منوعات

رسالة من تحت الركام: عدل صغير لطفولة لم تكتمل

رسالة من تحت الركام: عدل صغير لطفولة لم تكتمل

مريم مشتاوي

أنا لا أخرج إليكم اليوم لأقول «نحن نُباد»، قلناها كثيراً. قلناها حين احترق إخوتي أحياء، حين قصفت غرفتي وأنا نائمة، حين جاع بطني، وبكيت كثيراً كثيراً. قلناها، وسُمع صوتنا، لكن لم يُنصَف.
أنا لا أخرج لأكرر ما بات محفوظاً لديكم كعنوان عابر في شريط الأخبار: نحن نقصف… نحن نحترق… نحن ننام على بطون خاوية… نحن نحاصر ونُنسى. بل أخرج اليوم لأقول شيئاً مختلفاً: أنا طفلة، فلماذا سرقت طفولتي؟ لماذا صرت أحمل على ظهري الصغير ألماً أكبر من عمري؟ لماذا أقف في طابور الخبز بدل طابور المدرسة؟ ولماذا أفتش عن كنزة أمي بين الركام بدل أن أبحث عن لعبتي؟
أنا، الطفلة التي لم تبلغ بعد عقدها الأول، أعرف القصف أكثر من القصص. أعرف صوت الطائرات أكثر من صوت الحكايات. أعرف الجوع أكثر من الحلوى. أعرف الخوف أكثر من الحنان. أنا، التي كانت تحب اللون الزهري… نسيته…نعم نسيته… وصار العالم من حولي رمادياً. كان لي فستان للأعياد، لم أرتده قط. كانت لي دمية، لم تعُد تملك رأساً وصرت أخافها. كانت لي أم، قالت لي يومًا: «نامي يا حبيبتي» … ولم تقم بعدها.
أنا لا أطلب منكم شفقة، لست بحاجة إلى دموع تذرفونها ثم تمسحونها بسرعة، ولا إلى كلمات تعاطف تلقونها ثم تنصرفون. أنا أطلب العدل. فقط العدل. والعدل، حين يُعطى لطفل، يصبح نوراً في قلب هذا العالم.
لماذا عليّ أن أُسأل عن أشياء تفوق قدرتي على الفهم؟ لماذا لا أملك «أباً» كما لزميلتي؟ لماذا لا أملك «بيتاً» كما لصديقتي؟ لماذا لا أملك حتى «يوماً عادياً» كما لأولئك الذين يشاهدوننا من خلف الشاشات؟
أنا لا أفهم في السياسة، ولا في الصراعات، لكنني أفهم جيداً أن الطفل الذي ينجو من القصف لا ينجو من الحزن. وأفهم أن الطفل الذي يولد تحت الحصار، يولد بنصف قلب ونصف حلم.
أحلم أحياناً، نعم، لكن أحلامي متعبة. أحلم أن أستيقظ يوماً على صوت عصافير، لا على صفارات الإنذار. أحلم أن أعود من المدرسة لأجد أمي بانتظاري، لا أن أعود لأحتضن صورة لها. أحلم فقط… أن أكون طفلة.
هل هذا كثير؟ أن أضحك بلا خوف، أن أكلّم أخي من غير أن أخاف أن تنهي القذيفة حديثي، أن أكتب واجبي المدرسي على دفتر، لا على قصاصة كرتون من صندوق المعونات.
أنا لا أريد أن أكون بطلة. ولا أن أُخلّد في الأخبار. أريد أن أعيش، ببساطة.
هل يدرك هذا العالم أن الطفولة لا تؤجَّل؟ أن القلب الصغير إذا ما انكسر مبكراً، لا يُصلَح؟ أن العدالة ليست قراراً أممياً، بل فعل إنساني بسيط يبدأ من الطفل؟
نحن، أطفال غزة، لا نطلب المستحيل. نحن لا نريد منكم أكثر من أن تتركونا نكبر بسلام. أن تمنحونا فرصة لنحب الحياة، قبل أن نتعلم كيف نحتمي من الموت.
أنا أتكلم الآن نيابةً عن نفسي، وعن زملائي الذين ماتوا قبل أن يعرفوا ما هي الحياة. عن سلمى التي احترق بيتها، عن يوسف الذي فَقَدَ قدمه، عن نور التي صارت تحلم كل ليلة بأن أمها تعود، ثم تستيقظ باكية.
أنا أكتب الآن من تحت الأنقاض، لكن روحي لا تزال فوق التراب. أنا أصرخ في وجه العالم: كفى موتاً. كفى صمتاً. كفى تجاهلاً.

