الأفق الجديد للمجتمع المقاوم

الأفق الجديد للمجتمع المقاوم
انشغل التفكير قبل سنوات بمسألة تحويل ثقافة المقاومة إلى لقاح حضاري ينتقل إلى سائر ساحات المجتمع، وتحت عنوان «مستقبل مجتمع المقاومة» [عنوان مقالة الكاتب والمنشورة على موقع «معهد المعارف الحكمية» عام 2015) تمّ البحث عن إعادة استنبات مجموعة مجالات تجريبية خاضتها المقاومة بنجاح لنقلها إلى المجتمع العام، وهي تتعلّق بالعناوين التالية: الاقتدار، المعرفة، المعنويات، الرؤية، الأخلاقية، الانتظام.
تمّ بناء السياق والجهد في التفكير آنذاك على أساس أن «بقاء فعل المقاومة منحصراً في ميدان الحرب صانعاً ثقافة حربية تلتزم لغتها ورموزها هو وقف لحركة النفير في التاريخ وحصر لغاياتها المتعالية ضمن فئة محددة شاركت في الميدان بشكل مباشر أو غير مباشر، في حين أن فلسفة النفير التي قدّمها القرآن الكريم تقع في موقع كلي تكاملي. لا بد، إذاً، من تسييل النموذج المقاوم خارج سياق الزمان والمكان الحربي، وتحويله إلى عقل جماعي حاكم في كل الشؤون، لتتحقق الغاية القصوى لفعل المقاومة في التاريخ، وتتحول حالة الضرورة الزمنية إلى معرفة حضورية جماعية سارية في الوجدان وغير مشترطة بالحيثيات المختلفة».
الآن وبعد المفصل التاريخي الأكثر تأثيراً، ربما، في تاريخ المقاومة، والمتمثّل في الحرب الأخيرة ونتائجها، طرأت متغيّرات عميقة على طبيعة العلاقة بين المقاومة ومجتمعها. عمق هذا التحوّل يتأتّى من أنّ المقاومة، التي كانت تمثّل مجموعة الروّاد الذين حملوا عبء المسؤولية العامّة منذ عام 1982، قد تعرّضت لاستهداف قيادتها بشكل واسع وشامل، كما تعرّضت لاستهداف لقدراتها، ولكن ذلك لم يؤثّر في موقف مجتمعها ولا مقاتليها، وخيضت حرب دفاع عن الوجود كانت الأقسى والأطول مدّةً في تاريخ المقاومة بنجاح، وتمّ منع العدو من الاحتلال والاستقرار رغم المباغتة والاستهداف للمستوى القيادي والتسليحي.
هذه تجربة مختلفة عن المسار الذي قطعته المقاومة منذ بدايتها، حيث انطلقت كمجموعة، ثم كجماعة، ثم كمنظمة، وثم كقيادة للمجتمع، لكن الآن حصل تحوّل جديد، فهذه الطفرة التي بدأت في مجموعة وتحوّلت إلى قيادة للمجتمع، صبغت بتجربتها وبفكرها وبروحها الهوية العامّة لمجتمعها، بحيث أصبحت هوية أصيلة، فلا تحتاج المقاومة إلى الإقناع بجدواها وموقفها، وهذا بالتحديد ما يحاول العدو في مرحلة ما بعد الحرب العمل عليه لتقليصه وإضعافه، لأنه اكتشف أن تغييب القيادة واستهداف القدرة لم يغيّرا في الموقف من المقاومة، رغم التضحيات الجسام والتكاليف الهائلة. ولذلك هو يحاول أن يعطي الانطباع بأن جدوى المقاومة لم تعد كما كانت، من حيث الردع والحماية، وذلك من خلال عمليات مستمرة ذات وتيرة محددة.
