مقالات

رأيت بعيني وسمعت بأذني -صدام حسين …… خصال ومواقف- بقلم الدكتور  ضرغام الدباغ

بقلم الدكتور  ضرغام الدباغ

رأيت بعيني وسمعت بأذني -صدام حسين …… خصال ومواقف-
بقلم الدكتور  ضرغام الدباغ / برلين
لست ممن يحرقون البخور لأحد مهما بلغت درجة إعجابي به، فأنا لا أومن بالحب والكره أو الإعجاب لدرجة الانبهار في كل شيئ، لا سيما في السياسة. والأمر في جميع الأحوال بتقديري ليس أكثر من فحص للفكرة، أي فكرة أو للحالة أي حالة، وتقيمها والحكم عليها بموضوعية، ولست ممن يؤمنون بأن الشخصية القيادة الفذة تصنع التاريخ (وأنا مؤرخ مجاز في فلسفة التاريخ) وبالتالي يمكن (للشخصية … أي شخصية) أن تبني مكانتها وتشيد عروش عاجية عبر شعراء أو كتاب يتصدون لبناء أمجاد غير واقعية، فالأمر أولاً وأخيراً سينتهي إلى عبث غير مفيد، بل وربما يلحق الضرر بقائله وبالقائد الذي يمجد. أما من يستطيع أن يتجاوز نفسه ويقول الحق، فذلك هو من يكسب الحكمة …..
لقد عارضت الرئيس الراحل صدام حسين سنين طويلة(منذ عام 1963 إلى نيسان 2003)، ونلت بسبب معارضتي الكثير من المتاعب، ومن تلك أني حكمت بالإعدام مرتين، وبقيت نزيل سجن أبو غريب ستة عشر عاماً كاملة، أقول هذا فقط لأدلل أن شهادتي للتاريخ صادقة لا لبس فيها.
لن أدخل في مجادلة لا طائل منها ولا تفضي إلى نتيجة، إن كان صدام ديكتاتوراً أم ديمقراطياً، فليس هناك سويسرا في الشرق الأوسط، كما لا يوجد سويسريون، وما يحيط بالعراق من دول وأنظمة وحكام لا أرى بينهم للأسف ديمقراطي أو شوروي …. (في الشعارات نعم، لكن في الحقيقة شيئ آخر) لا في الماضي ولا حالياً، هناك أنظمة جنينية يحتمل أن ينجم عنها ديمقراطية ما بشكل ما، وبقدر ما، وهناك أخرى تحطمت لأسباب وظروف شتى (العراق الملكي ــ النظام اللبناني قبل الاستيلاء عليه) وربما ليس في المستقبل القريب، وصدام حسين كان أبن عصره وزمانه ومكانه، جغرافياً وسياسياً وتاريخياً. ولكن لنرصد الحقائق المادية المجردة بصرف النظر عما يعجب أحداً أو يغضب أحداً، فلابد أن نتعلم أخيراً احترام الحقائق.
كانت ثمة خصال فريدة في صدام لا توجد في قادة عصره، أو نادرة.
• النزاهة : كان صدام مبتلياً بعلو النفس، وممتلئ بالكبرياء، (حتى أعداؤه عرفوا ذلك عنه فأستغلوها) صدام أمتلك الشجاعة والثقة بالنفس ذات مرة ليقول أنه أرتدى الحذاء لأول مرة في حياته عندما كان في التاسعة من العمر، وثقته بنفسه هذه لم تكن تدعه ينحني لإرادة أجنبية. وصدام رحل عن دنياه وهو لا يمتلك داراً ولو شقة بسيطة، لا في العراق ولا خارجه. وعائلته اليوم تفرقت في كل مكان تعاني العوز، وكان بوسعه امتلاك ثروات قارون لو شاء ذلك.
• الوطنية: نجح خصوم صدام بتوجيه الشتائم، والمقذع منها، وتوجيه صنوف الاتهامات إليه، ولكن لم يستطع أحد، شخصاً كان أو جهة أن يثبت أن صدام كان يوماً يعمل لمصلحة قوة أجنبية كائناً من كانت. محلية أو عربية، أو دولية، ولهذا كان محترماً مهاب الجانب، عملاقاً ولهذا لم يدخل في جيب أحد، (وليس هناك جيب يسعه)، ولم يكن وكيل مصالح لأحد (سركال سياسة كما يفعلون اليوم …!)، بل كان بوسعه أن يحكم العراق لسنين طويلة لو تنازل عن القليل من سيادة بلاده …. القليل فحسب ..! وسأثبت ذلك ..!
• السمو عن الطائفية: صدام لم يكن طائفياً، بل يعرف المقربون منه أن صدام لم يكن يثيره أعصابه ويغضبه شيئ قدر الحديث عن الطائفية، ومعاونيه وأصدقاءه المقربين جداً كانوا من جميع الفئات.
• كان صدام يمتلك في أعماقه روحاً كبيرة وقوية ذات شكيمة وبأس، وشعوراً مرهفاً بالتاريخ.، وإحساساً عال بالزمن، ووعياً (ربما فطري أو ناجمة عن تربية شخصية، وليس ناجماً عن ثقافة كبيرة (بالتناقضات / الديالكتيك)، والتعامل معها.
ولي فيما أقول مشاهدات عيانية، والأخرى معلومات لمستها بنفسي.
كان التفاز في السجن الوسيلة الوحيدة (تقريباً) للاتصال بالخارج، وكنا نشاهد لقاءات صدام حسين في مناسبات ومنها ما لا تنسى، أظهر فيها الرئيس الراحل ثراء روحياً لا مثيل له، ثراء داخلياً وعمقاً وإنسانية مذهلة، ترغم المشاهد على قول الحق حتى وإن كان في معسكر الخصومة، وأعترف أني انبهرت بها أيما انبهار، رغم حصانتي الشخصية والعلمية من الحب والكره، وأنا أعرف بدقة كسياسي وكمؤرخ ما معنى أن يكون المرء قائداً، وأن يكون البلد بأسره من مسؤولياته، وأن يكون هذا البلد بحجم العراق وفي حالة الحرب وأي حرب…. ولكني أعلم أيضاً أن رئيس العراق هو رئيس وقائد عربي ومسلم كبير يقود بلداً كبيراً، في مرحلة صعبة بكل مفرداتها، فعليه إذن بل هو ملزم أن يعطي الأمثولات الكبيرة، وأن يحلق إلى شاهق غير اعتيادي، وقد فعل ذلك صدام حسين بجدارة، نقول ذلك للتاريخ …..
الحادثة الأولى كانت : رأيته بعيني وسمعته بأذني، في إحدى المعارك في الحرب العراقية ــ الإيرانية، أسر فيها الجيش العراقي وعلى الأرض العراقية العشرات من الأطفال الإيرانيين، الذين استخدموا كدروع بشرية ومفجرات ألغام (على الأرجح في معارك شرق البصرة) وتصادف في تلك الأيام مناسبة معينة لا تسعفني ذاكرتي اليوم لتذكرها (ربما يوم الطفل العربي)، فبادر الرئيس الراحل بإطلاق سراح الأطفال الإيرانيين كلهم، وبدون تعويض، أو القيام بالمثل، رغم أن الإيرانيين كانوا يحتجزون أعداد أكبر من الأسرى العراقيين، ومصلحة العراق تكمن بالاحتفاظ بأعداد كبيرة من الأسرى، وكان بوسعه أن يخوض حملة إعلامية عالمية بهذا الصدد ويكسبها، ولكن كبر روحه لم تدعه أن يستغل هذا الموقف..
الحادثة الثانية كانت: رأيته بعيني وسمعته بأذني، يحدث القادة العسكريين في معركة تحرير الفاو (1988) بجهاز الهاتف الميداني يدعو قادة الجيش في جبهات القتال في الفاو (خور عبدالله، المملحة، شط العرب) أن يدعوا الإيرانيين يهربون وليعبروا شط العرب إلى ضفتهم (الأراضي الإيرانية). وكانت القوات العراقية قد أطبقت عليهم، وكان بوسعها أن تأخذ كل من هو متواجد على أرض شبه جزيرة الفاو أسيراً، أو يقتل في ميدان المعركة، والفاو كلفت العراق ما كلفت من التضحيات، والمعركة لم تكن سهلة، وأعداد الأسرى العراقيين هي أعلى من أعدادهم في قبضة العراقيين، ومع ذلك يأمر هذا القائد ضباطه من القادة أن يدعوا الجنود الإيرانيين يفرون بجلودهم إنقاذاً لهم من الموت … أو الأسر … لم أرى ولم أسمع ولم أقرأ حادثة مماثلة في التاريخ، أن يكون العدو في راحة يدك تقبض عليه بسهولة ويسر، فتتركه يذهب مجاناً …
الحادثة الثالثة كان : اتفقت مع أحد الاخوة بالعمل معه (وهو ضابط برتبة لواء ركن ـ دكتور وأستاذاً في العلوم السياسية) في إعداد بحث استراتيجي عن موضوعات الأمن القومي، وهو مشروع كان برسم التقديم إلى القيادة، ولإطلاع الرئيس صدام حسين. وعندما شرعنا بمقدمات البحث ومن ذلك إعداد فهرس محتويات وخطة البحث (Conception) والبحث في هذه الحالة سيتطرق إلى أن أولى مخاطر الأمن القومي على العراق بل ومشرق الأمة العربية يكمن في إيران المحكومة بالتوسع شرقاً لإيجاد مجال حيوي لها ( Living space) وهي ما تسعى من أجل تحقيقه في كافة العصور والعهود، والأمر لا علاقة له بالدين والطائفية والشعارات الدينية ولا بقدر أنملة واحدة، فهذا مشروع دولة، وهم اتخذوا من هذه الشعارات (بذكاء أو شطارة) ومن ارتداها مطايا توصلهم إلى أهدافهم(ولا عجب أن يهلل لمشروعه داخلياً الجهلة وأشباه الأميين، وخارجياً أعداء العراق)، وخلقوا لها المؤسسات والمصالح. ومن أجل إطلاق وعي عراقي يصب في مجرى الأمن القومي للوطن والأمة، لابد أن يتطرق الأمر إلى هذه الأقنعة التي يتخذها نظام ملالي إيران كدروع ثقافية، يتمترس ورائها.
