إسرائيل… توسع في النفوذ العسكري مقابل تآكل في شرعيتها الدولية

إسرائيل… توسع في النفوذ العسكري مقابل تآكل في شرعيتها الدولية
الباحث عازر دكور: هناك مد كبير لصالح الحق الفلسطيني، لكن القضية هي كيف تترجم المد القائم على مستوى القواعد السياسية إلى قدرة تأثير على المستوى السياسي، والانتقال إلى التأثير على مواقع اتخاذ القرار.
في “مشهد العلاقات الخارجية” المدرج تحت عنوان “التقرير الإستراتيجي” السنوي الذي يصدره “مدار – المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية”، وهو الفصل الذي كتبه الباحث عازر دكور، أشار التقرير إلى تداعيات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ومحور المقاومة، والتي أحدثت تناقضا بارزا بين انفلات القوة العسكرية الإسرائيلية على مستوى الشرق الأوسط، وفتحت أمام إسرائيل، من منظور العلاقات الخارجية الإسرائيلية، فرصا لفرض ترتيبات جديدة في شرق أوسط متحول، وتحجيم المسألة الفلسطينية.
فقد أدت العمليات الحربية الإسرائيلية خلال العام 2024 إلى تفكيك محور المقاومة، وإضعاف حزب الله، وسقوط نظام الأسد، كما احتلت إسرائيل مناطق في سورية، إضافة إلى تدمير قطاع غزة وتحويله إلى “مشكلة إنسانية” ذات أبعاد إقليمية ودولية تتراوح بين فكي التهجير وإمساك إسرائيل بمفتاح إعادة الإعمار، إلى جانب توسع ملحوظ في رقعة العمل الحربي الإسرائيلي، المتمثل في هجمات سلاح الجو على اليمن، والعراق، وسورية وإيران.
لكن من جهة أخرى، تزايد التآكل في مكانة إسرائيل الأخلاقية والقانونية – السياسية، إذ ازدادت عزلتها الدولية، وجرى اتهامها بارتكاب جرائم حرب، بالإضافة إلى صداماتها مع المجتمع الدولي والأمم المتحدة بشأن الممارسات المنتهكة للقانون الدولي وحل الدولتين (الذي لا يزال الحل الوحيد المقبول بنظر المجتمع الدولي والدول العربية)، ما أدى إلى تراكم قضايا ملحة تجعل من الصعب، من منظور العلاقات الخارجية الإسرائيلية، ترجمة “الإنجازات” العسكرية لإسرائيل بشكل تستطيع دول الجوار التعايش معه والمجتمع الدولي (عدا الولايات المتحدة وقلة قليلة من الدول) تقبله. كما أدى هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر وحرب الإبادة الإسرائيلية على القطاع، إلى “تجميد” مرحلي، بأقل تقدير، لانضمام السعودية إلى مشروع التطبيع.
ويجمل التقرير بعد تقديم استعراض تفصيلي لعلاقات إسرائيل الدولية والإقليمية بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر والحرب المتواصلة على غزة، وفي مقدمتها العلاقات الإسرائيلية الأميركية في ظل عودة ترامب وعلاقات إسرائيل بأوروبا، والاستثمار بأحزاب أقصى اليمين الأوروبي، وصولا إلى استعراض علاقات إسرائيل بروسيا والصين وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وانتهاءً بعلاقة إسرائيل مع المحيط العربي وتحول السلام البارد مع مصر والأردن إلى حرب باردة، ويجمل قائلا إن التحولات الكبرى في السياسة الخارجية الإسرائيلية تكشف عن تناقض جوهري بين “الإنجازات العسكرية” والانحسار الدبلوماسي، إذ وسعت إسرائيل نفوذها العسكري في الشرق الأوسط عبر اغتيالات وتوغلات في لبنان وسورية، وإعادة رسم خريطة تحالفاتها الإقليمية، لكنها في المقابل واجهت عزلة متزايدة، وضغوطا قانونية غير مسبوقة، وتآكل في صورتها الدولية.