يتشكّل أفق جديد لهذه التجربة وهذا المجتمع من رحم المعاناة والمواجهة القاسية، وهذا الأفق يُبنى على أساس أن المقاومة تحوّلت إلى أمّة، لم تعد حزباً أو فئة، لم تعد تياراً، ولم تعد تجربة تحتاج إلى بناء ذاتها، بل هي أمّة قائمة على سيادتها تعرف ذاتها وحقوقها وتدافع عنها، مثل سائر أمم الدنيا في حالتها الطبيعية. أمّا ما نشاهده في الأمم العربية والإسلامية من تخلٍّ عن السيادة والكرامة، فهذا انهيار إنساني شامل، لا يصح أن نقارن تجارب الصعود الاجتماعي به.
بدأت المقاومة في لحظة كانت تواجه مقولات معمّمة في لبنان والمنطقة: الدخول في العصر الإسرائيلي، العين لا تقاوم المخرز، وغيرهما من التعبيرات التي فرضت نفسها نتيجة المتغيرات آنذاك، خصوصاً مع وصول جيش الاحتلال إلى بيروت خلال 13 يوماً من بدء الهجوم.
وبذلت جهوداً هائلة وقدّمت دماءً غزيرة وسجّلت إنجازات متراكمة مع سنوات طويلة حتى استطاعت تغيير هذه الاعتقادات الباطلة، لكنها الآن، وحتى عندما تعرّضت لاستهداف بنيوي، لم تكن بحاجة إلى ممارسة عمليات إقناع؛ شبابها في متاريسهم منعوا تقدّم العدو رغم النيران الذكية والمدمرة المتواصلة لمدة شهرين كاملين، ومجتمعها يدعمهم معنوياً ومادياً وروحياً دون أن تتغيّر مواقع أقدامه. هذا الرسوخ هو مِن معالم المرحلة الجديدة لهذا المجتمع التكاملي الذي ينتقل من خبرة إلى أخرى ومن تحدٍّ إلى آخر ويتطوّر بالتدريج مع السنوات والعقود.
بعد التحوّل الجاري والناشئ من الحرب وآثارها، بدأ شعور جديد يتسرّب إلى شرائح كثيرة في مجتمع المقاومة، وخصوصاً الفئات الشبابية، وعلى اختلاف مشاربها الثقافية، هو الشعور بتحمّل المسؤولية في الشؤون العامّة
ارتكز التطوّر السياسي والفكري للمجتمع المقاوم إلى الثلّة المؤسّسة التي ألهمت وتجاوزت التحدّيات وأصبحت موضع ثقة في الاضطرابات والتحوّلات المختلفة، وكانت فئات متفاوتة تنظر بعين القلق إلى فقدان تلك الثلّة معتبرةً أنّ التجربة متعلّقة بها، خصوصاً شخص الأمين العام الشهيد، الذي صبغ ثلاثة عقود من التجربة بصبغته الخاصة، وبنى مجموعة مرتكزات تاريخية على مستوى الصراع: التحرير، والحماية، والردع، والأمن الممتدّ زمنياً.
تجربة الحرب، وبالطريقة التي حصلت فيها بالتحديد، سمحت بتحقيق الاستمرارية في لحظة التحدّي المباشر والذي يقترب من تهديد الوجود، بحيث انتقل هذا المجتمع من النظر إلى سيادته على أنها فعل استثنائي بُنيَ وفق شروط معيّنة وفي محطات زمنية محدّدة، إلى أنها حالة طبيعية أصيلة، غير مشروطة بظروف محددة. في المقابل، يحاول البرنامج الأميركي الإعلامي والسياسي أن يطرح بعض العبارات التي تخفّف من هذا التحوّل وتحتويه، وذلك بهدف تحويل استهداف المقاومة من عملية موضعية إلى فعالية ذات أثر زمني ممتد~.
