ثقافة وفنون

العَلمانية من الداخل: قراءة إبّيستمولوجية في سياق عربي مأزوم

العَلمانية من الداخل: قراءة إبّيستمولوجية في سياق عربي مأزوم

صدر للباحث المغربي المهدي مستقيم، كتاب جديد يحمل عنوان «في العَلمانية، مقاربة إبّيستمولوجية» عن منشورات دار الربيع في القاهرة (2025). ويعد نشر هذا الكتاب استجابة ملحة لمجريات الوضع الخطير الذي نعيشه في سياقنا العربي، وهو وضع يفرض علينا اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى ضرورة تشييد براديغم أخلاقي جديد، ينهل من منظومة قيميّة أخلاقية حديثة تتّخذ من الشميلة الحقوقية الإنسانية مصدراً لتشريعها، وتقطع بشكل نهائي مع كل رابط قيمي تقليدي يتأسس على إرث ديني، على أنّ القَانون الوضعي الحديث وحده بإمكانه أن يفرض علينا بقوته ضرورة التّعامل مع غرائزنا الأخلاقية العميقة وتنمية شُعورنا بعدم إمكان استئصالها، بدءا من بنده الرّئيس الذي يقضي بضرورة احترام الحياة الإنسانية، بوصفها حياة تمثل كما يقول «تشارلز تايلر» نمطًا من أنماط الوصول إلى العالم. من هنا يجدر بنا أن نُدرك أنّنا لا نعيش في هذا العالم الرّحب بمفردنا، وبأنّ هذا العالم إنّما يستند إلى أساسٍ أخلاقيّ حديثٍ، يتعارض جذريا مع أساس المنظومات الثّقافية التقليدية، وأن العالم الحديث لا يقوى على تحمّل المعايير والقِيم والتشريعات الموروثة عن أسلافنا، إذ باتت هذه الأخيرة تشكل تهديداً عظيما للقيم الّتي بذلت الإنسانية جهدا كبيرا في صياغتها بعد الصّراعات المريرة التي خاضتها مع الثقافات التقليدية الْمُظلمة، حتى انتهت إلى تشييد منظومة حقوقيّة إنسانية شاملة تؤمن بأن الكائنات البشرية كائنات تستحق الاحترام. فما هو خاص في العالم إنما يتمثل في صياغة مبدأ الاحترام بلغة قانونية الأمر الّذي أمسى قاعدة مركزيّة في الأنظمة القانونية. ليس ثمة شيء يمكن للمواطن أن يطيعه أكثر من القانون، ذلك أنّ هذا الأخير من شأنه أن يتيح له إمكانات الحصول على مجموعة من الفوائد اعتدنا على تسميتها بالحقوق، كأن يضمن له صون حياته واحترامها مثلا.
ليس في مكنتنا، حسب المهدي مستقيم، التّأسيس لمنظومة قانونية حقوقية كونية داخل مجتمعاتنا من دون خلق أفراد مستقلين ذاتيّا، أفراد يمتلكون القدرة على تشكيل آرائهم الخاصة تجاه ذواتهم وتجاه العالم، من دون أن تمنعهم من ذلك سلطة ترتبط بإرث قيمي، أو ما سواه، ذلك أنه لا يتسنّى الفصل بين احترام الحياة الإنسانية بوصفها حقّا إنسانيا طبيعيا وبين فكرة الاستقلال الذّاتي؛ إذ يتعيّن علينا أن نوفر للناس الشُروط الكفيلة بتنمية شخصياتهم على النحو الذي يرغبون فيه مهما كانت تبدو معتقداتهم ورغباتهم لا تتناسب مع حِسِنا الأخلاقي.
لقد أصبح الإنسان المعاصر ينبذ القتل والألم أكثر من أسلافه، إلى أن بات تجنُّب الألم معيارا مميزاً في حياته؛ من هنا يحيلنا تايلر على المشهد المؤلم الذي افتتح به ميشيل فوكو كتاب: «المراقبة والعقاب» «surveiller et punir» حيث وصف التّعذيب الذي تعرّض له شخصٌ حاول اغتيال ملك فرنسا في منتصف القرن الثّامن عشر- على ألّا يفهمنّ من ذلك أننا لم نعد نشهد مثل هذه الأحداث في أيامنا ولعل حرب غزة أفظعها- على أنّ مشهدا كهذا بات يُشَكّل مصدر صدمة في عالمنا المعاصر، لذا وجب التّصدي له ورفضه، فحتى القرارات الشرعية الّتي تدعو إلى تنفيذ الإعدام تنفذ داخل أسوار السجون وليس أمام الملأ، بل إننا صرنا نُصاب بالذعر والهلع كلما علمنا أن الأطفال الصغار سمح لهم في وقت ما بالمشاركة في طقوس تنفيذ الإعدام في الساحات العامة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب