“المؤتمر الشعبي للسلام”؛ تساؤلات وملاحظات

“المؤتمر الشعبي للسلام”؛ تساؤلات وملاحظات
نتساءل نحن الفلسطينيين، خاصة الذين ثابروا على طرح تحقيق مصالحة تاريخية وتشييد تعايش عادل على أنقاض منظومة الهيمنة الاستعمارية والفصل العنصري، ما إذا كان لا يزال هذا الطرح صالحًا، بعد كل هذه الفظاعات التي يتورط فيها النظام والمجتمع الصهيونيان…
تُعتبر أصوات مما تبقى من اليسار “الليبرالي” الصهيوني، أو غير الصهيوني، عقد مؤتمر يهودي عربي للسلام، عملًا ثوريًا في ظلّ إدمان إسرائيل، نظامًا ومجتمعًا، على ممارسة الإبادة والعدوانية ضد كل من يرفع صوته لصالح السلام مع الفلسطينيين حتى لو كان هذا النداء للسلام فضفاضًا وغير محدّد. وقد بدأ التحريض من قبل المنظمات اليمينية التي تضغط على بلدية القدس لمنع انعقاده، مستجيبًا نائب البلدية لطلب فحص إمكانية منعه. ولكن هذا التوصيف، أي اعتبار عقده عملًا ثوريًا، وإن كان ينطوي على بعض الصحة في ظل الواقع الإسرائيلي الراهن، يحتاج لفحص جدّي، لتبيان الأوهام من الحقائق، ووضع النقاط على الحروف.
يُعقد ما بات يُعرف بـ”المؤتمر الشعبي للسلام” جلسته الثانية يوم الجمعة الموافق ٩ نيسان، في مدينة القدس. الجلسة الأولى عُقدت في تل أبيب العام الماضي، وعبّر، في حينه، المنظمون، القادمون من أكثر من خمسين منظمة أو مجموعة، عن ابتهاجهم البالغ بالعدد الذي قُدّر بستة آلاف، معظمهم من اليهود. مع ذلك، لم نرَ منذ عقده تأثيرًا على الرأي الإسرائيلي أو على الحكومة، مع أن أموالًا داعمة كثيرة تأتي من التيار الصهيوني “الليبرالي” الأميركي، الذي يعارض سياسة نتنياهو.
مؤخرًا، عبّرت الكاتبة والناشطة الإسرائيلية المناهضة للصهيونية، أورلي نوي، في مقال نقدي نشرته في المنصة اليسارية الإسرائيلية “سيحاة ميكوميت”، عن خيبة أملها من محتوى البرنامج والتوجهات. وقالت إنه من خلال اطّلاعها على مواد المؤتمر والورشات، يتبين أن “اليسار الإسرائيلي يواصل الهرب إلى منطقة الراحة، ومن مواجهة الأسئلة الوجودية التي تطرحها اللحظة الراهنة”.
وتشرح القول بملاحظتها أن المواد تتحدث عن إنهاء الحرب وعن الحلول السياسية، دون ذكر كلمة إبادة. وأن المؤتمر ينقصه تأطير صحيح للصراع، فكريًا وسياسيًا، بمعنى أن الصراع ليس بين قوتين متساويتين في الحق والمسؤولية، بل هو صراع كولونيالي. وترفض الادعاء، الوارد بأوراق المؤتمر، بأن المجتمع الإسرائيلي تحوّل إلى الفاشية بسبب غياب البدائل المطروحة أمامه، متجاهلًا الحقيقة التي نعرفها أن إسرائيل عملت بنجاح على تدمير النظام الفلسطيني، وتقويض السلطة الفلسطينية، ونسفت كل البدائل.
نتساءل نحن الفلسطينيين، خاصة الذين ثابروا على طرح تحقيق مصالحة تاريخية وتشييد تعايش عادل على أنقاض منظومة الهيمنة الاستعمارية والفصل العنصري، ما إذا كان لا يزال هذا الطرح صالحًا، بعد كل هذه الفظاعات التي يتورط فيها النظام والمجتمع الصهيونيان. قبل حرب الإبادة، وانبعاث الوحشية الصهيونية بنسختها العدمية، كان هذا الهدف، أي إقامة نظام ديمقراطي عادل في فلسطين، بل حتى حل الدولتين الظالم، أو حتى أقل من ذلك – حكم ذاتي مثلًا، يبدو طوباويًا وبعيد المنال، فكم بالحري بعد كل هذا الانحدار الأخلاقي والنزعة الاستئصالية، التي ترسخت في المجتمع الإسرائيلي.
لم يحدث هذا الانحدار العنصري إلى إبادة ومحو فجأةً، بل هو ذروة صيرورة ممتدة لسنوات، بل نتاج استراتيجية مخططة ومرسومة، وقد رصدها الباحثون، واستكشفوا مبكرًا مآلاتها الراهنة والمستقبلية. لكن لا الداعمون للكيان في أوروبا وأميركا، ولا الأنظمة العربية، ومنها نظام محمود عباس وحسين الشيخ، أبدوا أي اكتراث، وإن تحدثوا في هذا الشأن، فلم يتعدَّ الحديث التعبير عن القلق، أو إصدار بيانات الإدانة. ولهذا لم يكن هجوم ٧ أكتوبر إلا فرصة لتسريع مخطط شيطاني قديم، كما كشفتها التصريحات والوقائع والممارسات الصهيونية بصورة لا لبس فيها.