أعطونا يوماً من الأمان، وسوف نبني منه وطناً. أعطونا ضوءاً في عتمتنا، وسوف نحوله شمساً. أعطونا عدل الطفولة، وسوف نعلّمكم كيف يكون السلام.
أنا الطفلة التي وُلدت في الحرب، وعاشت في الحصار، وتربت بين الركام، لكنني ما زلت أحمل بذرة الحلم، ولا أزال أؤمن أن في هذا العالم، من لم يمت قلبه بعد.
أنا لست رقماً في تقرير، ولا صورة في خبر عاجل، ولا صدى لصوت انفجار. أنا إنسانة. أنا طفلة. ولي حق، كما لكل طفل في هذا العالم.

استُشهد المُنشد الصغير
وبقي صوته يغنّي للعدالة

لم يكن حسن علاء عياد مغنياً محترفاً، ولا طالباً في معهد فنون، لم يكن يحمل شهادة في الموسيقى، ولا يطمح إلى أضواء المسرح. كان مجرد طفل فلسطيني، من أولئك الذين ولدوا في العتمة وتربوا على أصوات القصف، من أولئك الذين باتت دقّات قلوبهم تضاهي صوت الطائرات، ويتقنون الانتظار في طوابير الحياة المعلّقة. لكن حسن لم يكن طفلاً عادياً. كان صوته أكبر من عمره، وكان قلبه أوسع من حدود غزة. بكلماته المعدلة من أغنية ثورية قديمة، أعاد صياغة الألم، أعاد نحت المعاناة في لحن يعرفه الناس، لكنهم نسوه أو خجلوا من تكراره. غنّى: اشهد يا عالم وهدموا بيوت، والعرب بنومة هنية، إحنا دقنا طعم الموت، غارة بحرية وبرية، سدوا المعابر بالجوع، والناس تموت، شنوا هالحرب النازية، والدبابات تضل تدمر حتى تفوت… لم يغنّها للكاميرا، بل للحقيقة. لم يكن يسعى إلى انتشار، بل إلى أن يسمعه أحد، أيّ أحد، قبل أن يغلق الصمت الباب على جرح غزة، ويتركها تنزف وحيدة.
حسن، الذي حمل صوته كما يحمل غيره الحجارة، لم يرفع شعاراً، ولم يكتب بياناً سياسياً، لكنه قال ما لم يقله الكبار، بكلمات نازفة، وصوت ملآن بالصدق، طفل يغني وكأنه يقاوم، وكأنّه وجد في الغناء خلاصاً من العجز، وسلاحاً أخيراً ضد الغياب. لكن الغارة الإسرائيلية الأخيرة لم تفرّق بين من يصرخ ومن يغني، بين من يحمل السلاح ومن يحمل الحنجرة. وفي لحظة واحدة، اختفى الصوت. اختنق اللحن. سقط الطفل. حسن علاء عياد… شهيد جديد يضاف إلى سجل الطفولة المنهوبة في غزة. لكن ما يجعله مختلفاً ليس فقط أنه غنّى، بل أنه قال الحقيقة وهو يبتسم. قالها وهو يعرف أن الأغنية لا تردّ الصاروخ، ولا تحمي الجدران، لكنها على الأقل تحفظ الوجع من النسيان.
الناس في غزة شيّعته كما يشيّعون كل شهيد، على أكتاف من بقي من الأحياء، وقلوبهم ترتجف من السؤال: من القادم؟ لكن في تشييعه، كان الصمت مشوباً بصدى صوته. كانت الأغنية التي أنشدها، تخرج من الحناجر المكسورة، وكأنها نشيد وداع أخير. لم يكن حسن يطلب الكثير، لا في حياته ولا في موته. كان يريد فقط أن يسمعه العالم. أن يعلم أن هناك طفلاً في غزة يغنّي، لا ليسلي نفسه، بل ليقول: نحن هنا. نحن نقتل، لكننا لا نصمت.
هو الذي غنّى عن الجوع والحصار والموت اليومي، كان في الحقيقة يغني عن الطفولة التي تذبح، عن المعابر المسدودة بالخذلان، عن أمة تنام في الوقت الخطأ، وتصحو متأخرة جداً. وفي رحيله، لم يعد الأمر مجرّد استشهاد طفل آخر. بل اختفاء صوت، صوت كان يجيد تحويل الكلمات إلى خناجر، ويعرف كيف يجعل من الأغنية مرآة تكشف قبح العالم.
لقد غنّى حسن عن بيروت، وعن غزة، وعن كل العواصم التي عرفت القصف ونسيت الحكاية. غنّى عن المذابح القديمة بصوت طفل صغير، ليقول لنا إن المأساة لم تتغير، فقط تبدّلت الأماكن. غنّى ليوقظ، ليذكر، ليقول: لا تنسو. لكننا، كالعادة، تأخرنا. حين يغتال الصوت، تغتال الذاكرة. وحين يدفن الطفل، يُدفن معه شيء من ضمير العالم.
حسن لم يعد موجوداً، لكن أغنيته باقية، تتردّد في الأزقة المدمّرة، وفي المدارس المغلقة، وفي الأحلام المبتورة لأطفال غزة.

 كاتبة لبنانيّة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب