منوعات

في حضرة الإبادة: فنان من غزة يرسم على علب المساعدات ليقاوم النسيان

في حضرة الإبادة: فنان من غزة يرسم على علب المساعدات ليقاوم النسيان

فايزة هنداوي

القاهرة –  في قلب المذبحة المستمرة في غزة، حيث يموت الناس جوعًا وقصفًا، وحيث تتكالب آلة الحرب الإسرائيلية لتسحق كل ما هو حيّ، لا ينهار كل شيء. هناك ما يُولد من تحت الركام، هناك فنّ ينهض من العدم، ويقول للعالم إن غزة لا تزال تنبض، رغم الجوع والحصار والموت. هنا، حيث تُرتكب الإبادة على مرأى من العالم، يتحوّل الإبداع إلى فعل مقاومة، ويتحوّل الفنان إلى شاهد وشهيد ومُقاتل دون سلاح.
من بين هذه اللوحة السوداء، يطلّ الفنان التشكيلي الشاب محمد المغربي، حاملاً في يديه بقايا معلبات معدنية، ليستنبط منها ألوانًا تنبض بالحياة، ويحوّلها إلى لوحات فنية توثق الحياة اليومية في ظلّ الحرب والحصار. في زمنٍ تُمنع فيه حتى الفرشاة، يجعل المغربي من بقايا المساعدات الإنسانية أداة فنية، تروي تفاصيل غزة المنسية خلف الجدران والعناوين العاجلة.
مرسم المغربي، الذي دمره القصف الإسرائيلي، لم يكن نهاية حكاية، بل بداية لفصل جديد. لم يستسلم، بل جمع علب الطعام التي بالكاد تصل إلى سكان القطاع من مراكز التكية النادرة، وبدأ يرسم عليها مشاهد من حياة الفلسطينيين المحاصرين. هو لا يرسم للزينة، بل ليحفظ الذاكرة، ويواجه بالصورة محاولات المحو والطمس.
وسط واقع مأساوي، لم يكن من السهل الشروع في هذا المشروع. استغرق الأمر شهرًا ونصف الشهر من العمل الشاق، وسط دهشة المحيطين به، الذين تعودوا استخدام العلب للزراعة أو التخلص منها، لا لتخليد الحياة فوقها. لكن إصرار محمد على إيصال صوته، ولو عبر قطعة من معدن، غلب الصمت والخوف، وخرج مشروعه إلى النور كشهادة بصرية على معاناة الناس وصبرهم.
ومع تزايد وتيرة استهداف الاحتلال للقطاع الثقافي، يُدرك المغربي أنه لا يقاوم فقط القتل، بل يقاوم سياسة مُمَنهجة لطمس الهوية الفلسطينية. فمنذ اندلاع الحرب الأخيرة، استُهدف الفن والثقافة بشكل مباشر: 440 فنانًا وناشطًا ثقافيًا قُتلوا، 32 مؤسسة ثقافية دُمرت كليًا أو جزئيًا، والمسارح والمعارض لم تسلم من نيران الاحتلال. هذه ليست أضرارًا جانبية، بل سياسة واضحة: قتل الحكاية كما يُقتل الجسد.
يقول المغربي عن مشروعه: «بعد أن دُمر مرسمي، فكرت في ما تبقى، فكانت علب المساعدات هي الشيء الوحيد المتاح. بدأت أجمعها من التكايا رغم ندرتها، وقررت أن أقاوم بطريقتي».
هو لا ينتظر الإلهام، بل يخلقه من قلب الألم. ولا يطلب الشفقة، بل يُطالب بحقّه في أن يُكمل دراسته العليا في الفن، وأن يخرج للعالم ليتعلّم من مدارسه، ثم يعود إلى بلده، لاجئًا يحمل الفن كجواز سفر للمستقبل.
وفي رسالة مؤثرة وجهها للفنانين حول العالم، قال المغربي: «مهما رسمتم، لن تستطيعوا أن تصفوا الألم كما يصفه الفنان الغزي، لأنه يرسم بلده من رحم».

«القدس العربي»:

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب