لماذا تخيفهم صور أطفال غزة؟

لماذا تخيفهم صور أطفال غزة؟
نزولًا عند ضرورة إحكام التعتيم على مشهد الإبادة الجارية في غزة، ما زالت إسرائيل تمنع منذ 19 شهرًا دخول أي صحافي أجنبي إلى قطاع غزة، إلا في حالات نادرة وباستدعاء من الجيش الإسرائيلي وخدمة لأهداف دعائية محددة…
غطّى النقاش حول هوية عميدة جامعة حيفا، التي صدر باسمها قرار منع رفع صور أطفال غزة ضحايا حرب الإبادة، في باحات الحرم الجامعي، على جوهر الفعل المستنكَر الذي تمارسه الأكاديميا الإسرائيلية المنضوية تحت السياسة الرسمية، في إخفاء آثار جرائم الحرب التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد أطفال ونساء وشيوخ غزة ورجالها خلال حرب الإبادة التي يشنها على الشعب الفلسطيني منذ سنة وثمانية أشهر.
كان لافتًا أن العميدة التي صدر باسمها قرار المنع المذكور هي سيدة عربية تحمل درجة بروفيسور، سبق أن سُوِّق قرار تعيينها في هذا المنصب على أنه إنجاز على طريق تحقيق المساواة الموهومة والتمثيل المزعوم في مؤسسات الدولة، وهي السياسة التي يتكشّف بؤسها مرة تلو أخرى وتنجلي عن محاولات فاشلة لاحتواء وترويض النخب الفلسطينية.
الشرطة الإسرائيلية سبق أن منعت نشطاء إسرائيليين ضد الحرب من رفع صور أطفال ورضّع من غزة سقطوا في حرب الإبادة الإسرائيلية على القطاع، كما منعت استعمال مصطلح “حرب إبادة”، ومن المفارقة أن يأتي قرار جامعة حيفا بعد تراجع الشرطة الإسرائيلية عن اشتراطها سالف الذكر، وأن يأتي ممهورًا بتوقيع عربي.
ومن الطبيعي أن يلفت التوقيع المذكور الأنظار حتى يكاد يصرفها عن القضية الأساس المتمثلة بقيام مؤسسة أكاديمية بحظر رفع صور ضحايا الحرب من الأطفال في غزة، وأن تتواطأ في إخفاء وحجب آثار الجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها جيش الاحتلال عن عيون العالم.
الباحث في علاقات الجيش بالمجتمع الإسرائيلي، يغيل ليفي، الذي التفت إلى الخوف الذي تثيره صور أطفال غزة الشهداء في أوساط المؤسسة الإسرائيلية، استعاد في مقال نشره في “هآرتس” قرارًا للمحكمة العليا كتبه القاضي السابق، إلياكيم روبنشتاين، في الالتماس الذي قدمته منظمة “بتسيلم” على رفض سلطة البث الإسرائيلية بث إعلان يتضمن أسماء أطفال غزة الذين سقطوا في عملية “الجرف الصامد” عام 2014 رغم أنه مدفوع الأجر.
روبنشتاين كتب في قرار رفض الالتماس أن قراءة أسماء أطفال غزة ضحايا الحرب له هدف سياسي واضح، وهو جعل الجمهور يضغط على الحكومة لوقف الحرب بسبب الخسائر بين السكان المدنيين والأولاد تحديدا، دون أن يكون استمرار الحرب محل خلاف سياسي، معززًا بمنعه قراءة أسماء أطفال غزة، كما يقول ليفي، من شرعية الحرب من خلال الكشف عن كُنه العلاقة بين تبيان الثمن الإنساني الذي يدفعه أطفال غزة وبين دعم الجمهور للحرب، وتحويله الثمن الإنساني إلى رسالة سياسية وليس إلى قيمة إنسانية خاصة بمنع المس بالأبرياء، وخاصة الأطفال.
وهكذا أخرجت العليا أطفال غزة من صف بني البشر، على حد تعبير ليفي، الذي أشار إلى سير شرطة إسرائيل وجامعة حيفا في التلم الذي حرثه روبنشتاين، بفارق أن الحديث يدور في الحرب الحالية عن 15 ألف طفل وليس عن 140 فقط.
ونزولًا عند ضرورة إحكام التعتيم على مشهد الإبادة الجارية في غزة، ما زالت إسرائيل تمنع منذ 19 شهرًا دخول أي صحافي أجنبي إلى قطاع غزة، إلا في حالات نادرة وباستدعاء من الجيش الإسرائيلي وخدمة لأهداف دعائية محددة.
هذا المنع لم يكن له سابقة لا في العراق ولا في أفغانستان ولا في أوكرانيا أو سورية أو غيرها من المناطق، فقد غطّى المراسلون الدوليون خلال عشرات السنين مناطق الحرب الخطرة حول العالم ونقلوا أحداثها بشكل مباشر، كما يقول ثلاثة من أعضاء إدارة اتحاد الصحافيين الأجانب العاملين في إسرائيل والأراضي الفلسطينية في مقال مشترك نُشر مؤخرًا.
جيريمي ديموند وجوزيف بدرمان وتانيا كريمر، يقولون في مقالهم إن النقل المباشر للأحداث من مصدرها الأول هو الطريق الأفضل التي نعرفها لإيصال الصورة الكاملة والأكثر دقة للحرب وتداعياتها، وهذا ما قادنا تحت نار إطلاق الصواريخ المتواصل إلى المستوطنات الإسرائيلية المهدومة الواقعة على طول الحدود مع غزة في الأيام والأسابيع الأولى لهجوم السابع من أكتوبر، حيث باركت في حينه إسرائيل هذه التغطية.
المحكمة العليا الإسرائيلية التي ستنظر في الأيام القريبة المقبلة في التماس المراسلين الدوليين المطالب برفع الحظر المفروض على الصحافيين الأجانب من الدخول إلى غزة، كانت قد رفضت التماسًا سابقًا بهذا الخصوص في 23 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، علمًا أنه من المريب هذا التلكؤ الطويل في التوجه مجددًا إلى المحكمة الإسرائيلية أو إلى جهات دولية أخرى خلال كل تلك الفترة الممتدة لأكثر من سنة ونصف، ما يجعلها (الصحافة العالمية) شريكة في مؤامرة الصمت على حرب الإبادة الجارية في غزة، والتي هي من الأبشع في العصر الحديث.