ويخلص التقرير إلى أنه رغم استمرار الدعم الأميركي لإسرائيل، فإن الفجوة تتسع على المستوى الشعبي بين واشنطن وتل أبيب بسبب التوترات مع الديمقراطيين، وتحولات الرأي العام الأميركي تجاه الحرب، وإلى تعمق معضلة العلاقات الإسرائيلية مع الاتحاد الأوروبي بسبب الانقسام الأوروبي، إذ تباينت المواقف بين دعم إستراتيجي ومطالبات بفرض عقوبات، في حين تعرضت إسرائيل على المستوى القانوني لأكبر “ضربة” دبلوماسية في تاريخها، مع قرارات محكمة العدل الدولية، وإصدار مذكرات اعتقال بحق قادتها من المحكمة الجنائية الدولية.
ويشير التقرير إلى إضعاف هذه التطورات من شرعية إسرائيل الدولية، وأثرها على علاقاتها مع دول الجنوب العالمي، وقيام بعض الدول بفرض قيود على تصدير الأسلحة لها. وفي المستوى الإقليمي ورغم نجاح إسرائيل في فرض واقع جديد في سورية ولبنان، فإن الحرب على غزة زادت من تعقيد علاقاتها مع الدول العربية، خصوصا الأردن ومصر، إذ تصاعدت المخاوف من التهجير القسري، كذلك تعرضت اتفاقيات أبراهام لنكسة بعد تجميد مسار التطبيع السعودي، رغم استمرار العلاقات مع الإمارات والمغرب.
وبهذا الصدد، حاور “عرب 48” الباحث عازر دكور لإلقاء المزيد من الضوء حول الموضوع.
“عرب 48”: أشرت إلى معادلة متناقضة خلقتها الحرب على غزة وعلى محور المقاومة، فمن ناحية حققت إنجازات عسكرية مكنتها من فرض ترتيبات جديدة في المنطقة وتحجيم المسألة الفلسطينية، ومن ناحية أخرى تزايد في تآكل مكانتها السياسية والأخلاقية وتعاظم عزلتها الدولية؟

دكور: من الواضح أنه برغم الإنجازات العسكرية التي حققتها إسرائيل في الحرب، وأهمها تفكيك محور المقاومة وتدمير قطاع غزة وتحويله إلى “مشكلة إنسانية”، فإنها تلقت ضربة كبيرة على مستوى الرأي العام وتضررت سمعتها ومكانتها بشكل كبير على مستوى العالم، فالناس الذين لم يكن موقفهم واضحا من القضية الفلسطينية، خصوصا في أميركا وأوروبا، اتخذوا موقفا وهذا ليس بالشيء البسيط.
تنظر إلى استطلاعات الرأي في ألمانيا على سبيل المثال، والتي كانت بالنسبة لها إسرائيل مسألة دينية لا تخضع لنقاش عقلاني، فتجد هبوطا حادا في نسبة تأييد إسرائيل من 65% في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 إلى 35% في أيار/ مايو 2024، ما يعني هبوطا بنسبة 30% خلال ستة أشهر فقط، في حين أن نسبة المعارضين لإسرائيل ارتفعت من 31% إلى 61%، وهذا يعني حدوث تحول كامل في الرأي العام.
من جهة ثانية، إسرائيل فعلت كل ما بنت عليه خلال السنوات الطويلة السابقة، حيث كانت تشتغل لسنوات طويلة على النخب العالمية في كل المناحي، فقد فعلت قدراتها هناك بشكل كبير في المستوى السياسي ومستوى النخب، ومع التحولات العقائدية والسياسية والأيديولوجية في الغرب استطاعت أن تموضع الصراع كصراع حضارات وتستوعب وتجذب اليمين الصاعد إلى جانبها بشكل كبير.
هذا علما أن العديد من جيوب اليمين الجديد في أميركا وأوروبا كان غير داعم لإسرائيل، وكانت ترى أن إسرائيل تورطها في أمور لا تقع ضمن أولوياتها التي تتمحور في القضايا الاقتصادية والمشاكل الاجتماعية. وكما هو معروف، فإن اليمين عاد إلى الحكم في العديد من الدول، وحدث هناك تحول في النخب اليمينية، وإسرائيل استغلت الموضوع بشكل كبير.