والسؤال الآخر، هل ما وصل إليه المجتمع الإسرائيلي من تبلّد وانغلاق لا رجعة عنه؟ أو هل سيصحو هذا المجتمع على الكارثة التي ألحقها بالشعب الفلسطيني؟ وهل سيدرك قريبًا ما وصلت إليه دولته بين الأمم من احتقار ونفور، وكذلك بنفسه، جماعة وأفرادًا؟ بل هل هناك إمكانية أن يستعيد بعضًا من العقل المفقود، والمشحون بالكراهية العمياء والبلادة؟ وإذا كان سيصحو، كم من الوقت سيستغرق، كوننا ندرك أن لا مجتمع يصحو من تلقاء نفسه، بل بفعل مبادرات واعية، تضطلع بها قوى ثورية أو أطر أو مجموعات من النشطاء والمثقفين، أو كلها مجتمعة؟ وهل ستظهر تلك الأطر أو المثقفون الذين يمتلكون الشجاعة الفكرية والسياسية والأخلاقية للوقوف في وجه العدمية والإجرام؟ كما أن ثمة أسئلة أخرى تتصل بالنزف المستمر، أي كم من الدماء والأرواح والخسارات المادية سيتكبد شعب فلسطين إلى حين حدوث التحول؟
من أجل المحاولة للإجابة على هذه الأسئلة، واستشراف آفاق التحولات المستقبلية والفرص، في إطار ممارسة خطاب الأمل ليس كشعور بل كفعل، لا بد من استحضار زبدة ما أنتجه باحثون جديون إسرائيليون وفلسطينيون، عن مسار التحولات في إسرائيل مجتمعًا ودولة، في الثلاثين عامًا الماضية. الملخص: كيانٌ مغلقٌ بأيديولوجيا دموية وبقوانين عنصرية سافرة، يحكمه نظامٌ تجتمع فيه القومية الصهيونية المتطرفة وأصحاب العقيدة التوراتية المسيانية الإبادية، التي تسد الباب أمام أي شكل من التسويات. ليس هذا فحسب، بل أيضًا فإن المعارضة تُشكّل وجهًا آخر لهذا الانغلاق ورفض الحلول السياسية العادلة، مما يعني أننا أمام منظومة ذات أيديولوجيا عدوانية واحدة.
نظامٌ من هذه الطينة لا يهتز أو حتى يُضعف، من خلال مؤتمرات ذات شعارات باهتة وغير جذرية. لا يمكن مواجهة نظام عدمي متوحش من خلال تحاشي مواجهته فكريًا وأخلاقيًا بصورة جذرية. لقد رفعت ما يسمى قوى السلام الصهيونية، هذه الشعارات على مدار عشرات السنين حتى عندما كان النظام والمجتمع أقل تطرفًا، أو حين كان متسع أكبر من حرية الرأي والتنظيم، ولكنها فشلت في إحداث أي تغيير، بل للمفارقة تحول معظمها لليمين الأكثر عنصرية وعدوانية للشعب الفلسطيني وللعرب عمومًا. وهكذا بات ما يسمى باليسار الصهيوني وغير الصهيوني مستقرًا على هامش المجتمع والدولة. وهنا لا بد من إعادة التأكيد أن الفاعل الأساسي في التغيير هو الشعب الفلسطيني ونضاله، وإن التراجعات التكتيكية التي اضطر المستعمر لقبولها كانت نتاج المقاومة الفلسطينية.
ما البديل إذًا؟
أن تتعزز الجبهة العربية، الفلسطينية-اليهودية، الداخلية والخارجية، المعادية للصهيونية، وأن تتبنى تصورًا ورؤية تحررية ديمقراطية إنسانية، تعمل على تحرير الفلسطينيين من الاستعمار والأبارتهايد، وتحرير اليهود من الأيديولوجيا الصهيونية، تحت شعار تحقيق العدالة على المدى الإستراتيجي، بالتوازي مع العمل اليومي للضغط لوقف جرائم الإبادة. هذه الجبهة، وبضمنها أحرار العالم، قائمة في الخارج وقد أذهلت الجميع باتساعها وجرأتها، وهي مرشحة، وقادرة على إعادة ترتيب صفوفها وتقويتها بعد تعرضها لحملات ملاحقة وإرهاب من سلطات الدول الغربية.
ليس القصد مما تقدم فتح مواجهة مع “المؤتمر الشعبي للسلام”، الذي أيضًا له امتدادٌ عالمي، وخاصة في أميركا، والذي قد يستقطب قوى وشرائح غير راديكالية، بل القصد فتح نقاش حقيقي مع طروحاته وتوجهاته، باتجاه بلورة رؤية واستراتيجية عمل لأي حراك نحو سلام حقيقي لا يمكن أن يتحقق دون تحقيق العدالة، وبدون هدم منظومات الفصل العنصري والقهر. كما أنه حان الوقت لتحويل شعار “التعايش”، الكلمة التي كما شعار “السلام”، باتت شعارًا بدون معنى، إلى شعار المقاومة المشتركة، الذي بات يتبناه مثقفون وناشطون إسرائيليون تقدميون. وإذا كان شعار المقاومة الشعبية المدنية هو المطروح فهذا يساعد على توسيع المشاركة اليهودية، وبالتأكيد الفلسطينية. إن من يريد من اليهود الانخراط في النضال المشترك يجب أن يدرك أن التحرر يخصه هو كما يخص الفلسطيني، وأن يضطلع بدور في عملية تفكيك نظام الأبارتهايد القائم، وبسط العدالة. إن التعايش القائم على العدالة والمساواة يتجسد في خضم خوض مقاومة مشتركة، وأثناء بناء نظام ديمقراطي مستقبلي.