غياب القيادة، التي كان هناك شكّ كبير في إمكانية الاستمرار في حال ارتحالها، أكسب هذا المجتمع ثقة ساهمت التحدّيات السياسية والأمنية بعد الحرب في لبنان في تطويرها؛ ثقة تولّد نوعاً من الاستقرار الخاص النابع من الشعور بالتحوّل إلى ما يمكن أن نسميه «الوضع الطبيعي»، المنطلق من قناعة عامّة وشاملة برفض العبودية للصهيونية وفروعها العربية والغربية. ثمة تآلف طبيعي تبلور مع الفكرة بدون حاجة إلى إقناع أو تحريض أو تثبيت، وساهمت في ذلك أحداث غزة الأليمة وانتهاك الاحتلال للأراضي السورية، فاللحظة التاريخية الموسومة بالتوحّش والطمع الصهيوني غير المحدود، تسهّل تكريس المفهوم السيادي ورفض الطاغوت بالمعنى القرآني العميق.
مساحة الاستمرارية والاستقرار بالمعنى الذي توضّح آنفاً، مع استمرار التحدّيات والشعور النسبي بالفراغ الذي خلقه غياب القيادة التي اعتاد مجتمع المقاومة عليها واعتمد على فعاليتها مكتفياً بدرجة محددة أو محدودة من المساهمة والمشاركة على اعتبار عدم وجود الحاجة إلى زيادة غير ضرورية، وما تركته الحرب القاسية من أثر في العمران والتركيب السياسي اللبناني، كل ذلك يولّد نطاقاً جديداً من المبادرة للشباب والفعالية الاجتماعية من الأجيال المختلفة والتخصصات والقدرات المتنوعة، بما يمكن أن يساهم: من جهة، في ترميم النقائص ومواكبة المتغيّرات وتحسين سرعة التكيّف وتخفيف الضغط على المؤسّسات الحزبية، في ظل انكفاء وتنكّر مؤسّسات الدولة لمسؤولياتها في محاولة لكبح تعافي مجتمع المقاومة، التي ينوء بعضها تحت أعباء غير مسبوقة.
ومن جهة أخرى، تُعين المبادرة في استكمال معالم النقلة التاريخية التي يخوضها مجتمع المقاومة في لبنان في هذه المرحلة، كونها تشكّل رافداً حيوياً لأي تحول جماعي إيجابي.
الأمن الممتد زمنياً والذي وفّرته المقاومة بين عامي 2006 و 2024، سمح للجمهور أن يمارس حياته الطبيعية فيما المقاومة تعمل في جبهات مختلفة لتوفير الحماية والردع. بعد التحوّل الجاري والناشئ من الحرب وآثارها، بدأ شعور جديد يتسرّب إلى شرائح كثيرة في مجتمع المقاومة، وخصوصاً الفئات الشبابية، وعلى اختلاف مشاربها الثقافية، هو الشعور بتحمّل المسؤولية في الشؤون العامّة، وذلك بقدر كل فاعل وناطق قدرة تأثيره واهتمامه واختصاصه؛ مسؤولية تاريخية اجتماعية منبثقة من هوية راسخة ومن ثقافة أخلاقية تقوم على الإيثار كرّستها تضحية سيّد الأمّة في سبيل المستضعفين ولو كانوا خارج البلاد، فكيف بالأهل والإخوة. هذا الشعور إذ يتحوّل إلى فعّالية يستكمل عملية التحوّل التاريخي ويؤهّل هذا المجتمع لتجاوز التحدّيات الحالية والتعامل مع الفرص المستقبلية.
هذه المتغيّرات العميقة المبنيّة على أساس التكيّف مع التحدّي، والتي تمثّل فرصة لنقلة اجتماعية تاريخية، في مسار التطوير الثقافي والأخلاقي والإداري لمجتمع المقاومة، تحتاج إلى يقظة وتعاون الجميع من كل الاتجاهات، كيما تتيسّر حماية الفرصة واستثمارها في الوقت المناسب، ودفعها بالاتجاهات الإيجابية، وتغذيتها بالتوجيه اللازم والدعم حيث الضرورة، وبذلك يتحوّل التهديد الذي شكّلته الحرب إلى فرصة تاريخية جديدة، يُبنى عليها للعقود الآتية، بقدر ما كان العدوّ يفترض أنّ الحرب سيكون لها أثر سلبي على روح المقاومة للعقود الآتية.
* مدير مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير