير الكاتب رشيد بوجدرة، أما الباقون، ولربما أنا واحدة من جيل الكتاب الشباب، لديهم تخصصات حياتية وعملية وأكاديمية أخرى ويمارسون الكتابة دون توقف، ربما أو بانقطاع من فترة لأخرى. فعلا يصعبُ عليَّ أن أجمع بين الكتابة والدراسات العليا والتخصص في الطب، ولكنني لم أملك خيارا آخر، لأن الكتابة بالنسبة لي منطق عيش وأسلوب حياة وطريقة للحب، للتشافي والاستمرارية. وفي المرات القليلة التي انقطعت فيها نسبيا عن الكتابة، شعرت بكل بساطة بأنني اتحول لامرأة أخرى لا تعرف ملامح وجهها في المرآة، ولا تحسن الحديث إلى نفسها، ولا إلى العالم وهذا التحول قد يشتد من درجة إلى أخرى، ويقوى لحد الوصول إلى درجة الوحشية والفصام.
*هل انتهى دور الناقد مع انفتاح المنصات والمنابر على ما ينشره القارئ؟
ـ لو أعدنا صياغة السؤال «هل انتهى الكتاب بولادة وسائل التواصل؟» سأقول طبعا لا وألف لا، هنالك شيء ما في نسل الإنسان له علاقة جينية مباشرة مع الفنون الجميلة، بما فيها الكتابة والرسم والموسيقى والمسرح والسينما. حقيقة أن الكتابة تتعرض للتغيير الذي يطرأ على كل مقومات الحياة الحديثة كغيرها من الفنون، فالسينما في سنوات الأربعينيات ليست السينما الحالية والكتابة أيضا، تتعرض للرقمنة وترتقي في أساليب التسويق وتقنيات التوزيع والعرض والطباعة والنشر والنقد، هذا الأخير خرج لربما من صالة المقهى الأدبي لبلياد المدينة سابقا، وأصبح تعبيرا عن الرأي أكثر منه نقدا، حينما أتيحت الفرصة للقارئ أو المطلع الذي لا يملك ربما كتابا ورقيا واحدا، ولكنه يملك آلاف ملفات الـ»بي دي أف» لروايات ودواوين شعر ونثر. ما نقرؤه في التعليقات حول نص من رواية أو تسجيل صوتي أو أغنية لقصيدة شعر، هو مجرد تعبير لا يتعدى ردات الفعل العابرة ربما، ولا يمكن أن يرقى لدرجة النقد، فالناقد أكاديمي له مستوى كبير في الاطلاع والإلمام بالحيثيات الفكرية والبيوغرافية للكاتب وللمولود الأدبي على حد سواء. ما يجب الإشارة له هنا تحديدا هو المطالبة بالرقابة الحقيقية على وسائل التواصل، من خلال توثيق الهويات والبروفايلات وعناوين الآي بي، كي يكتسي كلٌّ بحلته الحقيقية، فللقارئ مقامه وحريته في التعبير عن رأيه طالما لا يعتدي على الشخص الأدبي أو الحقيقي للكاتب، وللناقد مقامه أيضا وواجبه في التحليل والتنوير والصقل والتصحيح.
* كيف تتحدثين عن تجربتكِ في كتابة الرواية ؟ ماذا تغير في نظرتك للرواية بعد تأليفك للرواية الأولى»؟
ـ ولدتُ في مسقط رأسي مرة، وفي وهران مرتين وفي باريس مرات كثيرة. ومهما اجتمعت الدراسات ربما في تحليل «نساء بلا ذاكرة» أو «كوكينيا» أو»لأنك دائما تكون غيرك» سأظل منفردة وحدي بالزوايا المظلمة والخفايا الإيحائية والرموز والأماكن والتواريخ، بعضها مفصح عنه، وبعضها الآخر لا أقوى على الإدلاء به. نعم تتغير نظرتك للنص الروائي حين يحمل اسمك، وحين يضعك أمام التحدي النقدي من جهة، وللقصاص والمحاكمة الاجتماعية والسياسية أحيانا، وحين يغوص بك في التابوهات والمحظور من الحقائق، كالفرق بين لام شمسية ولام قمرية، ليس من يقرأ كمن يكتب.
*قبل تجربتك في كتابة الرواية نشرت لك القصائدُ وترجمت مجموعتك الشعرية إلى الفرنسية، ماذا يمكن للرواية أن تقدمه للقارئ ولا يجده في الشعر؟
ـ احببتُ دوما لو يجبني أحدهم، أولئك الكتاب الذين كانت لديهم الشجاعة الكافية للبقاء في النص النثري دون الشعري، أو العكس، ولم تستهوهم رحلة المجهول من القصيدة إلى الرواية ذهابا وعودة . ترجمتْ بعض نصوصي للغة اللاتينية الفرنسية والإسبانية والإيطالية وللفارسية والكردية أيضا، وسعدتُ بهذا الانتشار أكثر من سعادتي بيوم ميلاد النص الأصلي وكان ذلك غريبا، أن يقرأك أحدهم بلغة لا تقوى على فهمها حتى، لكن يبقى النص الشعري في نظري أكثر التزاما من النص الروائي، وأقل انتشارا في أوساط القارئ الحديث ولكي تصل للجميع عليك الخوض في الشعر والنثر على حد سواء، حتى كتابة السيناريو والدراماتورج حاليا تستهوي الكثير من الروائيين المعاصرين، أي أن الصوت والصورة ايضا اصبحتْ مرحلة لا تتجزأ من مراحل التحولات النصية.
كاتب عراقي