“عرب 48”: لكن رغم التحولات المذكورة وصعود اليمين والاستثمار السياسي الإسرائيلي على هذا الصعيد، فإن الحرب أحدثت تحولات كبيرة في الرأي العام لصالح الفلسطينيين؟
دكور: صحيح، هناك مد كبير لصالح الحق الفلسطيني، لكن القضية هي كيف تترجم المد القائم على مستوى القواعد السياسية إلى قدرة تأثير على المستوى السياسي، والانتقال إلى التأثير على مواقع اتخاذ القرار.
إذا أخذنا إسبانيا مثالا، فالائتلاف الحاكم المُمثل بالحزب الاشتراكي الديمقراطي أساسا، لا نستطيع أن نتوقع منه أكثر من اللازم، بالرغم من أنهم يساريون أكثر من غيرهم، متحفظون تاريخيا على سياسات الولايات المتحدة وخطوات إسرائيل. والتيار الأكثر يسارية عندهم موقفه حازم تجاه إسرائيل، لكنهم لا يستطيعون التحرك لأنهم في النهاية ليسوا جزءا من مجموعة، حيث لا يوجد دول أخرى تستطيع أن تقف معهم في هذا الموقف، ولذلك هم محاصرون، حاولوا مع إيرلندا التأثير على موقف الاتحاد الأوروبي، لكنهم لم ينجحوا. في بلجيكا تغير موقف الحكومة 180 درجة بعد الانتخابات.
“عرب 48”: يبدو أيضا أن الحكومة الإسرائيلية بتركيبتها الحالية لا تحسب أي حساب للرأي العام العالمي، طالما كان الموقف الأميركي منحازا لإسرائيل؟
دكور: التحول الحاصل اليوم أساسا في مشهد السياسة الخارجية الإسرائيلية يكمن أساسا في أنها لم تعد تحسب حسابات عقلانية براغماتية، وترى كيف تقوم بعملية مراكمة لمصالحها، بل أصبحت تراهن مراهنات أيديولوجية على تكتلات سياسية معينة في دول بعينها.
صاروا يراهنون على هذه التكتلات ويدفعوا بكل قوتهم بأن يفوز اليمين مقابل الوسط، وهو ما لم يكن قائما في السابق، إذ كانوا دائما يحسبونها في رؤية مصالحهم تسري على أي توليفة سياسية مقبلة. اليوم هم يستعدون اليسار وحتى الوسط ويؤيدون اليمين بشكل واضح. أنظر إلى عملية “التأديب” التي قاموا بها لماكرون وكيف نجحوا في ترويضه.
هذا تحول أساسي يتعلق بمفاضلة سياسات الدول الخارجية على العلاقة العقلانية البراغماتية التي تصب في المنطق القديم، الذي كان يرى أن المصلحة العامة الإسرائيلية هي مسايرة أي تيار يتسلم الحكم.
هم يسمونها حربا ثقافية، لكنها ليست حربا ثقافية، بل هي حرب سياسية سؤالها الرئيسي هو سؤال حضاري يتعلق بشكل الحضارة الغربية التي يجب أن تسود، هل هو الشكل الليبرالي أم الشكل المحافظ اليميني الذي يمثل نقيض القيم الليبرالية.
“عرب 48”: لكن مسألة عدم قدرة الرأي العام على التأثير على سياسات المنظومات الحاكمة كان بارزا بشكل فظ، وأظهرت الديمقراطية الغربية وكأنها وسيلة ناجعة لاحتواء الرأي العام المعارض وليست آلية للتأثير على السياسات؟
دكور: حركة الاحتجاج نمت وتعاظمت بشكل كبير ولكن احتويت، على سبيل المثال في دولة مثل بلجيكا حجم المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين والمنددة بالحرب على غزة وصل إلى أعداد غير مسبوقة، حيث فاق عدد المتظاهرين في إحدى مظاهرات بروكسل الأعداد المتوقعة بكثير، مما اضطر الشرطة إلى فتح مسالك إضافية لم تكن مشمولة مسبقا على أهم شارع في العاصمة، وأدت المظاهرة إلى إغلاق شوارع رئيسية لساعات طويلة.
لكن الديمقراطية الغربية تعاملت مع حرية التعبير كحق قانوني وليس كآلية تأثير على صناع القرار، ولم تنصت (الحكومات) لرأي الشارع وواصلت سياساتها المؤيدة لإسرائيل من دون أي اعتبار للرأي العام، وهو ما خلق الانطباع الذي تحدثت عنه.
“عرب 48”: هل لوجود اليمين في الحكم تأثير على عدم أخذ الرأي العام بعين الاعتبار، نحن نلمس ذلك من تجربة إسرائيل ذاتها؟
دكور: اليمين شعبوي، وحتى في قواعد اليمين يوجد تيار كبير ضد إسرائيل، ولكن عند اتخاذ القرارات المركزية لا يتم أخذها بعين الاعتبار، فنحن ندرك تأثير اللوبيات الصهيونية على الحكومات الأوروبية وداخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي. رأينا كيف حاصروا الممثل الأعلى السابق للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والأمنية، جوزيب بوريل، حتى أن الموظفين الكبار في الاتحاد الأوروبي كانوا يعدون تقارير مضادة لموقفه، وبقيت الأداة الوحيدة بيده هي حسابه على منصة “إكس” (تويتر سابقا) الخاص به.
“عرب 48”: الغرب جازف بسقوط كل القيم الغربية المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان والقانون الدولي على مذبح دعم إسرائيل؟
دكور: عندما صدر الرأي الاستشاري عن المحكمة الدولية في مسألة الاحتلال، كتب كبير المستشارين القانونيين في الاتحاد الأوروبي أن هذا الرأي غير ملزم للاتحاد، والتناقض الهائل برز في اختلاف التعامل مع مسألة أوكرانيا وفلسطين، هنا برز الكيل بمكيالين بشكل واضح.
بوريل كان الصوت الذي حاول أن ينذر من تداعيات سياسة الكيل بمكيالين وحاول القول إن الإمعان فيها يعني تدمير كل منظومة القيم والقوانين الدولية التي وضعها الغرب وما زال يحاول تعميمها وفرضها على العالم، بما يعنيه من انهيار للرمزية وتحويل أوروبا والغرب إلى محل سخرية لدى الجنوب العالمي.
“عرب 48”: ما هو مستقبل التحولات التي أحدثتها الحرب في اتجاهات الرأي العام؟
دكور: أعتقد أن هذه الحراكات في طريقها لأن تتمأسس تدريجيا إلى لوبيات. هناك أشخاص كانوا مؤثرين ولهم مراكز ومناصب في هذه الدول، وتحزبوا وصاروا داعمين. نحن نتحدث عن رؤوس أموال نحن بحاجة إليها لمأسسة هذه الحراكات وتحويلها إلى لوبيات، وإلى دعم اللوبيات الفلسطينية القائمة.
هذا نشاط يحتاج إلى مثابرة وعمل جدي للتغلغل داخل الأحزاب المختلفة على شتى أشكالها وألوانها، وتطوير آليات عمل مقابل الوزارات. والسؤال يتعلق بجدية هذا العمل، وخصوصا أن النظير الإسرائيلي متطور بشكل هائل.
هناك فرصة مواتية فالعالم مستعد لسماعنا، ويجب أن نترجم ذلك بالسرعة الممكنة وبالشكل المطلوب، لأن إهدار الفرصة سيجعل كل هذا الجهد المتراكم يذهب سدى.
* عازر دكور: زميل بحث ما بعد الدكتوراة في كلية اللاهوت ودراسة الديانات في جامعة لوفن (KU Leuven) ببلجيكا، ومُركّز فريق عمل “مجموعة فلسطين للتفكير الإستراتيجي (PSG)”. أنجز مؤخرا أطروحة الدكتوراة في الفكر السياسي والاجتماعي بجامعة كِنت (University of Kent) في بريطانيا.




