جايمس غراي: قطّعوا الرأسمالية بالشوكة والسكين!

جايمس غراي: قطّعوا الرأسمالية بالشوكة والسكين!
أيامٌ تفصلنا عن منح «مهرجان كان» جائزة «السعفة الذهبية» لأفضل فيلمٍ روائيّ لهذا العام. وبينما ننتظر هذه المنافسة المرتقبة، ارتأت منصة «Brut» الفرنسية إشعال فتيل الحماسة باكراً.
على مواقع التواصل الاجتماعي، أعادت Brut نشر مقطع فيديو للمخرج الأميركيّ جايمس غراي (1969)، يعود إلى عام 2022 عندما كان مشاركاً في المهرجان نفسه، وقد ألقى آنذاك خطاباً مقذعاً طاول النظام الرأسماليّ الذي حوّل العالم بأسره إلى سوقٍ مفتوحٍ لا ينضب، وغدا هذا السوق بمنزلة إلهٍ مقدّس.
ماذا حدث للعالم؟
جايمس غراي يشعر بالحنق. السؤال الذي يؤرّقه: «ماذا حدث للعالم؟ كيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه؟» يصبو إلى معضلة العصر. يعي هذا المخرج أنّ الرأسمالية سيرورةٌ هائجةٌ لا تقف عند أيّ عتبة، بل تدلف إلى المجالات كافةً، ومن بينها السينما.
ما يشهده الفنّ السابع من وفرةٍ في الأفلام الرديئة، وإنتاجٍ فنيّ هابطٍ، وكثرة المخرجين العديمي الموهبة، مرتبط بأوليغارشيا تسيطر على العالم، تحتكر الإنتاج، وتتعاطى مع الفنّ بوصفه سلعةً.
نحن في الكارثة
«نحن في الكارثة» يقول غراي. لقد هيمنت النزعة الاستهلاكية على السينما التي أضحت شيئاً تجارياً فاقداً لقيمةٍ غير ربحيّة. هناك وصفةٌ جاهزةٌ لصناعة الفيلم السينمائيّ؛ على الفيلم أن يكون معلباً كما يحلو لشركات الإنتاج تعليبه، فعرضُه في الصالات وجني الأرباح الطائلة من ورائه.
بات التعامل مع الفيلم أشبه بالتعامل مع وجبةٍ من بيرغر كينغ أو ماكدونالدز. لقد وصلنا إلى هذه الكارثة بفضل سيادة المنطق التجاري واستباحة الموهبة، وبالأحرى تهميشها. لكننا في السينما، يقول غراي، التي تتعرّض لغزوٍ رأسماليّ يهدّد أصالتها ومعناها، فيتساءل: «أين هو نقد الرأسمالية في السينما؟»
دعا إلى تثوير السينما، والتعاطي معها كحيّز يدور فيه الصراع الطبقي
الرأسمالية علّة العلل
الخطاب الذي ألقاه غراي، وأعادت Brut نشره، صيحةٌ عاليةُ النبرة داخل معملٍ جلفٍ يحتقر الفنّ، وقد حوّل (مشاهدة) الأفلام إلى مجرد فرجةٍ مسلّيةٍ، لكن باهتةٍ، لقصصٍ سريعةِ الهضم تنتهي فور دفع ثمن البطاقة.
عوضاً عن تشجيع مواهب الفنانين والاتّكاء على أساليبهم المائزة، صارت المعادلة الرائجة قائمةً على مَن يجعل صالات العرض «محجوزة» بسبب التهافت الجماهيريّ على وجبته السريعة.
يحثّ غراي الفنانين على تبيين الكارثة. إنّ الفنان اليوم هو الذي يدلي بالخلل القائم، ويواجه الفجوات الأخلاقية والفنيّة التي انبثقت عن الرأسمالية نفسها. إنّ العمل الفنيّ، بالنسبة إلى غراي، غير منفصل عن الموقف السياسيّ، ليس لأن الفن معجبٌ بالسياسة، بل لأن السياسة تشتهي التهام الفنّ. لذلك، على الفنان التحلّي بموقفٍ ينظر إلى الرأسمالية على أنها أنيابٌ مسنونةٌ جاهزةٌ لمضغه، فابتلاعه. أما من يختار السكوت على جوع الرأسمالية على الفنّ، فسيقع عرضة الغثيان.
دعوة إلى الثورة
لا يدعو غراي إلى تخليص السينما من أنياب الأوليغارشيا فقط، بل إنه بشكلٍ ما يحفّز الفنانين، الجيل الجديد منهم على وجه التحديد، على الثورة.
إنّ الدخول إلى السينما هو كالخروج إلى الشارع، أو المعمل، أو الجامعة، فالأبواب هنا لا تفصل الخارج عن الداخل، ذاك أنّ الرأسمالية تتفشى كجائحة لعينة في الأرجاء كافة.
الفيلم الجيد، أو الفيلم بلام التعريف، هو ذاك العمل الفني الذي يضع الرأسمالية على الطاولة ويقطّعها بالشوكة والسكين. دعوة غراي إلى تثوير السينما، والتعاطي معها كحيّز يدور فيه الصراع الطبقي، تذكرنا بجان لوك غودار وبفريقه السينمائيّ «دزيغا فيرتروف»: عندما كانت كلمة «السينما» ترعب الرأسماليين وتطيح بسلطة الصورة المهيمنة (تبدأ الثورة من الصورة). أراد غراي المزيد من التصفيق بعد إلقائه خطابه، لم يعلم هذا المخرج أنّ خطابه هذا، سيحوز بعد ثلاثة أعوام على تصفيق تعجز أذناه عن تحمّل سماعه.