ومحضور أن تتحدث في حضرة صدام عن طوائف عراقية، ففي عرف صدام لا توجد طوائف، بل هناك شعب عراقي واحد. فأستغربت، ومحدثي بالإضافة إلى مستواه العلمي، كان مسؤولاً رفيعاً في جهاز حساس، وهو يدرك الحقائق الموضوعية، السارة وغير السارة، وعليه هو وغيره وكل من يريد أن يتعامل مع الحقائق بوصفها معطيات مادية، قابلة للجرد وللفحص والتدقيق، قال لي أنه يفهم ذلك بدقة، ولكن الرئيس يرفض ذلك بصفة قاطعة، بل ينهى كل من يتحدث بهذه اللهجة وربما يزجره أو يعاقبه. بل وقيل لي أن حتى الفريق عبد حمود (سكرتيره ومرافقه الأقدم) لا يجرأ على الحديث أمامه بهذه المفردات.
وهنا فاجأني الأخ، بالأحرى الزميل الباحث، بأن هذا الأمر محظور التحدث به أمام الرئيس صدام. فالحلقة المقربة من الرئيس كانت من شتى فئات العراقيين، وبعضهم كانوا من أصدقائه المقربين، يسهر في بيوتهم، ويتزاور معهم عائلياً.
الحادثة الرابعة كانت: علمت …. أقول علمت (معلومة وليس تحليل)… أن الولايات المتحدة عرضت على صدام أن يمنحها قاعدة الوليد (H3) بعقد رسمي ويرفع الحصار وما كان وسيكون، وخذ ما تشاء، بما في ذلك أقليم كردستان، ولكن الرجل أبى بشهامة ومثالية مفرطة، قائلاً لقد ناضل شعبنا العراقي نضالاً مريراً للخلاص من القواعد الأجنبية، ولن أعيدها بنفسي أبداً مهما حدث.
الحادثة الخامسة كانت: روى لي مدير الصناعات الجلدية (في السجن)، وكان ينتقد نظام صدام بالحق والباطل، ولكنه قال لي: للأنصاف نقول أن صدام كان يؤكد علينا أن نطور الصناعات الجلدية إلى أقصى درجة، وقال مما أذهل الحضور (وبالطبع أذهلني) أن صدام قال لهم بكل بساطة، أنه لم يرتدي الحذاء إلى أن صار عمرة تسعة سنوات أو نحو ذلك، ويريد بل يحرص أن يرتدي كل عراقي حذاء فاخراً وبسعر زهيد ..
اليوم لنتأمل فقط، ولنتذكر إن نفعت الذكرى.. ربما ان الأمر لم يعيد يفيد إلا في استخلاص العبر، وبتقديري هذه مسألة بالغة الأهمية.. أن نتعلم ونستخلص العبر.. ليس عيباً أن نتعلم، ونراجع أنفسنا، ونتراجع، بل العيب كل العيب أن لا يتعلم المرء من دروس دفع ثمنها.. وصدام حسين اليوم في عالم آخر، بعيد عن أيدي البشر ناهيك عن ألسنتهم وأقلامهم، ولا يأمل شيئاً ممن يهاجمه أو ممن يثني عليه، كل شبئ صار في الماضي، ولكن العراق وشعب العراق باق، وأمامنا تاريخ سنعيشه كل بقدره وقيمته.. ويقيم فيه القادة بأنصاف.
لنكن منصفين مع أنفسنا لينصفنا الزمن
نتعلم من الماضي لنكسب المستقبل
هذه هي العبرة الوحيدة …. وهي ما دفعتني لكتابة هذا المقال
والله على ما أقول شهيد ……

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب